الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (256) قوله تعالى: لا إكراه في الدين : كقوله: "لا ريب فيه" وقد تقدم. والجمهور على إدغام دال "قد" في تاء "تبين" لأنها من مخرجها. ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام. قال الزجاج: "لا تنسبوا إلى الكراهة من أسلم مكرها". يقال: "أكفره" نسبه إلى الكفر، قال:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 547 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1040 - وطائفة قد أكفروني بحبهم وطائفة قالوا مسيء ومذنب

                                                                                                                                                                                                                                      [وأل في "الدين" للعهد، وقيل: عوض من الإضافة أي "في دين الله"].

                                                                                                                                                                                                                                      والرشد: مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمها. وقرأ الحسن "الرشد" [بضمتين كالعنق، فيجوز أن يكون هذا أصله، ويجوز أن يكون إتباعا، وهي مسألة خلاف أعني ضم عين الفعل. وقرأ أبو عبد الرحمن] الرشد بفتح الفاء والعين، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها، وروي عن أبي عبد الرحمن أيضا: "الرشاد" بالألف.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من الغي" متعلق بتبين، و "من" للفصل والتمييز كقولك: ميزت هذا من ذاك. وقال أبو البقاء: "في موضع نصب على أنه مفعول" وليس بظاهر لأن معنى كونه مفعولا به غير لائق بهذا المحل. ولا محل لهذه الجملة من الإعراب، لأنها استئناف جار مجرى التعليل لعدم الإكراه في الدين. والغي: مصدر غوى بفتح العين قال: "فغوى"، ويقال: "غوى الفصيل" إذا بشم وإذا جاع أيضا، فهو من الأضداد. وأصل الغي: "غوي" فاجتمعت الياء والواو، فأدغمت نحو: ميت وبابه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بالطاغوت" متعلق بـ "يكفر"، والطاغوت بناء مبالغة كالجبروت والملكوت. واختلف فيه، فقيل: هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان، وهذا مذهب الفارسي، وقيل: هو اسم [ ص: 548 ] جنس مفرد، فلذلك لزم الإفراد والتذكير، وهذا مذهب سيبويه. وقيل هو جمع، وهذا مذهب المبرد، وهو مؤنث بدليل قوله تعالى: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها". واشتقاقه من طغى يطغى، أو من طغا يطغو، على حسب ما تقدم أول السورة؟ هل هو من ذوات الواو أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التقديرين فأصله طغيوت أو طغووت لقولهم "طغيان" في معناه، فقلبت الكلمة بأن قدمت اللام وأخرت العين، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا، فوزنه الآن فلعوت، وقيل: تاؤه ليست زائدة، وإنما هي بدل من لام الكلمة، ووزنه فاعول. قال مكي: "وقد يجوز أن يكون أصل لامه واوا فيكون أصله طغووتا لأنه يقال: طغى يطغى ويطغو، وطغيت وطغوت، ومثله في القلب والاعتلال والوزن: حانوت، لأنه من حنا يحنو وأصله حنووت، ثم قلب وأعل، ولا يجوز أن يكون من: حان يحين لقولهم في الجمع حوانيت" انتهى. كأنه لما رأى أن الواو قد تبدل تاء كما في تجاه وتخمة وتراث وتكأة، ادعى قلب الواو التي هي لام تاء، وهذا ليس بشيء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان بالله اهتماما بوجوب الكفر بالطاغوت، وناسبه اتصاله بلفظ "الغي".

                                                                                                                                                                                                                                      والعروة: موضع شد الأيدي، وأصل المادة يدل على التعلق، ومنه: عروته: ألممت به متعلقا، واعتراه الهم: تعلق به. والوثقى: فعلى للتفضيل تأنيث الأوثق، كفضلى تأنيث الأفضل، وجمعها على وثق نحو: كبرى وكبر، فأما "وثق" بضمتين فجمع وثيق.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 549 ] قوله: "لا انفصام لها" كقوله: "لا ريب فيه" والجملة فيها ثلاثة أوجه، أحدهما: أن تكون استئنافا فلا محل لها حينئذ. والثاني: أنها حال من العروة، والعامل فيها "استمسك". والثالث: أنها حال من الضمير المستتر في "الوثقى". و "لها" في موضع الخبر فتتعلق بمحذوف أي: كائن لها. والانفصام - بالفاء - القطع من غير بينونة، والقصم بالقاف قطع ببينونة، وقد يستعمل ما بالفاء مكان ما بالقاف.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية