الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا أعتق المولى مملوكه فولاؤه له ) لقول عليه الصلاة والسلام { الولاء لمن أعتق } [ ص: 220 ] ولأن التناصر به فيعقله وقد أحياه معنى بإزالة الرق عنه فيرثه ويصير الولاء كالولاد ، ولأن الغنم بالغرم ، وكذا المرأة تعتق لما روينا [ ص: 221 ] { ومات معتق لابنة حمزة رضي الله عنهما عنها وعن بنت فجعل النبي عليه الصلاة والسلام المال بينهما نصفين } . ويستوى فيه الإعتاق بمال وبغيره لإطلاق ما ذكرناه .

التالي السابق


( قوله وإذا أعتق المولى مملوكه فولاؤه له لقوله عليه الصلاة والسلام { الولاء لمن أعتق } ) قال صاحب العناية : وجه الاستدلال أن الحكم إذا ترتب على مشتق دل على أن المشتق منه علة لذلك الحكم ا هـ .

أقول : لا يذهب عليك أن حل هذا المحل بهذا الوجه ليس بسديد ، إذ لا شك أن المطلوب بهذه المسألة بيان من له الولاء لا بيان علة الولاء ، والوجه المذكور إنما يفيد الثاني دون الأول فلا يتم التقريب ، والصواب أن وجه الاستدلال هاهنا هو أن لام الجنس في قوله عليه الصلاة والسلام " الولاء " ولام الاختصاص في قوله " لمن أعتق " تدلان على أن جنس الولاء لمن أعتق دون غيره كما قالوا في قوله تعالى { الحمد لله } دل بلامي الجنس والاختصاص على اختصاص جنس المحامد بالله تعالى . ثم قال صاحب العناية : [ ص: 220 ] فإن قيل : الاستدلال به على هذا الوجه يناقض جعل العتق سببا لأن أعتق مشتق من الإعتاق .

فالجواب أن الأصل في الاشتقاق هو مصدر الثلاثي وهو العتق انتهى كلامه . أقول : في جوابه نظر ، لأن كون مصدر الثلاثي أصلا في الاشتقاق لا يستدعي كونه أصلا في العلية لترتب الحكم على المشتق من المزيد عليه كما فيما نحن فيه ، فإن كثيرا من مصادر المزيدات يصلح علة لما لا يصلح له مصادر الثلاثي ; ألا يرى أن الإعتاق مثلا يكون علة للعتق ، ولا ريب أن العتق لا يكون علة لنفسه إلى غير ذلك من الصور ، ومدار السؤال على العلية فلا يدفعه الجواب المزبور ( قوله ولأن التناصر به فيعقله وقد أحياه معنى بإزالة الرق عنه فيرثه ويصير الولاء كالولاد ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : قوله ولأن التناصر به : أي بسبب الإعتاق دليل على الأثرين الثابتين به وهو العقل والميراث ، وتقريره المولى ينتصر بمولاه بسبب العتق ، ومن ينتصر بشخص يعقله لأن الغنم بالغرم فحيث يغنم بنصره يغنم عقله ، والمولى أحياه معنى بإزالة الرق عنه لأن الرقيق هالك حكما ; ألا يرى أنه لا يثبت في حقه كثير من الأحكام التي تعلقت بالإحياء نحو القضاء والشهادة والسعي إلى الجمعة والخروج إلى العيدين وأشباه ذلك ، وبالإعتاق تثبت هذه الأحكام في حقه فكان إحياء معنى ، ومن أحيا غيره معنى ورثه كالوالد فيصير الولاء كالولاد والولاد يوجب الإرث فكذلك الولاء ا هـ كلامه .

أقول : في أوائل تقريره الدليل خلل ، لأنه اعتبر النصر في جانب المولى بمعنى المعتق بالفتح ، والانتصار في جانب المولى بمعنى المعتق بالكسر كما لا يخفى على من تأمل في بسط كلامه سيما في قوله فحيث يغنم بنصره يغرم عقله ، والظاهر أن الأمر بالعكس ، إذ المعتق بالفتح ينتصر بنصر المعتق بالكسر حيث ينال شرف الحرية بسبب إعتاق ذلك إياه فهو الغانم ، وأيضا قد استدل على أن من ينتصر بشخص يعقله بأن الغنم بالغرم ، وليس بصحيح لأنه إن رجع ضمير الفاعل المستتر في يعقله إلى من ينتصر كما هو الظاهر من سوق كلامه لم يصح المدعى في نفسه ومع ذلك لا يطابقه الدليل المذكور .

أما عدم صحة المدعى في نفسه فلأن العاقل في الشرع هو الناصر لا المنتصر على ما تقرر في موضعه .

وأما عدم مطابقة الدليل المذكور إياه فلأن المدعى حينئذ وجوب العقل الذي هو الغرم بالانتصار الذي هو الغنم ، والدليل المذكور إنما يفيد عكس ذلك ، فالدليل المطابق له عكس ما ذكر وهو الغرم بالغنم كما هو نظم الحديث الشريف على ما ذكر في كتب الحديث ومر في هذا الكتاب أيضا في باب النفقة من كتاب الطلاق ، وإن رجع ذلك الضمير إلى شخص في قوله من ينتصر بشخص لم يصح الدليل المذكور أصلا لأن الغانم هو المنتصر بشخص والغارم وهو ذلك الشخص الناصر . فلم يجتمع الغنم والغرم في شخص واحد حتى يصح الاستدلال بأن الغنم بالغرم ، إذ لا شك أن غنم شخص لا يصير سببا لغرم شخص آخر ولا العكس .

ثم أقول : الصواب أن مراد المصنف بقوله ولأن التناصر به فيعقله هو أن المعتق بالفتح ينتصر بنصر المعتق بالكسر بسبب إعتاقه إياه فيعقله : أي فيعقل المعتق بالكسر المعتق بالفتح بناء على أن مدار العقل أن يكون ناصرا كما تقرر في كتاب المعاقل حيث صرحوا فيه بأن وجه ضم العاقلة إلى الجاني في الدية دون غيرهم هو أن الجاني إنما قصر القوة فيه وتلك بأنصاره وهم العاقلة فكانوا هم المقصرين في تركهم مراقبته فخصوا بالضم إليه ( قوله ولأن الغنم بالغرم ) قال صاحب العناية : قوله ولأن الغنم بالغرم يخدم الوجهين فلهذا أخره ا هـ .

[ ص: 221 ] أقول : يريد بالوجهين العقل والإرث لكنه منظور فيه . أما أولا فلما نبهنا عليه فيما مر آنفا من أن الدليل على أن يعقل المعتق إنما هو كون الغرم بالغنم لا كون الغنم بالغرم ، والمذكور هاهنا هو الثاني فكيف يخدم الوجه الأول .

وأما ثانيا فلأنه جعل قول المصنف فيما قبل ولأن التناصر به فيعقله مبنيا على كون الغنم بالغرم كما عرفت فكيف ينتظم حينئذ واو العطف في قول المصنف ، ولأن الغنم بالغرم بالنظر إلى الوجه الأول والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه . على أنا لو جعلنا قول المصنف ولأن الغنم بالغرم دليل على الوجهين معا آل المعنى إلى أنه إنما يعقله لأنه يرثه ، وإنما يرثه لأنه يعقله فأدى إلى الدور كما لا يخفى .

فالصواب عندي أن قول المصنف ولأن الغنم بالغرم دليل على الوجه الثاني فقط وهو الإرث معطوف بحسب المعنى على قوله وقد أحياه معنى بإزالة الرق فكأنه قال : لأنه أحياه معنى بإزالة الرق عنه فيرثه ، ولأن الغنم بالغرم فحيث يغرم عقله يرث ماله ، كما أن قوله فيما سيأتي ومات معتق لابنة حمزة رضي الله عنهما إلخ معطوف على قوله لما روينا معنى كما صرح به الشارح المزبور وغيره هناك ، ونظائر هذا أكثر من أن تحصى




الخدمات العلمية