الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب قتال أهل البغي

قال الله - تعالى - : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الحسن : أن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي ، فأنزل الله فيهم : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، قال معمر : قال قتادة : وكان رجلان بينهما حق تدارآ فيه ، فقال أحدهما : لآخذنه عنوة ؛ لكثرة عشيرته . وقال الآخر : بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي وروي عن سعيد بن جبير والشعبي قالا : كان قتالهم بالعصي والنعال وقال مجاهد هم الأوس والخزرج كان بينهم قتال [ ص: 280 ] بالعصي قال أبو بكر : قد اقتضى ظاهر الآية الأمر بقتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وهو عموم في سائر ضروب القتال ، فإن فاءت إلى الحق بالقتال بالعصي والنعال لم يتجاوز به إلى غيره ، وإن لم تفئ بذلك قوتلت بالسيف على ما تضمنه ظاهر الآية وغير جائز ؛ لأحد الاقتصار على القتال بالعصي دون السلاح مع الإقامة على البغي وترك الرجوع إلى الحق ، وذلك أحد ضروب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان فأمر بإزالة المنكر باليد ولم يفرق بين السلاح وما دونه ، فظاهره يقتضي وجوب إزالته بأي شيء أمكن .

وذهب قوم من الحشو إلى أن قتال أهل البغي إنما يكون بالعصي والنعال وما دون السلاح وأنهم لا يقاتلون بالسيف ، واحتجوا بما روينا من سبب نزول الآية وقتال القوم الذين تقاتلوا بالعصي والنعال ، وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا ؛ لأن القوم تقاتلوا بما دون السلاح ، فأمر الله - تعالى - بقتال الباغي منهما ولم يخصص قتالنا إياه بما دون السلاح وكذلك نقول متى ظهر لنا قتال من فئة على وجه البغي قابلناه بالسلاح وبما دونه حتى ترجع إلى الحق ، وليس في نزول الآية على حال قتال الباغي لنا بغير سلاح ما يوجب أن يكون الأمر بقتالنا إياهم مقصورا على ما دون السلاح مع اقتضاء عموم اللفظ للقتال بسلاح وغيره .

ألا ترى أنه لو قال : " من قاتلكم بالعصي فقاتلوه بالسلاح " لم يتناقض القول به ؟ فكذلك أمره إيانا بقتالهم ؛ إذ كان عمومه يقتضي القتال بسلاح وغيره ، وجب أن يجرى على عمومه وأيضا قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الفئة الباغية بالسيف ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم ، وكان محقا في قتاله لهم لم يخالف فيه أحد إلا الفئة الباغية التي قابلته وأتباعها وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار : تقتلك الفئة الباغية وهذا خبر مقبول من طريق التواتر . حتى إن معاوية لم يقدر على جحده " لما قال له عبد الله بن عمر ، فقال : إنما قتله من جاء به فطرحه بين أسنتنا رواه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الحجاز وأهل الشام ، وهو علم من أعلام النبوة ؛ لأنه خبر عن غيب لا يعلم إلا من جهة علام الغيوب .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب قتال الخوارج وقتلهم أخبار كثيرة متواترة ، منها حديث أنس وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سيكون في أمتي اختلاف وفرقة قوم يحسنون القول ويسيئون العمل يمرقون من الدين كما يمرق السهم [ ص: 281 ] من الرمية لا يرجعون حتى يرتد على فوقه هم شر الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم أو قتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قتلهم كان أولى بالله منهم قالوا : يا رسول الله ما سيماهم ؟ قال التحليق .

وروى الأعمش عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال : سمعت عليا يقول : إذا حدثتكم بشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن أكذب عليه ، وإذا حدثتكم فيما بيننا فإن الحرب خدعة ، وإني سمعته صلى الله عليه وسلم يقول : يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فإن لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة ولم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب قتال الفئة الباغية بالسيف إذا لم يردعها غيره .

ألا ترى أنهم كلهم رأوا قتال الخوارج ولو لم يروا قتال الخوارج وقعدوا عنهم لقتلوهم وسبوا ذراريهم ونساءهم واصطلموهم ؟ فإن قيل : قد جلس عن علي جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر قيل له : لم يقعدوا عنه ؛ لأنهم لم يروا قتال الفئة الباغية ، وجائز أن يكون قعودهم عنه ؛ لأنهم رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه ، فاستجازوا القعود عنه لذلك ألا ترى أنهم قد قعدوا عن قتال الخوارج لا على أنهم لم يروا قتالهم واجبا لكنه لما وجدوا من كفاهم قتل الخوارج استغنوا عن مباشرة قتالهم ؟

فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ستكون فتنة القائم فيها خير من الماشي والقاعد فيها خير من القائم قيل له : إنما أراد به الفتنة التي يقتتل الناس فيها على طلب الدنيا وعلى جهة العصبية والحمية من غير قتال مع إمام تجب طاعته ، فأما إذا ثبت أن إحدى الفئتين باغية والأخرى عادلة مع الإمام فإن قتال الباغية واجب مع الإمام ومع من قاتلهم محتسبا في قتالهم فإن قالوا : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد : قتلته وهو قد قال لا إله إلا الله إنما يردد ذلك مرارا ، فوجب أن لا يقاتل من قال لا إله إلا الله ولا يقتل قيل له ؛ لأنهم كانوا يقاتلون وهم مشركون حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، كما قال صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها .

فكانوا إذا أعطوا كلمة التوحيد أجابوا إلى ما دعوا إليه من خلع الأصنام واعتقاد التوحيد . ونظير ذلك أن يرجع البغاة إلى الحق فيزول عنهم القتال ؛ لأنهم إنما يقاتلون على إقامتهم على قتال أهل العدل ، فمتى كفوا عن القتال ترك قتالهم ، كما [ ص: 282 ] يقاتل المشركون على إظهار الإسلام فمتى أظهروه زال عنهم ، ألا ترى أن قطاع الطريق والمحاربين يقاتلون ويقتلون مع قولهم لا إله إلا الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية