الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4326 [ 2255 ] وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية.

                                                                                              فقال رجل: وجهه مثل السيف؟ قال: لا بل كان مثل الشمس والقمر، وكان مستديرا، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده.


                                                                                              رواه أحمد ( 5 \ 90 و 102)، ومسلم (2344) (108 و 109)، والترمذي في الشمائل (38 و 43)، والنسائي ( 8 \ 150 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله: " قد شمط مقدم رأسه ولحيته ") أي: خالط الشيب ذينك الموضعين. ومقدم اللحية: يعني به: العنفقة، كما قال أبو جحيفة : رأيت هذه منه بيضاء. يعني: عنفقته. و " مقدمه " يعني به: الصدغين، كما قال أنس : إنما كان البياض في عنفقته وصدغيه. وهذا يدل: على أن قول أنس في الرواية الأخرى: إنه كان في [ ص: 134 ] لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه عشرون شعرة بيضاء، إنما كان ذلك منه تقديرا على جهة التقريب والتقليل لا التحقيق.

                                                                                              و (قوله: " وكان إذا ادهن لم تتبين، وإذا شعث تبين ") يعني: أنه كان إذا تطيب بطيب يكون فيه دهن فيه صفرة خفي شيبه، وهذه هي الصفرة التي رأى عليه ابن عمر ، وأبو رمثة . والله أعلم.

                                                                                              وشعث الرأس: انتفاش شعره لعدم تسريحه، وأراد به هنا: إذا لم يتطيب.

                                                                                              و (قوله: " كان وجهه مثل السيف ") يحتمل هذا التشبيه وجهين:

                                                                                              أحدهما: أن السيوف كانت عندهم مستحسنة محبوبة يتجملون بها، ولا يفارقونها، فشبه وجه النبي صلى الله عليه وسلم به؛ لأنه مستحسن محبوب يتجمل به حين المجالسة، ولا يستغنى عنه.

                                                                                              وثانيهما: أنه كان صلى الله عليه وسلم أزهر، صافي البياض، يبرق وجهه، وقد روي: أنه كان يتلألأ وجهه في الجدر، فشبه وجهه بالسيف في صفاء بياضه وبريقه. والله أعلم.

                                                                                              و (قوله: " لا ! بل: مثل الشمس والقمر ") هذا نفي لتشبيه وجهه بالسيف، لما في السيف من الطول، فقد يحتمل أن وجهه كان طويلا، وإنما كان مستديرا في تمام الخلق، ولأنه تقصير في التشبيه، فأضرب عن ذلك، وذكر من التشبيه ما هو أوقع، وأبلغ، فقال: بل مثل الشمس والقمر، وهذا التشبيه: هو الغاية في [ ص: 135 ] الحسن، إذ ليس فيما نشاهده من هذه الوجوه أحسن، ولا أرفع، ولا أنفع منهما، وهما اللذان جرت عادة الشعراء والبلغاء بأن يشبهوا بهما ما يستحسنونه.

                                                                                              و (قوله: " وكان كثير شعر اللحية ") لا يفهم من هذا أنه كان طويلها، فإنه قد صح أنه كان كث اللحية ، أي: كثير شعرها غير طويلة، وكان يخلل لحيته.

                                                                                              و (قوله: " ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة ") الألف واللام في الخاتم لتعريف العهد، أي: خاتم النبوة الذي من علاماته المعروفة له في الكتب السابقة، وفي صدور علماء الملل السالفة، ولذلك لما حصل عند سلمان الفارسي رضي الله عنه العلم بصفاته، وأحواله، وعلاماته وموضع مبعثه، ودار هجرته، جد في الطلب حتى ظفر بما طلب، ولما لقيه جعل يتأمل ظهره، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يقف على ما يعرفه من خاتم النبوة ، فنزع رداءه من على ظهره، فلما رأى سلمان الخاتم أكب عليه يقبله، وهو يقول: أشهد أنك رسول الله.

                                                                                              وروى الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام ، ونزلوا بصومعة راهب كان هنالك، وقد سمي في غير هذا الخبر " بحيرا " فخرج إليهم ذلك الراهب، وكان قبل ذلك لا يخرج إليهم، ولا يلتفت إليهم، فلما خرج جعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش : ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر، ولا شجر إلا خر ساجدا له، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروفه مثل التفاحة ...، وذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: حديث حسن [ ص: 136 ] غريب. وعلى هذا، فخاتم النبوة معناه: علامة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اختلفت ألفاظ النقلة في صفة ذلك الخاتم، فروى جابر بن سمرة ، وأبو موسى ما ذكرناه آنفا، وروى السائب بن يزيد : أنه مثل زر الحجلة. وروى عبد الله بن سرجس : أنه رأى جمعا عليه خيلان مثل الثآليل. وروى الترمذي عن جابر بن سمرة ، قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني الذي بين كتفيه - غدة حمراء مثل بيضة الحمامة ، وقال: حسن صحيح.

                                                                                              قلت: وهذه الكلمات كلها متقاربة المعنى مفيدة أن خاتم النبوة كان نتوءا قاتما أحمر تحت كتفه الأيسر قدره إذا قلل: بيضة الحمامة، وإذا كثر: جمع اليد، وقد جاء في البخاري : كان بضعة ناشزة، أي: مرتفعة.

                                                                                              و.. قوله: " زر الحجلة " الرواية المعروفة فيه: " زر " بتقديم الزاي. قال أبو الفرج الجوزي : الحجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب، ويجعل له باب من جنسه، فيه زر وعروة، تشد إذا أغلق. وقال القاضي أبو الفضل : الزر: الذي يعقد به النساء عرى أحجالهن كأزرار القميص. والحجلة هنا: واحدة الحجال، وهي ستور ذات سجوف. وقال غيره: الحجلة: هي الطائر المعروف، وزرها: بيضتها، كما قال جابر : بيضة الحمامة.

                                                                                              قلت: والأول: أشهر في الزر، والثاني: أشبه بالمعنى، وقد أبعد الخطابي فرواه: رز الحجلة بتقديم الراء، أراد: بيضة الحجلة. يقال: أرزت الجرادة، أي: أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض.

                                                                                              قلت: وهذا لا يلتفت إليه؛ لأن العرب لا تسمي البيضة رزة، ولا تؤخذ [ ص: 137 ] اللغة قياسا. قال القاضي أبو الفضل : وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه.

                                                                                              قلت: هذه غفلة من هذا الإمام، فإن الشق إنما كان في صدر النبي صلى الله عليه وسلم وأثره إنما كان خطا واضحا من صدره إلى مراق بطنه، كما هو منصوص عليه في الأحاديث السالفة في كتاب الإيمان من كتاب مسلم ، وفي البخاري وغيرهما، ولم يثبت قط في رواية صحيحة، ولا حسنة، ولا غريبة أنه بلغ بالشق حتى نفذ من وراء ظهره ، ولو قدرنا أن ذلك الشق كان نافذا إلى ظهره، وأن تلك أثره، للزم عليه أن يكون مستطيلا من بين كتفيه إلى قطنته؛ لأنه الذي يحاذي الصدر من مسربته إلى مراق بطنه، فهذه غفلة منه رحمه الله. ولعل هذا غلط وقع من بعض الناسخين لكتابه، فإنه لم يسمع عليه فيما علمت.

                                                                                              وناغض الكتف: هو ما رق منه ولان، سمي بذلك لنغوضه، أي: حركته، يقال: نغض رأسه، أي: حركه. ونغضت القناة: هززتها. ومنه قوله تعالى: فسينغضون إليك رءوسهم ، [الإسراء: 51] أي: يحركونها استهزاء. ويسمى الناغض: الغضروف، وكذا جاء في رواية أخرى.

                                                                                              و (قوله: " جمعا عليه خيلان ") هو منصوب على الحال، أي: نظرت إلى خاتم النبوة مثل الجمع. قال ابن قتيبة : هو جمع الكف. يقال: ضربه بجمع كفه، إذا جمعها فضربه بها. وهو بالضم، ويقال بكسرها. والخيلان: جمع خال، وهي نقط سود كانت على الخاتم، شبهها لسعتها بالثآليل، لا أنها كانت ثآليل، وهي جمع ثؤلول: وهي حبيبات تعلو الجلد.

                                                                                              و (قوله: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم " ) فسره سماك في الأصل: بأنه [ ص: 138 ] عظيم الفم، وهو بمعنى واسع الفم كما قاله ثعلب . والعرب تتمدح بسعة الفم، وتكره صغره.

                                                                                              قلت: وكأنهم يتخيلون أن سعة الفم يكون عنها: سعة الكلام، والفصاحة، وأن ضيق الفم يكون عنه قلة الكلام واللكنة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، أي: لسعة شدقيه، وعدم تصنعه، ومن هذا المعنى سمي الرجل أشدق.

                                                                                              و (قوله: " أشكل العينين ") قال أبو عبيد : الشهلة: حمرة في سواد العين، والشكلة: حمرة في بياضها، وهو محمود. قال الشاعر:


                                                                                              ولا عيب فيها غير شكلة عينها كذاك عتاق الخيل شكل عيونها

                                                                                              قال صاحب " الأفعال ": شكلت العين - بكسر الكاف -، شكلة، وشكلا: إذا خالط بياضها حمرة.

                                                                                              قلت: ونحو هذا في الصحاح، وزاد: عين شكلاء: بينة الشكل. ورجل أشكل، ودم أشكل: إذا كان فيه بياض وحمرة، وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، فأما ما فسره به سماك من أنه طويل شق العين، فغير معروف عندهم، ولم أقف على من قاله غيره.

                                                                                              و (قوله: " منهوس العقبين ") يروى بالسين المهملة والمعجمة. قال ابن الأعرابي : يقال رجل منهوس القدمين، ومنهوش القدمين، أي: قليل لحمهما، كما قال سماك ، وهو مأخوذ من النهس والنهش. قال أبو العباس : النهس أخذ بأطراف الأسنان، والنهش بالأضراس.




                                                                                              الخدمات العلمية