الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ثم وقت وجوب الكفارة في اليمين المعقودة على المستقبل هو وقت وجود الحنث فلا يجب إلا بعد الحنث عند عامة العلماء .

                                                                                                                                وقال قوم وقته وقت وجود اليمين فتجب الكفارة بعقد اليمين من غير حنث واحتجوا بقوله - تعالى - { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } وقوله - عز وجل - { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقوله - عز وجل - { فكفارته } أي كفارة ما عقدتم من الأيمان لأن الإضافة تستدعي مضافا إليه سابقا ولم يسبق غير ذلك العقد فيصرف إليه وكذا في قوله { ذلك كفارة أيمانكم } أضاف الكفارة إلى اليمين وعلى ذلك تنسب الكفارة إلى اليمين فيقال كفارة اليمين ، والإضافة تدل على السببية في الأصل وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليأت الذي هو خير } والاستدلال بالحديث من وجهين أحدهما : أنه أمر بالتكفير بعد اليمين قبل الحنث ومطلق الأمر يحمل على الوجوب ، والثاني أنه قال عليه الصلاة والسلام فليكفر عن يمينه أضاف التكفير إلى اليمين فكذا في الرواية الأخرى { فليأت الذي هو خير وليكفر يمينه } أمر بتكفير اليمين لا بتكفير الحنث فدل أن الكفارة لليمين ولأن الله تعالى نهى عن الوعد إلا بالاستثناء بقوله عز وجل { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } .

                                                                                                                                ومعلوم أن ذلك النهي في اليمين أوكد وأشد ممن حلف على شيء بلا ثنيا فقد صار عاصيا بإتيان ما نهي عنه فتجب الكفارة لدفع ذلك الإثم عنه .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الواجب كفارة والكفارة تكون للسيئات إذ من البعيد تكفير الحسنات ، فالسيئات تكفر بالحسنات .

                                                                                                                                قال الله - سبحانه وتعالى - { إن الحسنات يذهبن السيئات } وعقد اليمين مشروع قد أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير موضع وكذا الرسل المتقدمة - عليهم الصلاة والسلام - قال الله تعالى خبرا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال { وتالله لأكيدن أصنامكم } .

                                                                                                                                وقال خبرا عن أولاد يعقوب - عليهم الصلاة والسلام أنهم { قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف } وكذا أيوب عليه الصلاة والسلام كان حلف أن يضرب امرأته فأمره الله - سبحانه وتعالى - بالوفاء بقوله تعالى { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام معصومون عن [ ص: 19 ] الكبائر والمعاصي فدل أن نفس اليمين ليست بذنب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { إذا حلفتم فاحلفوا بالله } .

                                                                                                                                وقال صلى الله عليه وسلم { لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر } أمر صلى الله عليه وسلم باليمين بالله - تعالى - فدل أن نفس اليمين ليس بذنب فلا يجب التكفير لها وإنما يجب للحنث ; لأنه هو المأثم في الحقيقة ومعنى الذنب فيه أنه كان عاهد الله أن يفعل كذا ، فالحنث يخرج مخرج نقض العهد منه فيأثم بالنقض لا بالعهد ولذلك قال الله تعالى { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم } الآية ولأن عقد اليمين يخرج مخرج التعظيم والتبجيل لله تعالى وجعله مفزعا إليه ومأمنا عنه فيمتنع أن تجب الكفارة محوا له وسترا وتبين بطلان قولهم إن الحالف يصير عاصيا بترك الاستثناء في اليمين لأن الأنبياء - صلوات الله عليهم - تركوا الاستثناء في اليمين ولم يجز وصفهم بالمعصية فدل أن ترك الاستثناء في اليمين ليس بحرام وإن كان تركه في مطلق الوعد منهيا عنه كراهة وذلك - والله - عز - وجل - أعلم - لوجهين أحدهما أن الوعد إضافة الفعل إلى نفسه بأن يقول أفعل غدا كذا وكل فعل يفعله تحت مشيئة الله تعالى فإن فعله لا يتحقق لأحد إلا بعد تحقيق الله تعالى منه ، ولا يتحقق منه الاكتساب لذلك إلا بإقداره فيندب إلى قران الاستثناء بالوعد ليوفق على ذلك ويعصم عن الترك وفي اليمين يذكر الاستشهاد باسم الله تعالى على طريق التعظيم ، قد استغاث بالله تعالى وإليه فزع فيتحقق التعظيم الذي يحصل به الاستثناء وزيادة فلا معنى للاستثناء الثاني أن اليمين شرعت لتأكيد المحلوف عليه خصوصا في البيعة ، وقران الاستثناء في مثل ذلك يبطل المعنى الذي وضع له العقد ، بخلاف الوعد المطلق .

                                                                                                                                وأما الآية الكريمة فتأويلها من وجهين أحدهما أي يؤاخذكم الله بمحافظة ما عقدتم من الأيمان والوفاء بها كقوله عز وجل { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } فإن تركتم ذلك فكفارته كذا وكذلك قوله { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } فتركتم المحافظة ألا ترى أنه قال - عز وجل - { واحفظوا أيمانكم } والمحافظة تكون بالبر والثاني أن يكون على إضمار الحنث أي ولكن يؤاخذكم بحنثكم فيما عقدتم وكذا في قوله : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } أي إذا حلفتم وحنثتم كما في قوله { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } معناه فحلف ففدية من صيام وقوله عز وجل { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } معناه فتحلل ، وقوله - عز وجل - { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } أي فأفطر فعدة من أيام أخر لأن ظاهر الملفوظ وهو القدر الذي هو سبب التخفيف لا يصلح سببا للوجوب فصار استعمال الرخصة مضمرا فيه ، كذلك ههنا لا تصلح اليمين التي هي تعظيم الرب - جل جلاله - سببا لوجوب التكفير فيجب إضمار ما هو صالح وهو الحنث وأما إضافة الكفارة إلى اليمين فليست للوجوب بها بل على إرادة الحنث كإضافة كفارة الفطر إلى الصيام وإضافة الدم إلى الحج - والسجود إلى السهو وإن لم يكن ما أضيف إليه سببا كذا هذا وأما الحديث فقد روي بروايات : روي { فليأت الذي هو خير وليكفر يمينه } وروي { فليكفر يمينه وليأت الذي هو خير } وروي { فليأت الذي هو خير ثم ليكفر يمينه } وهو على الروايات كلها حجة عليهم لا لهم لأن الكفارة لو كانت واجبة بنفس اليمين لقال عليه الصلاة والسلام من حلف على يمين فليكفر من غير التعرض لما وقع عليه اليمين أنه ماذا ولما لزم الحنث إذا كان خيرا ثم بالتكفير فلما خص اليمين على ما كان الحنث خيرا من البر بالنقض والكفارة علم أنها تختص بالحنث دون اليمين نفسها وأنها لا تجب بعقد اليمين دون الحنث ، واختلف في جوازها قبل الحنث قال أصحابنا : لا يجوز .

                                                                                                                                وقال الشافعي : يجوز التكفير بالمال قبل الحنث ، .

                                                                                                                                فأما التكفير بالصوم فلا يجوز قبل الحنث بالإجماع وجه قوله : إنه كفر بعد وجود سبب الوجوب فيجوز كما لو كفر بالمال بعد الجرح قبل الموت والدليل على أنه كفر بعد وجود سبب الوجوب أن اليمين سبب وجوب الكفارة بدليل أن الكفارة تضاف إلى اليمين يقال كفارة اليمين .

                                                                                                                                وقال الله تعالى { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } والحكم إنما يضاف إلى سببه هو الأصل فدل أن اليمين سبب لوجوب الكفارة فكان هذا تكفيرا بعد وجود سبب الوجوب فيجوز كما في موضع الإجماع والدليل على جواز التكفير بالمال قبل الحنث ما روي أن رسول الله [ ص: 20 ] صلى الله عليه وسلم كفر قبل الحنث وذلك أنه لما رأى حمزة رضي الله عنه - سيد الشهداء - قد مثل وجرح جراحات عظيمة اشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقسم أن يفعل كذلك بكذا كذا من قريش فنزل النهي عن الوفاء بذلك وكفر عن يمينه وذلك تكفير قبل الحنث لأن الحنث في مثل هذه اليمين لا يتحقق إلا في الوقت الذي لا يحتمل البر فيه حقيقة وذلك عند موته فدل على جواز التكفير للأمة قبل الحنث إذ هو صلى الله عليه وسلم قدوة ولنا أن السبب ما يكون مفضيا إلى المسبب إذ هو في اللغة اسم لما يتوصل به إلى الشيء ، واليمين مانعة من الحنث لكون الحنث خلفا في الوعد ونقضا للعهد وقد قال الله تعالى { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } ولكونه استخفافا باسم الله تعالى من حيث الصورة ، وكل ذلك مانع من الحنث فكانت اليمين مانعة من الحنث فكانت مانعة من الوجوب إذ الوجوب شرط الحنث بلا خلاف بيننا فكيف يكون سببا للوجوب ؟ ، ولهذا لم يجز تعجيل التكفير بالصوم كذا بالمال بخلاف التكفير بعد الجرح قبل الموت لأن الجرح سبب للموت لكونه مفضيا إلى فوات الحياة عادة فكان تكفيرا بعد وجود السبب فجاز وأما إضافة الكفارة إلى اليمين فعلى إضمار الحنث فيكون الحنث بعد اليمين سببا لا قبله والحنث يكون سببا والدليل عليه أنه سماه كفارته لقوله - عز وجل - { ذلك كفارة أيمانكم } وهي اسم لما يكفر بالذنب ولا ذنب إلا ذنب الحنث فكان المراد منه إذا حلفتم وحنثتم كما يقرأ ابن مسعود رضي الله عنه فإن قيل الكفارة تجب بنفس اليمين أصل الوجوب لكن يجب أداؤها عند الحنث كالزكاة تجب عند وجود النصاب ، لكن يجب الأداء عند الحول ، وقوله صلى الله عليه وسلم { لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول } لنفي وجوب الأداء لا لنفي أصل الوجوب ، فالجواب أنه لا وجوب إلا وجوب الفعل ، .

                                                                                                                                فأما وجوب غير الفعل فأمر لا يعقل على ما عرف في موضعه على أنه لو كان كذلك لجاز التكفير بالصوم ; لأنه صام بعد الوجوب فعلم أن الوجوب غير ثابت أصلا ورأسا ، فإن قيل : يجوز أن يسمى كفارة قبل وجوبها كما يسمى ما يعجل من المال زكاة قبل الحول وكما يسمى المعجل كفارة بعد الجراحة قبل الموت فلا حاجة إلى الحنث في جوازها ، فالجواب أنه لا خلاف في أن الكفارة الحقيقية وهي الكفارة الواجبة بعد الحنث مرادة بالآية فامتنع أن يراد بها ما يسمى كفارة مجازا لعرضية الوجوب لاستحالة كون اللفظ الواحد منتظما الحقيقة والمجاز .

                                                                                                                                وأما تكفير النبي صلى الله عليه وسلم فنقول ذلك في المعنى كان تكفيرا بعد الحنث لأنه تكفير بعد العجز عن تحصيل البر فيكون تكفيرا بعد الحنث من حيث المعنى كمن حلف لآتين البصرة فمات يلزمه الكفارة لتحقق العجز بالموت وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن المعصية والوفاء بتلك اليمين معصية إذ هو نهي عن ذلك فكانت يمينه قبل النهي عن الذي حلف عليه فكانت منعقدة على فعل مباح ولما نهي صلى الله عليه وسلم عن تحصيل ذلك الفعل وصار ذلك معصية صار إنشاء وعاجزا عن البر فصار حانثا وإن كان ذلك الفعل ممكن الوجود في نفسه فكان وقت يأسه وقت النهي لا وقت الموت أما في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم وقت اليأس والعجز حقيقة هو وقت الموت إذ غير النبي صلى الله عليه وسلم غير معصوم عن المعاصي فلا يتحقق العجز لتصور وجود البر مع وصف العصيان فهو الفرق - والله - عز وجل - أعلم - .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية