الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      زكاة الفطر .

                                                                                                                                                                                                                                      إن أهم مباحث زكاة الفطر هي الآتي :

                                                                                                                                                                                                                                      أولا : حكمها ، صدر تشريعها .

                                                                                                                                                                                                                                      ثانيا : على من تكون .

                                                                                                                                                                                                                                      ثالثا : مم تكون .

                                                                                                                                                                                                                                      رابعا : كم تكون .

                                                                                                                                                                                                                                      خامسا : متى تكون .

                                                                                                                                                                                                                                      سادسا : هل تجزئ فيها القيمة أم لا ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك القيمة في غيرها من الزكوات .

                                                                                                                                                                                                                                      أما حكمها : فهي فرض عين عند أحمد والشافعي ، وعند أبي حنيفة هي واجب على اصطلاحه ، أي : ما وجب بالسنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وعند المالكية واجبة ، وقيل : سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال في مختصر خليل بن إسحاق : يجب بالسنة الصاع . إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      والسبب في اختلافهم هذا ، هل هي داخلة في عموم : وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] ، أي : شرعت بأصل مشروعية الزكاة في الكتاب والسنة ، أم أنها شرعت بنص مستقل عنها .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن قال بفرضيتها ، قال : إنها داخلة في عموم إيجاب الزكاة ، ومن قال بوجوبها ، فهذا اصطلاح للأحناف . ولا يختلف الأمر في نتيجة التكليف إلا أن عندهم لا يكفر بجحودها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال المالكية : يجب بالسنة صاع من بر إلخ . أي : أن وجوبها بالسنة لا بالكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وعندهم : لا يقاتل أهل بلد على منعها ، ويقتل من جحد مشروعيتها ، وهذا هو الفرق بينهم وبين الأحناف .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 284 ] ولكن في عبارة مالك في الموطأ إطلاق الوجوب أنه قال : أحسن ما سمعت فيما يجب على الرجل من زكاة الفطر : أن الرجل يؤدي ذلك عن كل من يضمن نفقته . إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أسباب الخلاف بين الأئمة - رحمهم الله - نصوص السنة ، منها قولهم : فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير . الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      فلفظة فرض : أخذ منها من قال بالفرضية ، وأخذ منها الآخرون ، بمعنى قدر ; لأن الفرض : القدر والقطع .

                                                                                                                                                                                                                                      وحديث قيس بن سعد بن عبادة عند النسائي ، قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله " .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن قال بالوجوب والفرض . قال : الأمر للأول للوجوب ، وفرضية زكاة المال شملتها بعمومها . فلم يحتج معها لتجديد أمر ولم تنسخ فنهى عنها ، وبقيت على الوجوب الأول ، وحديث : " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر ; طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات " . فمن لم يقل بفرضيتها قال : إنها طهرة للصائم وطعمة للمساكين ، فهي لعلة مربوطة بها وتفوت بفوات وقتها ، ولو كانت فرضا لما فاتت بفوات الوقت . وأجاب الآخرون بأن ذلك على سبيل الحث على المبادرة لأدائها ، ولا مانع من أن تكون فرضا وأن تكون طهرة .

                                                                                                                                                                                                                                      ويشهد لهذا قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] ، فهي فريضة وهي طهرة . والراجح من ذلك كله أنها فرض ; للفظ الحديث " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعا من تمر " ; لأن لفظ فرض إن كان ابتداء فهو للوجوب ، وإن كان بمعنى قدر ، فيكون الوجوب بعموم آيات الزكاة ، وهو أقوى .

                                                                                                                                                                                                                                      وحديث " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر بصدقة الفطر صاعا من تمر " الحديث . رواه أبو داود . والأمر للوجوب ، ولا صارف له هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 285 ] وقد قال النووي : إن القول بالوجوب هو قول جمهور العلماء ، وهذا هو القول الذي تبرأ به الذمة ، ويخرج به العبد من العهدة ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      أما مم تكون : فالأصل في ذلك أثر أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، ورواه مالك في الموطأ عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : كنا نخرج صاعا من طعام ، أو صاعا من أقط ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من زبيب .

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء لفظ السلت ، وجاء لفظ الدقيق ، وجاء لفظ السويق . فوقف قوم عند المنصوص عليه فقط وهم الظاهرية . ونظر الجمهور إلى عموم الطعام والغرض من مشروعيتها على خلاف في التفصيل عند الأئمة - رحمهم الله - كالآتي :

                                                                                                                                                                                                                                      أولا : عند الشافعية يجوز إخراجها من كل قوت ; لأثر أبي سعيد ، وفيه لفظ الطعام .

                                                                                                                                                                                                                                      ثانيا : من غالب قوت المكلف بها ; لأنها الفاضل عن قوته .

                                                                                                                                                                                                                                      ثالثا : من غالب قوت البلد ; لأنها حق يجب في الذمة تعلق بالطعام كالكفارة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النووي : تجوز من كل حب معشر ، وفي الأقط خلاف عن الشافعي المالكية .

                                                                                                                                                                                                                                      روى مالك في الموطأ حديث أبي سعيد المتقدم . وقال الباجي في شرحه : تخرج من القوت ، ونقل عن مالك في المختصر : يؤديها من كل ما تجب فيه الزكاة إذا كان ذلك من قوته . وهو مثل قول النووي : من كل حب معشر . وناقش الباجي مسألة إجزائها من الأرز والذرة والدخن . فقال : لا تجوز منها عند أشهب ويجوز عند مالك . وناقش القطاني : الحمص ، والترمس ، والجلبان ، فقال : مالك يجوزها إذا كانت قوته ، وابن حبيب : لا يجوزها ; لأنها ليست من المنصوص .

                                                                                                                                                                                                                                      واتفق مذهب المالكية : أن المطعوم الذي يضاف إلى غيره كالأبازير : كزبرة ، وكمون ونحوه ، أنها لا تجزئ .

                                                                                                                                                                                                                                      الحنابلة ، قال في المغني : من كل حبة وثمرة تقتات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال في الشرح : أي عند عدم الأجناس المنصوص عليها ، فيجزئ كل مقتات من الحبوب والثمار .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 286 ] قال : وظاهر هذا أنه لا يجزئه المقتات من غيرها كاللحم واللبن ، وعند انعدام هذه أيضا يعطي ما قام مقام الأجناس المنصوص عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن حامد عندهم : حتى لحم الحيتان والأنعام ، ولا يردون إلى أقرب قوت الأمصار ، ويجزئ الأقط لأهل البادية إن كان قوتهم . وعندهم : من قدر على المنصوص عليه فأخرج غيره لم يجزه .

                                                                                                                                                                                                                                      الأحناف : تجوز من البر ، والتمر ، والشعير ، والزبيب ، والسويق ، والدقيق . ومن الخبز مع مراعاة القيمة ، وتجوز القيمة عندهم عوضا عن الجميع ، مع الاختلاف عندهم في مقدار الواجب من هذه الأصناف بين الصاع أو نصف الصاع ، على ما يأتي إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ناقشهم ابن قدامة في المغني عند قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أعطى القيمة لم تجزئه ، ونقل عن أحمد : أخاف ألا تجزئه خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبهذا العرض نجد الأئمة - رحمهم الله - اتفقوا على المنصوص عليه في أثر أبي سعيد ، وزاد بعضهم من غير المنصوص عليه غير المنصوص : إما بعموم لفظ الطعام ، وإن كان يراد به عرفا القمح ، إلا أن العبرة بعموم اللفظ وهو العرف اللغوي . وإما بعموم مدلول المعنى العام ، والخلاف في الأقط . والنص يقضي به .

                                                                                                                                                                                                                                      وانفرد الأحناف بالقول بالقيمة وبالنظر إلى المعنى العام لمعنى الزكاة ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " طعمة للمسكين ، وطهرة للصائم " . وقوله : ( أغنوهم بها عن السؤال ) . لوجدنا إشارة إلى جواز إخراجها من كل ما هو طعمة للمساكين ، ولا نحده بحد أو نقيده بصنف ، فإلحاق غير المنصوص بالمنصوص بجامع العلة متجه ، أما القيمة : فقد ناقش مسألتها صاحب فتح القدير شرح الهداية في باب زكاة الأموال ، وعمدة أدلتهم الآتي :

                                                                                                                                                                                                                                      أولا : بين الجذعة والمسنة في الإبل بشاتين .

                                                                                                                                                                                                                                      ثانيا : قول معاذ لأهل اليمن : " ائتوني بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير ؟ أهون عليكم ، وخير لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 287 ] ثالثا : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة حسنة في إبل الصدقة ، فقال : " ما هذه ؟ " قال صاحب الصدقة : إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الإبل ؟ . قال : " نعم " .

                                                                                                                                                                                                                                      رابعا : مثلها مثل الجزية ; يؤخذ فيها قدر الواجب كما تؤخذ عينه . والجواب عن هذا كله كالآتي : أما التعويض بين الجذعة والمسنة أو الحقة إلى آخره في الإبل بشاتين أو عشرين درهما ، وهو المنصوص في حديث أنس في كتاب الأنصباء المتقدم ، ونصه : ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده ، وعنده حقة ، فإنه تقبل منه الحقة ، ويجعل معها شاتين أو عشرين درهما ، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده ، وعنده الجذعة ، فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا ابنة لبون ، فإنها تقبل منه ابنة لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهما . إلى آخر الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      فليس في هذا دليل على قبول القيمة في زكاة الفطر ; لأن نص الحديث فمن وجبت عليه سن معينة وليست عنده ، وعنده أعلى أو أنزل منها ; فللعدالة بين المالك والمسكين جعل الفرق لعدم الحيف ، ولم يخرج عن الأصل وليس فيه أخذ القيمة مستقلة ، بل فيه أخذ الموجود ، ثم جبر الناقص .

                                                                                                                                                                                                                                      فلو كانت القيمة بذاتها وحدها تجزئ لصرح بها - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يجوز هذا العمل إلا عند افتقاد المطلوب ، والأصناف المطلوبة في زكاة الفطر إذا عدمت أمكن الانتقال إلى الموجود مما هو من جنسه لا إلى القيمة ، وهذا واضح .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر - رحمه الله - في الفتح : لو كانت القيمة مقصودة لاختلفت حسب الزمان والمكان ، ولكنه تقدير شرعي .

                                                                                                                                                                                                                                      أما قول معاذ لأهل اليمن : " ائتوني بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير " . فقد ناقشه ابن حجر في الفتح من حيث السند والمعنى . ولكن السند ثابت ، أما المعنى ، فقيل : إنه في الجزية .

                                                                                                                                                                                                                                      ورد هذا : بأن فيه مكان الذرة والشعير ، والجزية ليست منها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 288 ] وقيل : إنه بعد أن يستلم الزكاة الواجبة من أجناسها يستبدلها من باب البيع والمعاوضة عملا بما فيه المصلحة للطرفين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إنه اجتهاد منه - رضي الله عنه - ، ولكنه اجتهاد أعرفهم بالحلال والحرام إلى غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      والصحيح الثاني : أنه تصرف بعد الاستلام وبلوغها محلها ولا سيما مع نقلها إلى المدينة ، بخلاف زكاة الفطر فليست تنقل ابتداء ، ولأن مهمة زكاة المال أعم من مهمة زكاة الفطر ; ففيها النقدان والحيوان .

                                                                                                                                                                                                                                      أما زكاة الفطر فطعمة للمسكين في يوم الفطر ; فلا تقاس عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الناقة الحسنة التي رآها - صلى الله عليه وسلم - ، وأنها بدل من بعيرين ، فهو من جنس الاستبدال بالجنس عملا للمصلحة ، لم تخرج عن جنس الواجب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الجزية يؤخذ منها قدر الواجب : فلا دليل فيه ; إذ زكاة الفطر فيها جانب تعبد وارتباط بركن في الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الجزية : فهي عقوبة على أهل الذمة عن يد وهم صاغرون ، فأيما أخذ منهم فهو واف بالغرض ، فلم يبق للقائلين بالقيمة في زكاة الفطر مستند صالح ، فضلا عن عدم النص عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وختاما : إن القول بالقيمة فيه مخالفة للأصول من جهتين :

                                                                                                                                                                                                                                      الجهة الأولى : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر تلك الأصناف لم يذكر معها القيمة ولو كانت جائزة لذكرها مع ما ذكر ، كما ذكر العوض في زكاة الإبل ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أشفق وأرحم بالمسكين من كل إنسان .

                                                                                                                                                                                                                                      الجهة الثانية : - وهي القاعدة العامة - أنه لا ينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه ، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان فهو باطل .

                                                                                                                                                                                                                                      كما رد ابن دقيق العيد على الحنابلة قولهم : إن الأشنان يجزئ عن التراب في الولوغ . أي : لأنه ليس من جنسه ويسقط العمل به .

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك لو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة ; لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة ، [ ص: 289 ] فكأن الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام بالإبطال ، فيبطل .

                                                                                                                                                                                                                                      ومثل ما يقوله بعض الناس اليوم في الهدي بمنى مثلا بمثل ، علما بأن الأحناف لا يجيزون القيمة في الهدي ; لأن الهدي فيه جانب تعبد ، وهو النسك .

                                                                                                                                                                                                                                      ويمكن أن يقال لهم أيضا : إن زكاة الفطر فيها جانب تعبد ; طهرة للصائم ، وطعمة للمساكين ، كما أن عملية شرائها ومكيلتها وتقديمها فيه إشعار بهذه العبادة . أما تقديمها نقدا فلا يكون فيها فرق عن أي صدقة من الصدقات ، من حيث الإحساس بالواجب والشعور بالإطعام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة ; لأن القول بالقيمة فيها جرأ الناس على ما هو أعظم ، وهو القول بالقيمة في الهدي وهو ما لم يقله أحد على الإطلاق حتى ولا الأحناف .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية