الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ الموضع الثالث ]

[ في حكم من طلق في الحيض ]

- وأما الموضع الثالث ( في حكم من طلق في وقت الحيض ) : فإن الناس اختلفوا في ذلك في مواضع : منها : أن الجمهور قالوا : يمضي طلاقه . وقالت فرقة : لا ينفذ ولا يقع .

والذين قالوا : ينفذ قالوا : يؤمر بالرجعة . وهؤلاء افترقوا فرقتين : فقوم رأوا أن ذلك واجب وأنه يجبر [ ص: 446 ] على ذلك ، وبه قال مالك وأصحابه . وقالت فرقة بل يندب إلى ذلك ولا يجبر ، وبه قال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد .

والذين أوجبوا الإجبار اختلفوا في الزمان الذي يقع فيه الإجبار : فقال مالك وأكثر أصحابه ابن القاسم وغيره : يجبر ما لم تنقض عدتها . وقال أشهب : لا يجبر إلا في الحيضة الأولى .

والذين قالوا بالأمر بالرجعة اختلفوا متى يوقع الطلاق بعد الرجعة إن شاء ، فقوم اشترطوا في الرجعة أن يمسكها حتى تطهر من تلك الحيضة ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وجماعة . وقوم قالوا : بل يراجعها ، فإذا طهرت من تلك الحيضة التي طلقها فيها : فإن شاء أمسك وإن شاء طلق ، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون . وكل من اشترط في طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه لم ير الأمر بالرجعة إذا طلقها في طهر مسها فيه .

فهنا إذا أربع مسائل :

أحدها : هل يقع الطلاق أم لا ؟ .

والثانية : إن وقع فهل يجبر على الرجعة أم يؤمر فقط ؟ .

والثالثة : متى يوقع الطلاق بعد الإجبار أو الندب ؟ .

والرابعة : متى يقع الإجبار .

[ المسألة الأولى ]

[ هل يقع الطلاق في الحيض ؟ ]

أما المسألة الأولى : فإن الجمهور إنما صاروا إلى أن الطلاق إن وقع في الحيض اعتد به ، وكان طلاقا ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر : " مره فليراجعها " . قالوا : والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق ، وروى الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج : " أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم " . وروي أنه الذي كان يفتي به ابن عمر .

وأما من لم ير هذا الطلاق واقعا فإنه اعتمد عموم قوله صلى الله عليه وسلم : " كل فعل أو عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " . وقالوا : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برده يشعر بعدم نفوذه ووقوعه .

وبالجملة فسبب الاختلاف : هل الشروط التي اشترطها الشرع في الطلاق السني هي شروط صحة وإجزاء ، أم شروط كمال وتمام ؟ .

فمن قال : شروط إجزاء قال : لا يقع الطلاق الذي عدم هذه الصفة . ومن قال : شروط كمال وتمام قال : يقع ، ويندب إلى أن يقع كاملا ، ولذلك من قال بوقوع الطلاق وجبره على الرجعة فقد تناقض ، فتدبر ذلك .

[ المسألة الثانية ]

[ إن وقع الطلاق في الحيض هل يجبر على الرجعة ؟ ]

وأما المسألة الثانية ( وهي هل يجبر على الرجعة أو لا يجبر ؟ ) : فمن اعتمد ظاهر الأمر - وهو الوجوب [ ص: 447 ] على ما هو عليه عند الجمهور - قال : يجبر . ومن لحظ هذا المعنى الذي قلناه من كون الطلاق واقعا قال : هذا الأمر هو على الندب .

[ المسألة الثالثة ]

[ متى يوقع الطلاق بعد الإجبار ؟ ]

وأما المسألة الثالثة ( وهي : متى يوقع الطلاق بعد الإجبار ) : فإن من اشترط في ذلك أن يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، فإنما صار لذلك لأنه المنصوص عليه في حديث ابن عمر المتقدم ، قالوا : والمعنى في ذلك لتصح الرجعة بالوطء في الطهر الذي بعد الحيض ، لأنه لو طلقها في الطهر الذي بعد الحيضة لم يكن عليها من الطلاق الآخر عدة لأنه كان يكون كالمطلق قبل الدخول .

وبالجملة فقالوا : إن من شرط الرجعة وجود زمان يصح فيه الوطء ، وعلى هذا التعليل يكون من شروط طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يطلق في الحيضة التي قبله ، وهو أحد الشروط المشترطة عند مالك في طلاق السنة فيما ذكره عبد الوهاب .

وأما الذين لم يشترطوا ذلك ، فإنهم صاروا إلى ما روى يونس بن جبير وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ومن تابعهم عن ابن عمر في هذا الحديث أنه قال : " يراجعها ، فإذا طهرت طلقها إن شاء " . وقالوا : المعنى في ذلك : أنه إنما أمر بالرجوع عقوبة له ، لأنه طلق في زمان كره له فيه الطلاق ، فإذا ذهب ذلك الزمان وقع منه الطلاق على وجه غير مكروه .

فسبب اختلافهم : تعارض الآثار في هذه المسألة ، وتعارض مفهوم العلة .

[ المسألة الرابعة ]

[ متى يجبر على الرجعة ؟ ]

وأما المسألة الرابعة ( وهي : متى يجبر ) : فإنما ذهب مالك إلى أنه يجبر على رجعتها لطول زمان العدة لأنه الزمان الذي له فيه ارتجاعها . وأما أشهب فإنه إنما صار في هذا إلى ظاهر الحديث ، لأن فيه : " مره فليراجعها حتى تطهر " . فدل ذلك على أن المراجعة كانت في الحيضة ، وأيضا فإنه قال : إنما أمر بمراجعتها لئلا تطول عليها العدة ، فإنه إذا وقع عليها الطلاق في الحيضة لم تعتد بها بإجماع ، فإن قلنا : إنه يراجعها في غير الحيضة كان ذلك عليها أطول ، وعلى هذا التعليل فينبغي أن يجوز إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة .

فسبب الاختلاف : هو سبب اختلافهم في علة الأمر بالرد .

التالي السابق


الخدمات العلمية