الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 344 - 349 ] ( ولا يجوز للولي إجبار البكر البالغة على النكاح ) خلافا للشافعي رحمه الله ، له الاعتبار بالصغيرة وهذا ; لأنها جاهلة بأمر النكاح لعدم التجربة ولهذا يقبض الأب صداقها بغير أمرها . [ ص: 350 ] ولنا أنها حرة مخاطبة فلا يكون للغير عليها ولاية الإجبار والولاية على الصغيرة لقصور عقلها وقد كمل بالبلوغ بدليل توجه الخطاب فصار كالغلام ، والتصرف في المال وإنما يملك الأب قبض الصداق برضاها دلالة ، ولهذا لا يملك مع نهيها .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        أحاديث إجبار البكر البالغ : قال أصحابنا : ليس للولي إجبار البكر البالغة على النكاح ، وخالفهم الشافعي ، وأحمد . لأصحابنا حديث : أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأحمد في " مسنده " [ ص: 350 ] عن حسين ثنا جرير عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس : { أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم }انتهى . وحسين بن محمد المروزي أحد الثقات المخرج لهم في " الصحيحين " ، ورواه البيهقي ، وقال : أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب السختياني ، والمحفوظ عن أيوب عن عكرمة عن النبي مرسلا ; وقد رواه أبو داود عن محمد بن عبيد عن حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا ، وقد رواه ابن ماجه من حديث زيد بن حبان عن أيوب موصولا وزيد مختلف في توثيقه ، قال ابن أبي حاتم في " علله " سألت أبي عن حديث حسين ، فقال : هو خطأ ، إنما هو كما روى الثقات حماد بن زيد ، وابن علية عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل ، وهو الصحيح ، فقلت له : الوهم ممن ؟ فقال : ينبغي أن يكون من حسين ، فإنه لم يروه عن جرير بن حازم غيره انتهى .

                                                                                                        وقال في " التنقيح " : قال الخطيب البغدادي : قد رواه سليمان بن حرب عن جرير بن حازم أيضا ، كما رواه حسين ، فبرئت عهدته ، وزالت تبعته ; ثم رواه بإسناده ، قال : رواه أيوب بن سويد هكذا عن الثوري عن أيوب موصولا ، وكذلك رواه معمر بن سليمان عن زيد بن حبان عن أيوب انتهى .

                                                                                                        قال ابن القطان في كتابه : حديث ابن عباس هذا حديث صحيح ، قال : وليست هذه خنساء بنت خذام التي زوجها أبوها ، وهي ثيب ، فكرهته ، فرد عليه السلام نكاحه ; رواه البخاري ، فإن تلك ثيب ، وهذه بكر ، وهما ثنتان ، والدليل على أنهما ثنتان ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر ، وثيب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان }انتهى . قلت : أخرج النسائي في " سننه " حديث خنساء ، وفيه أنها كانت بكرا ، رواه عن [ ص: 351 ] عبد الله بن يزيد عن { خنساء ، قالت : أنكحني أبي وأنا كارهة ، وأنا بكر ، فشكوت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا تنكحها وهي كارهة ، }انتهى .

                                                                                                        قال عبد الحق في " أحكامه " : وقع في كتاب النسائي أنها كانت بكرا ، والصحيح أنها كانت ثيبا ، كما رواه البخاري انتهى .

                                                                                                        قال ابن القطان : وتزوجت خنساء بمن هويته ، وهو أبو لبابة بن عبد المنذر ، صرح به في " سنن ابن ماجه " ، فولدت له السائب بن أبي لبابة ، فأما الجارية البكر فهي غير الخنساء ، روى حديثها ابن عمر ، وابن عباس ، وجابر ، وعائشة ، عند أبي داود ، منها حديث ابن عباس انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه مسلم عن نافع بن جبير عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { البكر تستأمر في نفسها ، وإذنها صماتها }" انتهى . قال ابن الجوزي في " التحقيق " : إنما قال ذلك ليطيب قلبها .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه الدارقطني عن شعيب بن أبي إسحاق عن الأوزاعي عن عطاء عن جابر { أن رجلا زوج ابنته ، وهي بكر من غير أمرها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما ، }انتهى .

                                                                                                        قال الدارقطني : هذا وهم من شعيب ، والصحيح أنه مرسل ، وقال في " التنقيح " : وقال أبو علي الحافظ : لم يسمعه الأوزاعي من عطاء ، والحديث في الأصل مرسل لفظا ، إنما رواه الثقات عن الأوزاعي عن إبراهيم بن مرة عن عطاء عن النبي مرسل : وقد روي من أوجه أخرى ضعيفة عن أبي الزبير عن جابر .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه الدارقطني عن الوليد بن مسلم ، قال : قال ابن أبي ذئب : أخبرني نافع عن ابن عمر { أن رجلا زوج ابنته بكرا ، فكرهت ذلك ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها } ، وفي رواية أخرى ، قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتزع النساء من أزواجهن ثيبا وأبكارا بعد أن يزوجهن الآباء إذا كرهن ذلك }انتهى قال ابن الجوزي : لم يسمعه ابن أبي ذئب من نافع ، إنما سمعه من عمر بن حسين ، وسئل أحمد عن هذا الحديث ، فقال : باطل انتهى .

                                                                                                        وقال في " التنقيح " : سئل الدارقطني عن هذا الحديث ، فقال : يرويه [ ص: 352 ] صدقة بن عبد الله . والوليد بن مسلم عن ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن ابن عمر بلفظ آخر ، وبين فيه أن ابن أبي ذئب سمعه من نافع ، وأتى به بطوله على الصواب ، وكذلك رواه محمد بن إسحاق ، وعبد العزيز بن المطلب عن عمر . ومن قال فيه : عمر بن علي بن حسين فقد وهم ، وقد رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن نافع ، والصحيح عن ابن إسحاق عن عمر بن حسين عن نافع ، وفي هذه الأحاديث بيان أن التزويج كان من قدامة بن مظعون أخي عثمان بن مظعون لأبيه ، وهو عمها ، وهو أصح ممن قال : زوجها أبوها ; لأن ابن عمر كان إنما تزوجها بعد وفاة أبيها عثمان بن مظعون ، وهو خال ابن عمر انتهى كلامه .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه الدارقطني عن إسحاق بن إبراهيم ثنا عبد الملك الذماري عن سفيان عن هشام صاحب الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما ، وهما كارهتان ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحهما }انتهى .

                                                                                                        قال في " التنقيح " : إسحاق بن إبراهيم هذا ، هو ابن جوتي الطبري ، وهو ضعيف ، لكنه لم يتفرد به عن الذماري ، فقد رواه البيهقي من حديث أبي سلمة مسلم بن محمد بن عمار الصنعاني عن الذماري ; قال الدارقطني : وهم فيه الذماري عن الثوري ، والصواب عن يحيى عن المهاجر عن عكرمة مرسلا ، قال البيهقي : فهو في " جامع الثوري " ، كما ذكره الدارقطني مرسلا ، وكذلك رواه عامة أصحابه عنه ، وكذلك رواه غير الثوري عن هشام انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه النسائي ، وأحمد عن عبد الله بن بريدة عن عائشة ، قالت : { جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي من خسيسته ، قال : فجعل الأمر إليها ، فقالت : إني قد أجزت ما صنع أبي ، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء } ، قال البيهقي : هذا مرسل ، ابن بريدة ، لم يسمع من عائشة ، وإن صح ، فإنما جعل الأمر إليها لوضعها في غير كفء انتهى . [ ص: 353 ] قلت : هكذا رواه النسائي : حدثنا زياد بن أيوب عن علي بن غراب عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة ; ورواه ابن ماجه في " سننه " حدثنا هناد بن السري ثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن ابن بريدة عن أبيه ، قال : جاءت فتاة ، الحديث ، سواء ، وينظر مسند أحمد ; قال ابن الجوزي : وجمهور الأحاديث في ذلك محمول على أنه زوج من غير كفء وقولها : زوجني ابن أخيه ، يكون ابن عمها .

                                                                                                        أحاديث الخصوم : واحتج الشافعي ، وأحمد ، بما أخرجه مسلم في " صحيحه " عن نافع بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : { الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها }; قال ابن الجوزي في " التحقيق " . ووجه الدليل أنه قسم النساء قسمين : ثيبا ، وأبكارا ; ثم خص الثيب بأنها أحق من وليها ، مع أنها هي والبكر اجتمعا في ذهنه ، فلو أنها كالثيب في ترجح حقها على حق الولي ، لم يكن لإفراد الثيب بهذا معنى ، وصار هذا كقوله : في سائمة الغنم الزكاة ، فإن قالوا : قد رواه مسلم أيضا بلفظ : { الأيم أحق بنفسها }; والأيم : هي التي لا زوج لها ، بكرا كانت ، أو ثيبا ; قلنا : المراد بالأيم أيضا الثيب ; لأنه لما ذكر البكر ، علم أنه أراد الثيب ، إذ ليس قسم ثالث .

                                                                                                        قال في " التنقيح " : لا دلالة في هذا الحديث على أن البكر ليست أحق بنفسها ، إلا من جهة المفهوم ; والحنفية لا يقولون به ، ثم على تقدير القول به كما هو الصحيح لا حجة فيه على إجبار كل بكر ; لأن المفهوم لا عموم له ، فيمكن حمله على من هي دون البلوغ ; ثم إن هذا المفهوم قد خالفه منطوقه ، وهو قوله : والبكر تستأذن ، والاستئذان مناف للإجبار ، وإنما وقع التفريق في الحديث بين الثيب والبكر ; لأن الثيب تخطب إلى نفسها ، فتأمر الولي بتزويجها ، والبكر تخطب إلى وليها ، فيستأذنها ، ولهذا فرق بينهما ، في كون الثيب إذنها الكلام ، والبكر إذنها الصمات ; لأن البكر لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها ، لم تخطب إلى نفسها ، والثيب تخطب إلى نفسها ، لزوال حياء البكر عنها ، فتتكلم بالنكاح ، وتأمر وليها أن يزوجها ، فلم يقع التفريق في الحديث بين الثيب والبكر [ ص: 354 ] لأجل الإجبار ، وعدمه ، والله أعلم انتهى كلامه .

                                                                                                        أحاديث الخصوم : قال أصحابنا : يملك الولي إجبار الثيب الصغيرة على النكاح ، وخالفهم الشافعي ، وأحمد ، لهما حديث ابن عباس المتقدم مرفوعا : { الثيب أحق بنفسها من وليها }; رواه مسلم .

                                                                                                        وحديث أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا { لا تنكح الثيب حتى تستأمر } ، رواه مسلم .

                                                                                                        وحديث خنساء بنت خذام أن أباها زوجها وهي كارهة ، وكانت ثيبا . فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه انتهى . انفرد به البخاري .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه أبو داود ، والنسائي عن عبد الرزاق ثنا معمر عن صالح بن كيسان عن نافع بن جبير عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { ليس للولي مع الثيب أمر }" انتهى .

                                                                                                        ورواه الدارقطني وقال : لم يسمعه صالح من نافع ، إنما سمعه من عبد الله بن الفضل عنه ، اتفق على ذلك ابن إسحاق ، وسعيد بن سلمة عن صالح ، وكأن معمرا أخطأ فيه ; قال النيسابوري : والذي عندي أن معمرا أخطأ فيه ، قال النسائي : لعل صالح بن كيسان سمعه من عبد الله بن الفضل ، ثم رواه من طريق إسحاق عن صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل ، ورواه ابن حبان في " صحيحه " فقال : ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير بن مطعم ، ثم ذكره من رواية صالح عن نافع ، ولم يصنع شيئا ، قال صالح : إنما سمعته من [ ص: 355 ] عبد الله بن الفضل انتهى .




                                                                                                        الخدمات العلمية