الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ثبت بهذا البيان عما للكافرين بقسميهم من الشقاوة مع تمام القدرة شمول العلم المستلزمان للوحدانية ؛ أنتج قطعا إفراده بالعبادة الموجبة [ ص: 136 ] للسعادة المضمنة لإياك نعبد ، فوصل بذلك قوله مقبلا عليهم بعد الإعراض عنهم عند التقسيم إيذانا بأنهم صاروا بما تقدم من ضرب الأمثال وغيرها من حيز المتأهل للخطاب من غير واسطة تنشيطا لهم في عبادته وترغيبا وتحريكا إلى رفع أنفسهم بإقبال الملك الأعظم عن الخضوع لمن هو دونه بل دونهم وبشارة لمن أقبل عليه بعد أن كان معرضا عنه بدوام الترقية ، فيزال ما أشار إليه حرف النداء ، والتعبير عن المنادى من بقية البعد بالسهو والغفلة والإعراض بالتقصير في العبادة والاضطراب والذبذبة يا أيها الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي في تفسيره : " يا " تنبيه من يكون بمسمع من المنبه ليقبل على الخطاب ، وهو تنبيه في ذات نفس المخاطب ، ويفهم توسط البعد بين آيا الممدودة وأي المقصورة ، " أي " اسم مبهم ، مدلوله [ ص: 137 ] اختصاص ما وقع عليه من مقتضى اسم شامل ، " ها " كلمة مدلولها تنبيه على أمر يستفيده المنبه . انتهى . وأكد سبحانه الكلام بالإبهام والتنبيه والتوضيح بتعيين المقصود بالنداء تنبيها على أن ما يأتي بعده أمور مهمة يحق لها تشمير الذيول والقيام على ساق الجد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحرالي : اعلم أنه كما اشتمل على القرآن كله فاتحة الكتاب ، فكذلك أيضا جعل لكل سورة ترجمة جامعة تحتوي على جميع مثاني آيها ، وخاتمة تلتئم وتنتظم بترجمتها ، ولذلك تترجم السورة عدة سور ، وسيقع التنبيه على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى . واعلم مع ذلك أن كل نبيء منبأ - يقرأ بالهمز - من النبأ وهو الخبر ، فإنه شرع في دعوته وهو غير عالم بطية أمره وخبر قومه ، وأن الله عز وجل جعل نبيه محمدا [ ص: 138 ] صلى الله عليه وسلم نبيا منبيا - من النبوة - يقرأ بغير همز . ومعناه : رفعة القدر ، والعلو ، فمما أعلاه الله به أن قدم له بين يدي دعوته علم طية أمره ومكنون علمه تعالى في سر التقدير الذي لم يزل خبئا في كل كتاب ، فأعلمه بأنه تعالى جبل المدعوين الذين هم بصفة النوس مترددين بين الاستغراق في أحوال أنفسهم وبين مرجع إلى ذكر ربهم على ثلاثة أضرب : منهم من فطر على الإيمان ولم يطبع عليه أي على قلبه فهو مجيب ولا بد ، ومنهم من طبع على الكفر فهو آب ولا بد ، ومنهم من ردد بين طرفي الإيمان ظاهرا والكفر باطنا ، وإن كلا ميسر لما خلق له ؛ فكان بذلك انشراح صدره في حال دعوته وزال به ضيق صدره الذي شارك به الأنبياء - بالهمز - ، ثم علا بعد ذلك إلى مستحق رتبته العلية ، فكان أول ما افتتح له كتابه أن عرفه معنى ما تضمنته " الم " ثم فصل من ذلك ثلاثة أحوال المدعوين بهذا الكتاب ، وحينئذ شرع في تلقينه الدعوة العامة للناس ، فافتتح بعد ذلك الدعوة والنداء والدعوة [ ص: 139 ] إلى العبادة يعني بهذه الآية ، وتولى الله سبحانه دعوة الخلق في هذه الدعوة العامة التي هي جامعة لكل دعوة في القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ضمن صدرها من الوعيد في حق رسوله ؛ فلم يجر خطاب ذلك على لسانه ، ولما فيها من السطوة وخطاب الملك والجزاء ومحمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فلم ينبغ إجراؤها على لسانه لذلك ، وغيره من الرسل فعامة دعوة من خص الله سبحانه خبر دعوته فهي مجراة على ألسنتهم ، ولذلك كثرت مقاواة قومهم ومدعويهم لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أجرى الحق تعالى هذه الدعوة من قبله ؛ كان فيها بشرى بالغلبة وإظهار [ ص: 140 ] دينه ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقاويه خلقه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما انتهى إلى البشرى التي هي رحمة ؛ أجرى الكلام على مخاطبته عليه السلام بقوله : " وبشر " ، ومع إجراء دعوة المرسلين على ألسنتهم علقت باسم الله بلفظ " أن اعبدوا الله " ونحوه ، فعز على أكثر النفوس الإجابة لفوات اسم الله عن إدراك العقول ، ومع تولي الله سبحانه لهذه الدعوة بسلطانه العلي أجراها باسم الربوبية وهو اسم أقرب مثالا على النفوس ، لأنها تشاهد آياته بمعنى التربية والربابة ، ومع ذلك أيضا فذكر اسم الله في دعوة المرسلين غير متبع ولا موصوف بآيات الإلهية ، ولو ذكر لما قرب مثال علمها فهي [ ص: 141 ] كالشمس والقمر ونحو ذلك . وذكر تعالى الربوبية في هذه الدعوة متبعة بآياتها الظاهرة التي لا تفوت العقل والحس ولا يمكن إنكارها .

                                                                                                                                                                                                                                      ووجه بعد النفوس عن الانقياد عند الدعوة باسم الله : أن آيات الربوبية التي يسهل عليها الانقياد من جهتها التي بيسير منها تنقاد للملوك وأولي الإحسان ، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها تبقى عند الدعوة باسم الله بمعزل عن الشعور بإضافتها لاسم الله ويحار العقل في المتوجه له بالعبادة ، وتضيف النفوس الغافلة آيات الربوبية إلى ما تشاهده من أقرب الأسباب في العوائد ، كالفصول التي نيطت الموالد والأقوات بها في مقتضى حكمة الله سبحانه أو إلى أسباب هذه الأسباب كالنجوم ونحو ذلك ، فلا يلتئم للمدعو حال قوامه بعبادته فيكثر التوقف والإباء ، واقتضى اليسر الذي [ ص: 142 ] أراد الله بهذه الأمة ذكر الربوبية منوطا بآياتها . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت العبادة المختلة بشرك أو غيره ساقطة ، والازدياد من الصحيحة والاستمرار عليها عبادة جديدة يحسن الأمر بها ؛ خاطب الفريقين فقال : اعبدوا ربكم أي الذي لا رب لكم غيره عبادة هي بحيث يقبلها الغني . ثم وصفه بما أشارت إليه صفة الرب من الإحسان تنبيها على وجوده ووجوب العبادة له بوجوب شكر المنعم فقال : الذي خلقكم قال الحرالي : " الذي " اسم مبهم مدلوله ذات موصوف بوصف [ ص: 143 ] يعقب به وهي الصلة اللازمة له ، والخلق تقدير أمشاج ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة والذين من قبلكم القبل ما إذا عاد المتوجه إلى مبدأ وجهته أقبل عليه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين نتيجتها بقوله : لعلكم تتقون أي لتكون حالكم بعبادته لأنها كلها محاسن ولا حسن في غيرها ، حال من ترجى له التقوى ، وهي اجتناب القبيح من خوف الله ، وسيأتي في قوله : " لعلكم تشكرون " ما ينفع هنا . وقال الحرالي : لعل كلمة ترج لما تقدم سببه ، وبدأ من آيات الربوبية بذكر الخلق لأنه في ذواتهم ، ووصل ذلك بخلق من قبلهم حتى لا يستندوا بخلقهم إلى من قبلهم وترجى لهم التقوى لعبادتهم ربهم من حيث نظرهم إلى خلقهم وتقدير أمشاجهم ، لأنهم إذا أسندوا خلقهم لربهم كان أحق أن يسندوا إليه ثمرة ذلك من صفاتهم [ ص: 144 ] وأفعالهم فيتوقفون عن الاستغناء بأنفسهم فينشأ لهم . بذلك تقوى . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية