الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وأما تفاضل الجدات في القرب فإن طائفة قالت : لا نبالي أي الجدات أقرب ، ولا أيتهن أبعد في الميراث سواء . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الحجاج بن أرطاة عن الشعبي قال : كان ابن مسعود يساوي بين الجدتين - كانت إحداهما أقرب أو لم تكن أقرب - وروي عنه أيضا : لا يحجب الجدات إلا الأم ، ويرثن - وإن كان بعضهن أقرب من بعض - إلا أن تكون إحداهن أم الأخرى فترث الابنة دون أمها .

                                                                                                                                                                                          وقول آخر : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أشعث عن الشعبي قال : كان ابن مسعود يورث ما قرب من الجدات وما بعد منهن ، جعل لهن السدس إذا كن من مكانين شتى ، فإذا كن من مكان واحد ورث القربى .

                                                                                                                                                                                          وقول ثالث : قاله الحسن بن حي ، وزفر بن الهذيل ، وهو إن كانت إحدى الجدتين جدة من جهتين ، وكانت الأخرى جدة من جهة واحدة : فللتي من جهتين ثلثا السدس ، وللتي من جهة واحدة ثلث السدس .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 300 ] مثال ذلك : امرأة تزوج ابن ابنها ابنة ابنتها فولد لهما ولد ، فمات أبواه وجدتاه ولم يترك إلا هذه المرأة التي هي أم أبي أبيه وأم أم أمه ، فهي جدة من جهتين - وجدة أخرى هي أم أم أبيه ، فهي جدة من جهة واحدة .

                                                                                                                                                                                          وقول رابع : وهو أنه إن كانت الجدة التي من جهة الأم أبعد من التي من قبل الأب اشتركتا في الميراث جميعا ، وكذلك إن كانتا سواء ، فإن كانت التي من قبل الأم أقرب من التي من قبل الأب : كان الميراث كله للتي من قبل الأم ، ولا شيء للتي من قبل الأب . كما روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت قال : إذا كانت الجدة من قبل الأم أقرب فهي أحق به ، فإن كانت أبعد فهما سواء .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد ، وحميد عن ( أهل المدينة ) ، قالوا : إذا كانت جدتان من قبل الأم ومن قبل الأب ، فإن كانت التي من قبل الأم أقرب فهي أحق بالسدس ، وإن كانت التي من قبل الأب أقرب فالسدس بينهما .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن أبي الزناد قال : أدركت خارجة بن زيد ، وطلحة بن عبد الله بن عوف ، وسليمان بن يسار ، يقولون : إذا كانت جدتان من قبل الأب ومن قبل الأم ، فإن كانت التي من قبل الأم أقرب فهي أحق بالسدس ، وإن كانت أبعد : فهما سواء . وهو قول عطاء - وبه يقول مالك ، والأوزاعي ، وروي عن الشافعي .

                                                                                                                                                                                          وقول خامس : وهو أيتهن كانت أقرب فهي أحق بالميراث . كما روينا من طريق سفيان ، ومعمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب ، فذكر توريث أبي بكر للجدة من قبل الأب أو من قبل الأم ، وفيه : فلما كانت خلافة عمر جاءت الجدة التي يخالفها ، فقال عمر : إنما كان القضاء في غيرك ، ولكن إذا اجتمعتما فالسدس بينكما ، وأيكما خلت به فهو لها

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع نا سفيان هو الثوري - عن حميد الطويل عن عمار بن أبي عمار عن زيد بن ثابت : أنه كان يورث القربى من الجدات . [ ص: 301 ] ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا محمد بن سالم عن الشعبي : أن علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت كانا يجعلان السدس للقربى منهما - يعني الجدتين .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين في الجدات قال : إن كانت واحدة فالسدس لها ، وإن كانت اثنتين فالسدس بينهما فإن كن ثلاثا فالسدس بينهن ، وإن كن أربعا فالسدس بينهن ، وأيتهن كانت أقرب فهي أحق ، إنما هي طعمة .

                                                                                                                                                                                          وبه يقول الحسن البصري ، ومكحول ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وسفيان الثوري ، والحسن بن حي ، وشريك ، وداود - وهو أشهر قولي الشافعي .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما القول الثاني الذي ذكرنا عن ابن مسعود ، والقول الثالث الذي ذكرنا عن زفر ، والرابع الذي اختاره مالك : فأقوال لا دليل على صحة شيء منها : لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من قول صاحب لا مخالف له ، ولا من إجماع ، ولا من نظر ، ولا قياس ولا من رأي له وجه .

                                                                                                                                                                                          والعجب من تقليد المالكيين لقول زيد في ذلك دون قول زيد الثاني ، فهذا عجب جدا ، فلم يبق إلا القول الأول ، وهذا الآخر . فوجدنا من حجة من ذهب إلى القول الأول أن يقول : الجدة أم ، فكلهن أم ، وكلهن وارثة .

                                                                                                                                                                                          قال علي : ووجدنا حجة القول الآخر أن ميراث الأب والأم قد صح بالقرآن ، فأول أم توجد ، وأول أب يوجد ، فميراثهما واجب ، ولا تجوز تعديهما إلى أم ولا إلى أب أبعد منهما ، إذ لم يوجب ذلك نص أصلا - وهذا هو الحق - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما هل ترث الجدة أم الأب والأب حي ؟ فطائفة قالت : لا ترث . روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن محمد بن سالم عن الشعبي قال : كان علي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت لا يورثان الجدة مع ابنها .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري : أن عثمان بن عفان لم يورث الجدة إن كان ابنها حيا - قال الزهري : والناس عليه . [ ص: 302 ] ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت كان لا يورث الجدة أم الأب وابنها حي .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن وهب عمن يثق به عن سعيد بن المسيب قال : قال ابن مسعود في الجدة وابنها حي : منعها الذي به تمت .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن عطاء أن زيد بن ثابت قال : يحجب الرجل أمه كما تحجب الأم أمها من السدس - كثير لا شيء - وحديث ابن وهب مرسل - وروي هذا عن سعد بن أبي وقاص ، والزبير بن العوام .

                                                                                                                                                                                          وهو قول سعيد بن المسيب ، وطاوس ، والشعبي - وبه يقول سفيان ، والأوزاعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ; والشافعي ، وروي عن داود .

                                                                                                                                                                                          والقول الثاني : أنها ترث . كما روينا من طريق سعيد بن منصور ، نا سفيان عن ابن أبي ليلى عن الشعبي قال : قال ابن مسعود : إن أول جدة ورثت في الإسلام كانت مع ابنها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أقل ما في هذا أن يراد خلاف أبي بكر .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع نا حماد بن سلمة عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه قال : مات ابن لحسكة الحبطي فترك حسكة وأما لحسكة ، فكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر في ذلك ؟ فكتب إليه عمر : ورثها مع ابنها السدس

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع نا سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود : أنه ورث الجدة مع ابنها ، قال وكيع : ونا الأعمش عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود قال : لا يحجب الجدات إلا الأم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا سلمة بن علقمة عن حميد بن هلال العدوي عن رجل منهم : أن رجلا منهم مات وترك أم أبيه ، وأم أمه ، وأبوه حي فوليت تركته ، فأعطيت السدس أم أمه ، وتركت أم أبيه ؟ فقيل لي : كان ينبغي لك أن تشرك بينهما ؟ فأتيت عمران بن الحصين فسألته ؟ فقال : أشرك بينهما في السدس ؟ ففعلت

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن ، وابن سيرين أن أبا موسى الأشعري ورث أم حسكة من ابن حسكة وحسكة حي . [ ص: 303 ] ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن بلال بن أبي بردة أن أبا موسى الأشعري كان يورث الجدة مع ابنها - وقضى بذلك بلال - وهو أمير على البصرة - وهو قول عامر بن واثلة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق نا هشام بن حسان ، ومعمر ، قال هشام : عن أنس بن سيرين ، وقال معمر : عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين ، ثم اتفق أنس ، ومحمد : على أن شريحا كان يورث الجدة مع ابنها وهو حي .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء جابر بن زيد قال : ترث الجدة مع ابنها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا خالد ، ومنصور ، كلاهما عن أنس بن سيرين قال : شهدت شريحا أتى في رجل ترك جدتيه : أم أمه ، وأم أبيه ، وأبوه حي : فأشرك بين جدتيه في السدس .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا حميد عن الحسن ، وابن سيرين في الجدة : أنهما كانا يورثانها مع ابنها ، فهم كما ترى : خلافة أبي بكر ، وعمر ، وأبي موسى الأشعري ، وابن مسعود ، وعمران بن الحصين ، وعامر بن واثلة ، وجابر بن زيد ، وشريح ، والحسن ، وابن سيرين .

                                                                                                                                                                                          وهو قول عروة بن الزبير ، وسليمان بن يسار ، ومسلم بن يسار ، وعطاء بن أبي رباح ، والمسيب ، وسوار بن عبد الله ، وعبيد الله بن الحسن ، وشريك بن عبد الله ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وفقهاء البصرة - وروي عن داود أيضا . فوجدنا أهل القول الأول يحتجون بالخبر الذي ذكرنا من طريق ابن وهب عمن سمع عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر عن أبيه عن علي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم جدتين السدس إذا لم تكن أم ، أو شيء دونهما } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا خبر سوء منقطع ما بين ابن وهب ، وعبد الوهاب ، ثم عبد الوهاب متروك ، ثم لا يصح لمجاهد سماع من علي ، ثم ليس فيه بيان بذكر الأب .

                                                                                                                                                                                          وقالوا أيضا : لما حجب أباه وجب أن يحجب أمه .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وهذا قياس والقياس كله فاسد ، ثم لو صح لكان هذا منه غاية الفساد ، [ ص: 304 ] لأنه إنما يحجب أباه بأنه عاصب أولى منه ، والجدة لا ترث بالتعصيب إنما ترث بالسهم ، فبابه غير بابها .

                                                                                                                                                                                          ثم يعارضون بأن يقال لهم : كما لا تحجب الأم كذلك لا تحجب الجدة ، وكما لا تحجب أم الأم كذلك لا تحجب أم نفسه .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : كما تحجب الأم أمها كذلك يحجب الأب أمه ؟ قلنا : هذا قياس ، والقياس كله باطل ، ثم لو صح القياس لكان هذا منه باطلا ; لأن الأم إنما حجبت أمها لأنها أم أقرب منها ، وليس الأب كذلك .

                                                                                                                                                                                          ثم يقال لهم : كما لا تحجب الأم الجد - وإنما تحجب الجدات - كذلك لا يحجب الأب الجدات ، وإنما يحجب الجد فقط .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : حجبها الذي تدلي به - وهذا ليس بشيء ; لأنه قول لم يوجبه قرآن ولا سنة ، وقد وجدنا الجدة من الأب يكون الأب عبدا فلا يحجبها عندهم وهي تدلي به .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إنما يحجبها إذا ورث ؟ قلنا : هذه زيادة لم يوجبها برهان قرآن ولا سنة ، فهي لا شيء ، إنما هي دعوى لا نوافقكم عليها ، فهي ساقطة ما لم يوجبها قرآن ولا سنة ولا إجماع .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : ميراثها مع وجود الأب مختلف فيه ؟ قلنا : نعم ، فإن لم يوجب ميراثها برهان ، وإلا فلا ميراث لها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فسقط هذا القول ، إذ لا برهان على صحته ، وبقي أن نثبت صحة قولنا بحول الله وقوته فنقول - وبالله تعالى التوفيق . قد جاء نص القرآن بإيجاب ميراث الأبوين سواء ، فوجب بالقرآن ميراث الأب والجد ، وأبي الجد ، وجد الجد مع الأم ، لأنهم أبوان ، ووجب ميراث الجدة مع الجدة كما قلنا ، ومع الأب ; لأنهما أبوان ، فليس ميراث الأب أولى من ميراث الأم وأمها أمه - وهذا نص لا يسع خلافه .

                                                                                                                                                                                          وكتب إلي أبو الحسن علي بن إبراهيم التبريزي نا أبو الحسين محمد بن عبد الله البصري المعروف بابن اللبان نا أحمد بن كامل بن شجرة القاضي نا أحمد بن عبيد الله [ ص: 305 ] نا يزيد بن هارون نا محمد بن سالم عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود ، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم { أنه ورث جدة وابنها حي . }

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأشعث - هو ابن عبد الملك الحمراني - عن ابن سيرين قال : { أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أب مع ابنها . }

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو يحيى بكر بن محمد الضرير عن الأشعث بن عبد الملك عن الحسن البصري قال { : أول جدة أطعمت السدس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنها حي } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : عهدنا بالحنفيين ، والمالكيين يقولون : المسند والمرسل سواء ، وهذان مرسلان ومسند صالح ، فليأخذوا بهما .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : لعل ابنها كان عم الميت ؟ قلنا : لا يرد الدين ب " لعل " لكن ابنها هو الأب والعم ، أيهما كانت ورثت معه ، وتخصيص العم بذلك لا يجوز ; لأنه دعوى كاذبة ، وقطع بالظن ، وتفسير بارد للخبر ; لأنه لا فائدة هاهنا في حياة العم ولا في موته - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية