الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ المسألة الثانية ]

[ حكم الجماع في الصوم ناسيا ]

وأما المسألة الثانية - وهو إذا جامع ناسيا لصومه - : فإن الشافعي وأبا حنيفة يقولان : لا قضاء عليه ولا كفارة . قال مالك : عليه القضاء دون الكفارة . وقال أحمد وأهل الظاهر عليه القضاء والكفارة .

وسبب اختلافهم في قضاء الناسي : معارضة ظاهر الأثر في ذلك للقياس .

وأما القياس : فهو تشبيه ناسي الصوم بناسي الصلاة . فمن شبهه بناسي الصلاة أوجب عليه القضاء كوجوبه بالنص على ناسي الصلاة .

وأما الأثر المعارض بظاهره لهذا القياس : فهو ما خرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " . وهذا الأثر يشهد له عموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .

ومن هذا الباب اختلافهم فيمن ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ثم ظهرت الشمس بعد ذلك ، هل عليه قضاء أم لا ؟ وذلك أن هذا مخطئ ، والمخطئ والناسي حكمهما واحد ، فكيفما قلنا فتأثير النسيان في إسقاط القضاء بين - والله أعلم - ، وذلك أنا إن قلنا : إن الأصل هو أن لا يلزم الناسي قضاء حتى يدل الدليل [ ص: 254 ] على ذلك وجب أن يكون النسيان لا يوجب القضاء في الصوم ، إذ لا دليل هاهنا على ذلك بخلاف الأمر في الصلاة ، وإن قلنا : إن الأصل هو إيجاب القضاء حتى يدل الدليل على رفعه عن الناسي، فقد دل الدليل في حديث أبي هريرة على رفعه عن الناسي ، اللهم إلا أن يقول قائل : إن الدليل الذي استثنى ناسي الصوم من ناسي سائر العبادات التي رفع عن تاركها الحرج بالنص هو قياس الصوم على الصلاة ، ولكن إيجاب القضاء فيه ضعف ، وإنما القضاء عند الأكثر واجب بأمر متجدد .

وأما من أوجب القضاء والكفارة على المجامع ناسيا فضعيف ، فإن تأثير النسيان في إسقاط العقوبات بين في الشرع ، والكفارة من أنواع العقوبات ، وإنما أصارهم إلى ذلك أخذهم بمجمل الصفة المنقولة في الحديث - أعني : من أنه لم يذكر فيه أنه فعل ذلك عمدا ولا نسيانا - ، لكن من أوجب الكفارة على قاتل الصيد نسيانا لم يحفظ أصله في هذا، مع أن النص إنما جاء في المتعمد ، وقد كان يجب على أهل الظاهر أن يأخذوا بالمتفق عليه ، وهو إيجاب الكفارة على العامد إلى أن يدل الدليل على إيجابها على الناسي ، أو يأخذوا بعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " حتى يدل الدليل على التخصيص ، ولكن كلا الفريقين لم يلزم أصله ، وليس في مجمل ما نقل من حديث الأعرابي حجة . ومن قال من أهل الأصول إن ترك التفصيل في اختلاف الأحوال من الشارع بمنزلة العموم في الأقوال فضعيف ، فإن الشارع لم يحكم قط إلا على مفصل ، وإنما الإجمال في حقنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية