الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا

                                                                                                                                                                                                                                        (59) لما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء ..... المخلصون المتبعون لمراضي ربهم المنيبون إليه، ذكر من أتى بعدهم، وبدلوا ما أمروا به، وأنه خلف من بعدهم خلف رجعوا إلى الخلف والوراء، فـ أضاعوا الصلاة التي أمروا بالمحافظة عليها وإقامتها، فتهاونوا بها وضيعوها، وإذا ضيعوا الصلاة - التي هي عماد الدين، وميزان الإيمان والإخلاص لرب العالمين، التي هي آكد الأعمال، وأفضل الخصال - كانوا لما سواها من دينهم أضيع، وله أرفض، والسبب الداعي لذلك أنهم اتبعوا شهوات أنفسهم وإراداتها، فصارت هممهم منصرفة إليها، مقدمة لها على حقوق الله، فنشأ من ذلك التضييع لحقوقه، والإقبال على شهوات أنفسهم، مهما لاحت لهم حصلوها، وعلى أي وجه اتفقت تناولوها. فسوف يلقون غيا ؛ أي: عذابا مضاعفا شديدا. (60) ثم استثنى تعالى فقال: إلا من تاب عن الشرك والبدع والمعاصي، [ ص: 1006 ] فأقلع عنها وندم عليها، وعزم عزما جازما أن لا يعاودها، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل صالحا وهو العمل الذي شرعه الله على ألسنة رسله، إذا قصد به وجهه، فأولئك الذين جمعوا بين التوبة والإيمان والعمل الصالح، يدخلون الجنة : المشتملة على النعيم المقيم، والعيش السليم، وجوار الرب الكريم، ولا يظلمون شيئا من أعمالهم، بل يجدونها كاملة، موفرة أجورها، مضاعفا عددها.

                                                                                                                                                                                                                                        (61) ثم ذكر أن الجنة التي وعدهم بدخولها ليست كسائر الجنات، وإنما هي جنات عدن ؛ أي: جنات إقامة، لا ظعن فيها، ولا حول ولا زوال ، وذلك لسعتها، وكثرة ما فيها من الخيرات والسرور، والبهجة والحبور. التي وعد الرحمن عباده بالغيب ؛ أي: التي وعدها الرحمن، أضافها إلى اسمه الرحمن ؛ لأن فيها من الرحمة والإحسان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وسماها تعالى رحمته، فقال: وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون وأيضا ففي إضافتها إلى رحمته ما يدل على استمرار سرورها، وأنها باقية ببقاء رحمته، التي هي أثرها وموجبها. والعباد في هذه الآية المراد: عباد إلهيته، الذين عبدوه، والتزموا شرائعه، فصارت العبودية وصفا لهم كقوله: وعباد الرحمن ونحوه، بخلاف عباده المماليك فقط، الذين لم يعبدوه، فهؤلاء وإن كانوا عبيدا لربوبيته - لأنه خلقهم ورزقهم ودبرهم - فليسوا داخلين في عبيد إلهيته، العبودية الاختيارية، التي يمدح صاحبها، وإنما عبوديتهم عبودية اضطرار، لا مدح لهم فيها.

                                                                                                                                                                                                                                        وقوله: بالغيب يحتمل أن تكون متعلقة بـ وعد الرحمن فيكون المعنى على هذا: أن الله وعدهم إياها وعدا غائبا، لم يشاهدوه ولم يروه فآمنوا بها، وصدقوا غيبها، وسعوا لها سعيها، مع أنهم لم يروها، فكيف لو رأوها، لكانوا أشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، وأكثر لها سعيا، ويكون في هذا مدح لهم بإيمانهم بالغيب، الذي هو الإيمان النافع. ويحتمل أن تكون متعلقة بـ عباده ؛ أي: الذين عبدوه في حال غيبهم وعدم رؤيتهم إياه، فهذه عبادتهم ولم يروه، فلو رأوه لكانوا أشد له عبادة، وأعظم إنابة، وأكثر حبا، وأجل شوقا. ويحتمل – أيضا - أن المعنى: هذه الجنات التي وعدها الرحمن عباده، من الأمور [ ص: 1007 ] التي لا تدركها الأوصاف، ولا يعلمها أحد إلا الله، ففيه من التشويق لها والوصف المجمل ما يهيج النفوس، ويزعج الساكن إلى طلبها، فيكون هذا مثل قوله: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون . والمعاني كلها صحيحة ثابتة، ولكن الاحتمال الأول أولى، بدليل قوله: إنه كان وعده مأتيا لا بد من وقوعه، فإنه لا يخلف الميعاد، وهو أصدق القائلين.

                                                                                                                                                                                                                                        (62) لا يسمعون فيها لغوا ؛ أي: كلاما لاغيا لا فائدة فيه، ولا ما يؤثم، فلا يسمعون فيها شتما، ولا عيبا، ولا قولا فيه معصية لله، أو قولا مكدرا، إلا سلاما ؛ أي: إلا الأقوال السالمة من كل عيب، من ذكر لله، وتحية، وكلام سرور وبشارة، ومطارحة الأحاديث الحسنة بين الإخوان، وسماع خطاب الرحمن، والأصوات الشجية من الحور والملائكة والولدان، والنغمات المطربة، والألفاظ الرخيمة؛ لأن الدار دار السلام، فليس فيها إلا السلام التام في جميع الوجوه. ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ؛ أي: أرزاقهم - من المآكل والمشارب، وأنواع اللذات - مستمرة حيثما طلبوا، وفي أي وقت رغبوا، ومن تمامها ولذاتها وحسنها أن تكون في أوقات معلومة بكرة وعشيا ؛ ليعظم وقعها ويتم نفعها. (63) فـ تلك الجنة التي وصفناها بما ذكر التي نورث من عبادنا من كان تقيا ؛ أي: نورثها المتقين، ونجعلها منزلهم الدائم، الذي لا يظعنون عنه، ولا يبغون عنه حولا، كما قال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية