الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها [ ص: 1189 ] الأنهار ويجعل لك قصورا بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا

                                                                                                                                                                                                                                        (7) هذا من مقالة المكذبين للرسول الذين قدحوا بها في رسالته، وهو أنهم اعترضوا بأنه هلا كان ملكا أو ملكا، أو يساعده ملك فقالوا: مال هذا الرسول أي: ما لهذا الذي ادعى الرسالة؟ تهكما منهم واستهزاء يأكل الطعام وهذا من خصائص البشر، فهلا كان ملكا لا يأكل الطعام، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر، ويمشي في الأسواق للبيع والشراء وهذا – بزعمهم - لا يليق بمن يكون رسولا، مع أن الله قال: وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق لولا أنزل إليه ملك أي: هلا أنزل معه ملك يساعده ويعاونه، فيكون معه نذيرا وبزعمهم أنه غير كاف للرسالة ولا بطوقه وقدرته القيام بها.

                                                                                                                                                                                                                                        (8) أو يلقى إليه كنز أي: مال مجموع من غير تعب، أو تكون له جنة يأكل منها فيستغني بذلك عن مشيه في الأسواق لطلب الرزق، وقال الظالمون حملهم على القول ظلمهم لا اشتباه منهم، إن تتبعون إلا رجلا مسحورا هذا وقد علموا كمال عقله وحسن حديثه وسلامته من جميع المطاعن. (90) ولما كانت هذه الأقوال منهم عجيبة جدا قال تعالى: انظر كيف ضربوا لك الأمثال وهي: أنه هلا كان ملكا وزالت عنه خصائص البشر؟ أو معه ملك لأنه غير قادر على ما قال، أو أنزل عليه كنز أو جعلت له جنة تغنيه عن المشي في الأسواق أو أنه كان مسحورا فضلوا فلا يستطيعون سبيلا قالوا أقوالا متناقضة، كلها جهل وضلال وسفه، ليس في شيء منها هداية، بل ولا في شيء منها أدنى شبهة تقدح في الرسالة، فبمجرد النظر إليها وتصورها يجزم العاقل ببطلانها، ويكفيه عن ردها، ولهذا أمر تعالى بالنظر إليها وتدبرها والنظر: هل توجب التوقف عن الجزم للرسول بالرسالة والصدق؟! (10) ولهذا أخبر أنه قادر على أن يعطيك خيرا كثيرا في الدنيا فقال: تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك أي: خيرا مما قالوا، ثم فسره بقوله: [ ص: 1190 ] جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا مرتفعة مزخرفة، فقدرته ومشيئته لا تقصر عن ذلك، ولكنه تعالى - لما كانت الدنيا عنده في غاية البعد والحقارة - أعطى منها أولياءه ورسله ما اقتضته حكمته منها، واقتراح أعدائهم بأنهم هلا رزقوا منها رزقا كثيرا جدا ظلم وجراءة.

                                                                                                                                                                                                                                        (11) ولما كانت تلك الأقوال التي قالوها معلومة الفساد أخبر تعالى أنها لم تصدر منهم لطلب الحق ولا لاتباع البرهان، وإنما صدرت منهم تعنتا وظلما وتكذيبا بالحق، فقالوا ما بقلوبهم من ذلك، ولهذا قال: بل كذبوا بالساعة والمكذب المتعنت الذي ليس له قصد في اتباع الحق، لا سبيل إلى هدايته ولا حيلة في مجادلته، وإنما له حيلة واحدة وهي نزول العذاب به، فلهذا قال: وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا أي: نارا عظيمة قد اشتد سعيرها، وتغيظت على أهلها واشتد زفيرها.

                                                                                                                                                                                                                                        (12) إذا رأتهم من مكان بعيد أي: قبل وصولهم ووصولها إليهم، سمعوا لها تغيظا عليهم وزفيرا تقلق منهم الأفئدة وتتصدع القلوب، ويكاد الواحد منهم يموت خوفا منها وذعرا، قد غضبت عليهم لغضب خالقها، وقد زاد لهبها لزيادة كفرهم وشرهم.

                                                                                                                                                                                                                                        (13) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين أي: وقت عذابهم وهم في وسطها جمع في مكان، بين ضيق المكان وتزاحم السكان وتقرينهم بالسلاسل والأغلال، فإذا وصلوا لذلك المكان النحس وحبسوا في أشر حبس دعوا هنالك ثبورا دعوا على أنفسهم بالثبور والخزي والفضيحة، وعلموا أنهم ظالمون معتدون، قد عدل فيهم الخالق حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل، وليس ذلك الدعاء والاستغاثة بنافعة لهم ولا مغنية من عذاب الله، بل يقال لهم: لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا أي: لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه ما أفادكم إلا الهم والغم والحزن.

                                                                                                                                                                                                                                        لما بين جزاء الظالمين ناسب أن يذكر جزاء المتقين فقال:

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية