الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود هنا أن ما لا يستعان به على النفع الدائم فهو نفع يتعقبه، ومنه يسمى العبث واللعب باطلا، وإن كان العابث اللاعب فيه منفعته زائلة، لما فيه من اللذة الحاضرة، لكن هو باطل إذا لم يستعن به على الحق الذي يدوم نفعه. ولهذا قال تعالى: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ، وقال تعالى: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ، وقال تعالى: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون . [ ص: 49 ]

فإن الدنيا وإن كان فيها نوع لذة ومنفعة حاضرة فتلك زائلة منقطعة، فهي باطلة، والفعل لمثل ذلك من باب العبث واللعب، والله تبارك وتعالى منزه عن ذلك، إنما خلق هذا الذي ينقص ويزول لما يبقى ويدوم، والذي يبقى ويدوم هو الحق، والذي يزول وينقص قد فسد وهلك. ولهذا قيل في قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه : كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه. وفي الدعاء المأثور: "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم". وقد قال تعالى: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . فهو سبحانه وتعالى الباقي الدائم، وما كان به وله فهو الباقي الدائم، وما لم يكن له فهو باطل فاسد هالك، لا يبقى ولا يدوم.

قالوا لمالك بن أنس رحمه الله تعالى: إن فلانا عمل موطأ مثل موطأك، فقال: وطأوا ووطأنا، وما كان لله عز وجل فهو يبقى .

ولما استقر في الفطر أن كل عمل لا يبقى نفعه فهو عبث ولعب وباطل، صار كل من الناس يسمي ما لا يبقى نفعه بالنسبة إلى ما يبقى عبثا وباطلا ولعبا وباطلا، فالصبيان إذا لعبوا سمى الرجال العقلاء فعلهم لعبا وباطلا وعبثا، وإن كان للصبيان فيه لذة ومنفعة حاضرة، لكنها لا تدوم وتبقى، بل إذا فرغوا من اللعب احتاجوا إلى أمور لا [ ص: 50 ] تحصل باللعب. فكان من اشتغل بما يحصل له قوتا وكسبا ونحو ذلك من المقاصد عندهم صاحب جد وحق، ليس بصاحب لعب وباطل، فإن هذا يبقى ويدوم وينفع أعظم من ذاك; ومن كان عنده أن الجاه والرئاسة والسلطان والملك أنفع وأبقى من المال، كان عنده من اشتغل بتحصيل المال وأعرض عن ذلك صاحب لعب وباطل بالنسبة إلى مطلوبه ومقصوده، فإن المال لا ينتفع به صاحبه إلا إذا أخرجه وأنفقه، فمنفعته في إذهابه، بخلاف الجاه، فإنه كلما قوي وحصل كان الانتفاع به أكثر، وصاحبه يمكنه أن يحصل به من المال ما لا يمكن صاحب المال أن يحصل به من الجاه، فلهذا كان هذا أعقل وأكيس وأبعد عن اللعب والباطل من ذاك.

التالي السابق


الخدمات العلمية