الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 117 ]

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : لقائل أن يقول : ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح عن المطلق مشروط بعدم المسيس ، وليس كذلك ؛ فإنه لا جناح عليه أيضا بعد المسيس.

                                                                                                                                                                                                                                            وجوابه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الآية دالة على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقا، وهذا الإطلاق غير ثابت بعد المسيس؛ فإنه لا يحل الطلاق بعد المسيس في زمان الحيض، ولا في الطهر الذي جامعها فيه، فلما كان المذكور في الآية حل الطلاق على الإطلاق، وحل الطلاق على الإطلاق لا يثبت إلا بشرط عدم المسيس، صح ظاهر اللفظ.

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في الجواب قال بعضهم : إن (ما) في قوله : ( ما لم تمسوهن ) بمعنى (الذي) والتقدير : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن، إلا أن (ما) اسم جامد لا ينصرف، ولا يبين فيه الإعراب ولا العدد، وعلى هذا التقدير لا يكون لفظ (ما) شرطا، فزال السؤال.

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : في الجواب ما يدور حوله القفال رحمه الله، وحاصله يرجع إلى ما أقوله، وهو أن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر، فتقدير الآية : لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، بمعنى : لا يجب المهر إلا بأحد هذين الأمرين، فإذا فقدا جميعا لم يجب المهر، وهذا كلام ظاهر ، إلا أنا نحتاج إلى بيان أن قوله : ( لا جناح ) معناه لا مهر، فنقول : إطلاق لفظ الجناح على المهر محتمل، والدليل دل عليه ، فوجب المصير إليه، وأما بيان الاحتمال فهو أن أصل الجناح في اللغة هو الثقل، يقال : أجنحت السفينة إذا مالت لثقلها ، والذنب يسمى جناحا لما فيه من الثقل، قال تعالى : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ) [العنكبوت : 13] إذا ثبت أن الجناح هو الثقل، ولزوم أداء المال ثقل فكان جناحا، فثبت أن اللفظ محتمل له، وإنما قلنا : إن الدليل دل على أنه هو المراد لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى قال : ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ) نفى الجناح محدودا إلى غاية وهي إما المسيس أو الفرض، والتقدير : فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ، ثم إن الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر، فوجب القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن تطليق النساء قبل المسيس على قسمين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : الذي يكون قبل المسيس وقبل تقدير المهر، وهو المذكور في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : الذي يكون قبل المسيس وبعد تقدير المهر ، وهو المذكور في الآية التي بعد هذه الآية ، وهي قوله : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة ) [البقرة : 237] ثم إنه في هذا القسم أوجب نصف المفروض ، وهذا القسم كالمقابل لذلك القسم ، فيلزم أن يكون الجناح المنفي هناك هو المثبت هاهنا، فلما كان المثبت هاهنا هو لزوم المهر وجب أن يقال : الجناح المنفي هناك هو لزوم المهر ، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنا قد ذكرنا في أول تفسير هذه الآية أن أقسام المطلقات أربعة، وهذه الآية تكون مشتملة على بيان حكم ثلاثة أقسام منها؛ لأنه لما صار تقدير الآية : لا مهر إلا عند المسيس أو عند التقدير، عرف منه أن التي لا تكون ممسوسة ولا مفروضا لها لا يجب لها المهر، وعرف أن التي تكون ممسوسة ولا تكون مفروضا لها ، والتي تكون مفروضا لها ولا تكون ممسوسة يجب لكل واحدة منهما المهر، فتكون هذه الآية مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 118 ]

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الرابع، وهي التي تكون ممسوسة ومفروضا لها، فبيان حكمه مذكور في الآية المتقدمة، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآيات مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الأربعة بالتمام ، وهذا من لطائف الكلمات ، والحمد لله على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية