الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المبحث الأول

            أسباب ودوافع هجرة الكفاءات العلمية

            يطلق مصطلح هجرة الكفاءات ويراد به: نزوح حملة الشهادات الجامعية العلمية والتقنية والفنية، كالأطباء والعلماء والمهندسين والتكنولوجيين والباحثين، ويشمل أيضا علماء الاقتصاد والرياضيات والاجتماع وعلم النفس والتربية والتعليم والآداب والفنون والزراعة والكيمياء والجيولوجيا وجميع أصحاب المهارات والمواهب، مما يعني أن مفهوم الكفاءة لا يعني فقط أصحاب الشهادات الجامعية بل أيضا أصحاب المؤهلات والخبرات على اختلاف أنواعها [1] .

            تعد مسألة هجرة العقول المتميزة من بلدانها الأصلية إلى بلدان المهجر ظاهرة عالمية وليست حالة مقصورة على العلماء العرب والمسلمين فقط، فهناك هجرة للعقول المتميزة من الهند وباكستان والصين واليابان والعديد من الدول النامية في كل من آسيا وأفريقيا، بحيث يكون اتجاهها بشكل ملحوظ إلى الدول الصناعية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية. [ ص: 173 ]

            والمتابع لحياة الأمة خلال القرن الماضي "القرن العشرين" وبالذات خلال النصف الثاني منه يجد أنه قد شهد هجرة أعداد ليست بالقليلة من أبناء المسلمين إلى الدول الغربية تحت وطأة دوافع متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية حتى وصل عدد المهاجرين من العرب والمسلمين إلى الملايين في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمنظومة الأوربية الغربية عموما، فقد أوضح تقرير منظمة الهجرة الدولية لعام 2005م أن حجم الهجرة الدولية بصفة عامة بلغ ( 64.6 ) مليون نسمة في عام 2000م

            [2] ، وكان من بين تلك الملايين كفاءات وعقول آثرت أن تهاجر طلبا للرزق أو رغبة في التطوير أو فرارا من الواقع المرير.

            هذه الأعداد الهائلة التي خرجت من العلماء والمفكرين العرب والمسلمين في مختلف تخصصاتهم، اتجهوا إلى بلاد الغرب بفعل النقلة الحضارية التي حصلت لتلك البلاد، حيث استقروا هناك للعمل والإقامة، فذهبوا يضيفون إلى تقدم الغرب تقدما ورفاهية، تاركين مجتمعاتهم الأصلية وبلدانهم التي هي بأمس الحاجة إليهم، حتى ضاعت هوية بعض منهم، وأصبح من البديهي أن الأجيال التالية من أبنائهم وأحفادهم سوف يذوبون في تيار الحضارة الغربية الجارف. [ ص: 174 ]

            وقد أثبت الواقع المعـاصر أنه مـتى ما يتم اكتشـاف كفاءة عربية أو مسلمة شاب أو فتاة في الجامعات والمراكز العلمية العربية والإسلامية، حتى يتم العمل على ابتعاثه إلى جامعة عالمية لتنمية إمكاناته العلمية والحصول على درجة علمية متقدمة، ومع مرور الأيام يزداد ارتباطه بواقعه الجديد أرض المهجر عندما يلحظ اهتماما متزايدا بفكره وطروحاته حتى يتخذ قراره بعدم العودة إلى بلده الأصلي، ويفضل البقاء والاستمرار في المجتمع الغربي، الأمر الذي يفوت على الأمة فرصة الإفادة من إمكانية أبنائها وتطلعاتهم الفكرية والعلمية في خدمة مجتمعاتهم وبلدانهم الأصلية، وبذلك تقدم الأمة هدية مجانية للأمم الأخرى، وتساهم بقصد وبدون قصد في توسيع الفجوة العلمية بينها وبين الآخر.

            - أرقام وإحصاءات مخيفة:

            تعتبر ظاهرة هجرة الكفاءات من أهم العوامل المؤثرة على المجال الاقتصادي للبلدان الأصلية وعلى التركيبة السكانية والقوى البشرية لتلك الدول، خاصة بعد تزايد أعداد المهاجرين من الكوادر العلمية المتخصصة، مما أدى أن ينعكس ذلك سلبا على خطط التنمية العلمية والاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي

            [3] . وبالعودة إلى التقارير الصادرة من الجهات [ ص: 175 ] المعنية بهذا الأمر يتضح لنا حجم الأرقام المذهلة والمخيفة المرتبطة بهجرة العقول والأدمغة العربية والمسلمة، فقد أشارت تقارير صادرة عن الجامعة العربية ومؤسسة العمل العربية ومنظمة الأمم المتحدة إلى أن المجتمعات العربية والإسلامية أصبحت بيئة طاردة للكفاءات العلمية، حيث تشير الدراسات المتخصصة إلى جملة من المعطيات مفادها أن ما يزيد عن "100.000" مائة ألف من المختصين والمهنيين وعلى رأسهم العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء يهاجرون كل عام من ثمانية أقطار عربية هي لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر، وأن 70% من هؤلاء العلماء الذين يسافرون للدول الرأسمالية للتخصص لا يعودون إلى بلدانهم، وأن 50% من الأطباء، و23% من المهندسين، و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا، إذ يساهم الوطن العربي في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية خاصة، وأن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، ونتيجة لذلك يشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا نحو 34% من مجموع الأطباء العاملين فيها [4] .

            وتشير تلك التقارير إلى أن مصر وحدها قدمت في السنوات الأخيرة 60% من العلماء العرب والمهندسين إلى الدول الغربية في حين كان إسهام [ ص: 176 ] كل من العراق ولبنان 15%، وشهدت العراق ما بين ( 1991-1998م ) هجرة (7350) عالما تركوا بلادهم نتيجة الأحداث السياسية والأمنية وبسبب الحصار الدولي الذي كان مفروضا على العراق، وتشير هذه التقارير إلى عمل عدد كبير من العقول العربية في اختصاصات حساسة في بلاد الغرب مثل: الجراحات الدقيقة، والطب والهندسة النووية وعلوم الليزر، وعلوم الفضاء وغيرها من الاختصاصات عالية التقنية، وتشير دراسة أعدتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة إلى وجود ( 4102 ) عالم إسلامي في مختلف علوم المعرفة في مؤسسات ومراكز أبحاث غربية [5] .

            وفي تقرير آخر أعدته الجامعة العربية بدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان في حزيران 2009م يتضح أن فرنسا تستقبل 40% من العقول العربية المهاجرة، وأن أمـيركا 23%، وكندا 10%، وتشير دراسات أخرى للجامعة العربية أن الوطن العربي يسهم بنحو 31% من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية

            [6] ، ويذكر التقرير أن الكفاءات العربية المهاجرة إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي تفوق أعداد المهاجرين إليها من الصين والهند. [ ص: 177 ]

            ويشير تقرير آخر حول العمالة العربية المهاجرة أعدته مؤسسة العمل العربية أن عدد حملة الشهادات العليا فقط من العرب المهاجرين إلى أمريكا وأوروبا يبلغ 450 ألف عربي، ما يعني أن الولايات المتحدة ودول المنظمة الغربية الأوربية توفر مليارات الدولارات نتيجة هجرة الكفاءات والمهارات إليها، حيث لم تبذل تلك الدول أي تكلفة اقتصادية ومالية في تدريب وتعليم تلك العقول والكفاءات، في الوقت الذي تتحمل الدول الأصلية كلفة تنشئتها وتدريبها وتعليمها، ونتيجـة لذلك يصب إنتاج هذه الكفاءات في خدمة البلدان المتقدمة وإثراء عمليات التطور ودفع مسيرة التقدم والتنمية فيها، في الوقت الذي تخسر الأوطان الأصلية ما تنفقه عليهم، وتخسر فرصة التقدم العلمي والتنمية الاقتصادية الموازية التي كان بالإمكان أن تسـهم تلك الكفـاءات والخبرات العلمية في إيجادها وتطويرها

            [7] . وذكر تقرير صادر عن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة أن الهند تخسر حوالي (2) ملياري دولار سنويا نتيجة لهجرة المهنيين من ذوي الخبرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية

            [8] .

            نشير هنا إلى أن العقول والكفاءات الإسلامية تمثل أضخم هجرة قادمة من دول الجنوب إلى دول الشمال، فقد أثبتت الإحصاءات أنه في فرنسا [ ص: 178 ] مثلا يشكل الطلبة المهاجرون من أصل بلدان المغرب العربي أكثر من نصف مجموع الطلبة الأجانب، وتستوعب مؤسسات الغرب البحثية حوالي70% من الباحثين ذوي الأصول الجنوبية [9] .

            ويتوقع أن يكون أغلب الباحثين الفيزيائيين والمهندسين المستقرين في ديار الغرب في المستقبل القريب من أصل مناطق الجنوب، وإن كان قد بدأ الاهتمام في السنوات الأخيرة يتجه نحو تشجيع تبادل الخبرات بين الدول الأوربية نفسها بعد دخولها تجربة وحدتها الاقتصادية والنقدية، وبعد التنسيق العلمي في مجال الدراسات الجامعية والمؤسسات التعليمية الأخرى، حيث يتم الآن الاستفادة من الخبرات والكفاءات العلمية القادمة من دول أوربا الشرقية بعد توسيع مجموعة الاتحاد الأوربي.

            وإذا أردنا تحديد الأسباب والدوافع التي تقف وراء هجرة الكفاءات والخبرات فإن أغلب الدراسات التي اهتمت بهذا الموضوع تجمع على أن هذه الهجرة هي نتيجة لتشابك جملة من الأسباب والدوافع والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولذلك سنقوم بتوزيع تلك الأسباب إلى أسباب اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وهو ما سنتعرض له بشيء من التفصيل في المحور التالي من هذه الدراسة. [ ص: 179 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية