الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

صديقي يقول بأن الزمن ليس لديه مستقبل..ما تعليقكم؟

السؤال

السلام عليكم

لدي سؤال حول المفهوم الزمني ومصطلح المستقبل في اللغة والدين، لدي صديق يقول: إنه لا يؤمن بوجود مفهوم المستقبل، وأن الزمن ليس لديه مستقبل! قلت له: إننا عندما نتحدث عن الأمور التي لم نرها بعد، نشير إليها عادة باستخدام مصطلح المستقبل.

من الناحية العلمية، ما هو وجه الصواب في هذا الشأن؟ هل يوجد تصوّر آخر أو مصطلح يجب استخدامه بدلاً من "المستقبل"؟ نحن نعرف الماضي والحاضر، لكن كيف نشير إلى الزمن الذي لم يأت بعد؟ نرغب في سماع آرائكم.

لماذا يتحدث الله في القرآن الكريم عن المستقبل بصيغة الماضي؟ والإفادة بخصوص هذا الموضوع.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عز الدين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

موضوع الزمن هو موضوع فلسفي، وعلمي عميق ومعقد، وله تأويلات مختلفة، حسب المجال الذي نتحدث عنه.

- من الناحية العلمية الزمن يُنظر إليه كبُعد رابع يُضاف إلى الأبعاد الثلاثة للفضاء في النسبية الخاصة لأينشتاين، وفي الفيزياء، المستقبل هو جزء من خط الزمن الذي لم يحدث بعد.

على الرغم من أنه لا يمكن لأحد المشاهدة أو الوصول إلى المستقبل بشكل مباشر، يمكن القيام بتوقعات قائمة على الأدلة والقوانين الفيزيائية.

- أما في الفلسفة؛ فهناك تأملات عديدة حول مفهوم الزمن، بعض الفلاسفة يرون أن المستقبل ليس موجودًا بالفعل حتى يحدث، بينما يعتقد آخرون أن الماضي والحاضر والمستقبل أزمنة موجودة بالتساوي، لكن إدراكنا لها يختلف.

- أما في الدين؛ فالقرآن الكريم يتحدث عن المستقبل بصيغ مختلفة، بما في ذلك صيغة الماضي، وذلك قد يُفسر من منظور أن الله عز وجل غير محدود بالزمان والمكان، وأن كل شيء مُقدّر بعلمه وقدرته؛ لذلك يُعبّر عن الأحداث المستقبلية بصيغة الماضي للدلالة على تحققها وقضائها بشكل قطعي في علم الله.

هذا الأسلوب يُعرف أيضًا بـ "أسلوب التقديم" وهو يُعطي معنى التأكيد واليقين، يقول الإمام ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) عند تفسيره للآية الكريمة: ﴿أَتَىٰۤ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ [النحل ١]: صُدِّرَتِ السُّورَةُ بِالوَعِيدِ المَصُوغِ في صُورَةِ الخَبَرِ بِأنْ قَدْ حَلَّ ذَلِكَ المُتَوَعَّدُ بِهِ، فَجِيءَ بِالماضِي المُرادِ بِهِ المُسْتَقْبَلِ المُحَقَّقِ الوُقُوعِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾؛ لِأنَّ النَّهْيَ عَنِ اسْتِعْجالِ حُلُولِ ذَلِكَ اليَوْمِ يَقْتَضِي أنَّهُ لَمّا يَحُلَّ بَعْدُ.

- بخصوص لماذا يتحدث الله تعالى عن المستقبل بصيغة الماضي؟ هذا يتعلق بما يُسمى بـ "الفعل الماضي للتحقيق" في اللغة العربية؛ حيث يُستخدم الماضي للدلالة على التأكيد والقطع بوقوع الشيء في المستقبل، كأسلوب بلاغي يُظهر قوة القدرة الإلهية على إحداث ما يشاء.

- أما بخصوص التعامل مع المستقبل: فنحن كبشر نتعامل مع المستقبل كمفهوم للتخطيط والتوقع، ولكن بمعرفة أن هناك عوامل خارجة عن الإرادة البشرية، يمكن أن تغير الأمور.

المستقبل، كما نفهمه، هو الفترة الزمنية التي لم تحدث بعد، والتي نستعد لها من خلال توقعاتنا وخططنا.

كما أن الدين يُعلم المؤمنين بالتفاؤل والأمل في المستقبل، مع الإيمان بالقضاء والقدر، وأن كل ما هو آت مكتوب ومعلوم عند الله.

- كما أن هناك صلة وثيقة بين مفهوم (الزمن) ومفهوم (القدر) في الإسلام.

تصور معي أن نتأمل في مفهوم القدر وكيفية إدراكنا للزمن من خلال مثال يعتمد على رؤية مختلفة لأحداث قد تجري أمامنا، تشبيهًا بما جاء في النظرية النسبية لأينشتاين.

في الإيمان بالقدر والعلم الأزلي لله تعالى، وهو أحد الأركان الأساسية للإيمان في عقيدة الإسلام، قد يجد البعض صعوبة في استيعاب كيفية علم الله المسبق واللاحق للأحداث.

لنأخذ مثالاً: لو أن سجيناً يطل من نافذة زنزانته فيرى فقط سيارة ذات لون أصفر تعبر أمامه، وهو يمثل "الحاضر" بالنسبة له، في الجهة الأخرى، السجان الذي يقف على سطح الزنزانة لديه منظور أوسع؛ حيث يستطيع رؤية ثلاث سيارات: السيارة الصفراء التي تعبر الآن (الحاضر)، السيارة الخضراء التي لم تصل بعد (المستقبل)، والسيارة الحمراء التي عبرت بالفعل (الماضي).

لكن بالنسبة للسجان، الذي يرى الثلاث سيارات معًا؛ فإن تلك الأزمنة الثلاثة تبدو وكأنها جزء من زمن واحد متصل. بعكس السجين الذي يرى كل سيارة في زمان مختلف.

إذا ما قارنا هذا بعلم الله تعالى؛ فإن الماضي والحاضر والمستقبل ليست سوى جزء من واقع واحد أمام علمه الشامل؛ حيث لا يوجد فرق بينها، وكل الأحداث، بغض النظر عن مكانها في خط الزمن، حاضرة أمامه سبحانه وتعالى.

هذا المثال لا يُقصد به سوى تقريب الفهم لمسألة القدر، وعلم الله الأزلي الذي يحيط بكل شيء، وهو تقريب لا يُمكن أن يحيط بالواقع الإلهي بكل جوانبه، لكنه يساعد في تبسيط معرفة فكرة معقدة، بشكل يمكن للعقل البشري تقبلها.

من الجدير بالذكر أن هناك كتباً ورسائل علمية تحدثت عن مفهوم الزمن في القرآن الكريم، من ذلك على سبيل المثال- لا الحصر-:
- الزمن في القرآن الكريم، (عودة عبد عودة عبد الله). رسالة ماجستير.
- ألفاظ الزمن في القرآن، (علي العريبي). مقالة في مجلة المعجمية-تونس. ع7-1991.
- مفهوم الزمن في القرآن الكريم، (محمد بابا عمي). رسالة ماجستير، وله موقع إليكتروني باسم (علم الزمن والوقت)، ويقول فيه: وأود التنبيه إلى التفريق المعلن بين "الزمن والوقت" وليس من السهل الترجمة إلى لغات أخرى؛ ذلك أنَّ الزمن والوقت سوياً يترجمان بنفس الكلمة، أمَّا في أصول اللغة العربية، وفي أدبيات القرآن الكريم، والسنة الشريفة، وفي نتاج الفكر الإسلامي عبر عصوره؛ ثمة فرق اهتديت إليه، بعد بحث معمَّق ومتأنٍّ؛ وهو أنَّ الزمن غالباً ما يكون لما هو نظريٌّ، وأنَّ الوقت يكون لما هو عمليٌّ؛ وليس أدلَّ على ذلك من أنَّ مادة "زمن" لم ترد في القرآن الكريم ولو مرَّة؛ وأنَّ مادة "وقت" وردت بصيغ مختلفة: "الوقت" و "موقوتاً". انتهى.

نرجو أن يكون فيما عرض سابقاً كفاية لتوضيح متواضع حول مفهوم الزمن.

والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً