الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1456 [ ص: 206 ] 24 - باب القضاء في عمارة الموات

                                                                                                                        1423 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحيا أرضا ميتة فهي له ، وليس لعرق ظالم حق .

                                                                                                                        [ ص: 207 ] قال مالك : والعرق الظالم كل ما احتقر أو أخذ أو غرس بغير حق .

                                                                                                                        1424 - مالك عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ; أن عمر بن الخطاب قال : من أحيا أرضا ميتة فهي له .

                                                                                                                        قال مالك : وعلى ذلك الأمر عندنا .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        32456 - قال أبو عمر : لم يختلف على مالك في إرسال هذا الحديث عن هشام عن أبيه وقد اختلف فيه على هشام ، فروته طائفة ، كما رواه مالك مرسلا ، وهو أصح ما فيه إن شاء الله عز وجل وروته طائفة عن هشام ، عن وهب بن [ ص: 208 ] كيسان ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه آخرون ، عن هشام عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع ، عن جابر ، ومنهم من يقول فيه : عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع ، اضطربوا فيه على هشام كثيرا ، وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد ، وأتينا باختلاف ألفاظ الناقلين له ، ذلك ، والحمد لله كثيرا .

                                                                                                                        32457 - وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن هشام بن عروة ، قال : خاصم رجل إلى عمر بن عبد العزيز في أرض حازها ، فقال عمر : من أحيا من ميت الأرض شيئا ، فهو له ، فقال له عروة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحيا شيئا من ميت الأرض فهو له ، وليس لعرق ظالم حق .

                                                                                                                        قال عروة : قال : والعرق الظالم أن ينطلق الرجل إلى أرض غيره ، فيغرسها .

                                                                                                                        32458 - أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن أبي بكر ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني هناد بن السري ، قال : حدثني عبدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحيا أرضا ميتة ، فهي له ، وليس لعرق ظالم حق .

                                                                                                                        قال عروة : ولقد حدثني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر ، فقضى لصاحب الأرض بأرضه ، [ ص: 209 ] وأمر صاحب النخل بأن يخرج نخله منها .

                                                                                                                        قال فلقد رأيتها ، وإنها لتضرب أصولها بالفئوس ، وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها .

                                                                                                                        32459 - وحدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال : حدثني أبو داود ، قال : حدثني أحمد بن عبدة الآملي ، قال : حدثني عبد الله بن عثمان ، قال : حدثني ابن المبارك ، قال : أخبرنا نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عروة ، قال : أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الأرض أرض الله ، والعباد عباد الله ، ومن أحيا مواتا ، فهو أحق به ، جاءنا بهذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين جاءوا بالصلوات عنه .

                                                                                                                        32460 - قال أبو عمر : رواية يحيى بن عروة ، عن عروة ، ورواية ابن أبي مليكة ، عن عروة يقضيان على أن من روى هذا الحديث مرسلا كما رواه مالك أصح من رواية من أسنده ، والله أعلم ، ويشهد ذلك أيضا اختلاف الذين أسندوه في إسناده .

                                                                                                                        32461 - وقد رواه عمرو بن عوف المزني ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إلا أنه من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ، عن أبيه ، عن جده ، وكثير متروك [ ص: 210 ] الحديث .

                                                                                                                        والحديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تلقاه العلماء بالقبول .

                                                                                                                        32462 - ولم يختلفوا أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ليس لعرق ظالم حق أنه الغرس في أرض غيرك .

                                                                                                                        32463 - على هذا خرج اللفظ المقصود به إلى هذا المعنى ، وكل ما كان مثله ، فله حكمه ، وكذلك فسره عروة وهشام ، ومالك .

                                                                                                                        32464 - وقال ابن وهب ; أخبرني مالك ، قال : قال هشام : العرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره ; ليستحقها بذلك .

                                                                                                                        32465 - قال مالك : والعرق الظالم كل ما أخذ ، واحتكر ، واغترس في غير حق .

                                                                                                                        32466 - وأما قوله : من أحيا أرضا ميتة فالميتة البور الشامخ من الشعواء وما كان مثلها .

                                                                                                                        32467 - وإحياؤها أن يعمل حتى تعود أرضا بيضاء تصلح أن تكون مزروعة بعد حالها الأول ، فإن غرسها بعد ذلك ، أو زرعها ، فهو أبلغ في إحيائها .

                                                                                                                        32468 - وهو ما لا خلاف فيه ، فاختلف في التحجير عليها بالحيطان ، هل يكون ذلك إحياء لها أم لا ؟

                                                                                                                        [ ص: 211 ] 32469 - قال ابن القاسم : لا يعرف مالك التحجير إحياء ، ولا ما روي من حجر أرضا ، وتركها ثلاث سنين ، فإن أحياها ، وإلا فهي لمن أحياها . لا يعرفمالك ذلك ، وإنما الإحياء عنده في ميت الأرض : شق الأنهار ، وحفر الآبار والعيون ، وغرس الشجر ، والحرث .

                                                                                                                        32470 - وقال أشهب : لو نزل قوم أرضا من أرض البرية ، فجعلوا يزرعون ما حولها ، فذلك إحياء لها ، وهم أحق بها من غيرهم ما أقاموا عليها .

                                                                                                                        32471 - قال أبو عمر : هذا كله إنما هو في الموات الذي لا يعرف له مالك باكتساب ، أو ميراث ، وأما ما عرف له مالك باكتساب ، أو ميراث ، فليس من الموات الذي يعرف يكون لمن أحياه .

                                                                                                                        32472 - وقد قال : من أحيا أرضا ، ثم تركها حتى دثرت ، وطال زمانها ، وهلكت الأشجار ، وتهدمت الآبار ، وعادت كأول مرة ، ثم أحياها غيره ، فهي لمحييها الثاني ، بخلاف ما يملكه بخطه أو شراء .

                                                                                                                        32473 - وقال الشافعي : بلاد المسلمين شيئان : عامر وموات ، فالعامر لأهله ، وكذلك كل ما يصلح به العامر من قناء وطريق ، وسبل ماء وغيره ، فهو كالعامر في أن لا يملك على أهله إلا بإذنهم .

                                                                                                                        32474 - قال : والموات شيئان :

                                                                                                                        32475 - موات قد كان عامرا لأهله ، معروفا في الإسلام ، ثم ذهبت عنه عمارته ، فصارت مواتا ، فذلك كالعامر هو لأهله أبدا ، لا يملك عليهم إلا بإذنهم .

                                                                                                                        [ ص: 212 ] 32476 - والموات الثاني : ما لم يملكه أحد في الإسلام ، ولا عمر في الجاهلية عمارة ورثته في الإسلام ، فذلك الموات الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحيا أرضا ميتة ، فهي له ، ومن أحيا مواتا ، فهو له .

                                                                                                                        32477 - قال الشافعي : والإحياء ما عرفه الناس إحياء لمثل المحيا إن كان مسكنا فأن يبني بناء مثله أو ما يقرب منه .

                                                                                                                        32478 - قال : وأقل عمارة الأرض الزرع فيها ، وحفر البئر ، ونحو ذلك .

                                                                                                                        32479 - قال : ومن اقتطع أرضا ، وجحدها ولم يعمرها ، رأيت للسلطان أن يقول له : إن أحييتها ، وإلا خلينا بينها وبين من يحييها ، فإن تأجله رأيت أن يفعل .

                                                                                                                        32480 - قال : فإذا أحيا الأرض بما تحيى به ملكها ملكا صحيحا لم تخرج عنه أبدا ، ولا عن ورثته بعده إلا بما تخرج به الأملاك عن أربابها .

                                                                                                                        32481 - وأما أبو حنيفة فمذهبه أن كل الأرض يملكها مسلم ، أو ذمي ، لا يزول ملكها عنها بخرابها ، وكل ما قرب من العمران فليس بموات ، وما بعد منه فلم يملك قبل ذلك فهو موات .

                                                                                                                        32482 - وهذا كله قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد .

                                                                                                                        32483 - وذكر أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن الموات هو الذي إذا [ ص: 213 ] وقف رجل على أدناه من العامر ، فنادى بأعلى صوته ، لم يسمعه من في أقرب العامر إليه .

                                                                                                                        32484 - واختلفوا هل يحتاج في إحياء الموات إلى إذن الإمام ، أم لا يصح الإحياء للموات إلا بإقطاع من الإمام ؟

                                                                                                                        32485 - فقال مالك : أما ما كان قريبا من العمران ، فلا يحاز ، ولا يعمر إلا بإذن الإمام ، وأما ما كان في الأرض ، فلك أن تحييه بغير إذن الإمام .

                                                                                                                        32486 - وقال أبو حنيفة : ليس لأحد أن يحيي مواتا من الأرض إلا بإذن الإمام ، ولا يملك منه شيئا إلا بتمليك الإمام له إياه .

                                                                                                                        32487 - قال أبو عمر : التمليك من الإمام هو إقطاعه لمن أقطعه إياه .

                                                                                                                        32488 - وقال أبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي : من أحيا مواتا من الأرض ، فقد ملكه ، أذن الإمام في ذلك أم لم يأذن .

                                                                                                                        32489 - قال الشافعي : وعطية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامة لكل من أحيا مواتا أثبت من عطية من بعده من سلطان ، أو غيره .

                                                                                                                        32490 - وهو قول أحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وداود ، وقولهم في هذا الباب كله نحو قول الشافعي .

                                                                                                                        32491 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : من ملكه الإمام مواتا ، فأحياه ، [ ص: 214 ] وأخرجه من الموات إلى العمران فيما بينه ، وبين ثلاث سنين ، ثم ملكه فيه ، وإن تركه ولم يعمره حتى مضت ثلاث سنين بطل إقطاع الإمام إياه ذلك ، وعاد إلى ما كان عليه قبل إقطاع الإمام ذلك .

                                                                                                                        32492 - قال أبو عمر : ليس عند مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، ومن ذكرنا معهما في ذلك حد ، وإنما هو اجتهاد الإمام يؤجله على حسب ما يراه ، فإن عمره ، وإلا يقطعه غيره ممن يعمره .

                                                                                                                        32493 - قال أبو عمر : ذهبت طائفة من التابعين ، ومن بعدهم إلى أن من حجر على موات ، فقد ملكه .

                                                                                                                        32494 - واحتجوا بما رواه شعبة وغيره عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحاط حائطا على أرض ، فهو له .

                                                                                                                        32495 - وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن عيينة ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : كان الناس يتحجرون على عهد عمر في الأرض التي ليست لأحد ، فقال عمر : من أحيا أرضا فهي له .

                                                                                                                        32496 - وهذا - والله أعلم - على أن التحجير غير الإحياء على ما قاله أكثر العلماء .

                                                                                                                        [ ص: 215 ] 32497 - وروى ابن عيينة عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع ناسا من جهينة ، أو مزينة أرضا ، فعطلوها ، فجاء قوم فعمروها ، فخاصمهم أصحاب الأرض إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال عمر : لو كانت قطيعة من أبي بكر ، أو مني ، لم أردها إليكم ، ولكنها قطيعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا نستطيع إلا أن أردها ، فردها إليهم ، ثم قال عمر : من أقطع أرضا ، فعطلها صاحبها ثلاث سنين ، ثم أحياها غيره ، فهو أحق بها .




                                                                                                                        الخدمات العلمية