الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول فيه يشتمل على خمسة فصول بعد القول بوجوبه : الفصل الأول : في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها . [ ص: 488 ] الفصل الثاني : في صفات المتلاعنين . الثالث : في صفة اللعان . الرابع : في حكم نكول أحدهما ، أو رجوعه . الخامس : في الأحكام اللازمة لتمام اللعان .

فأما الأصل في وجوب اللعان : أما من الكتاب فقوله تعالى : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ) . الآية . وأما من السنة فما رواه مالك ، وغيره من مخرجي الصحيح من حديث عويمر العجلاني " إذ جاء إلى عاصم بن عدي العجلاني رجل من قومه ، فقال له : يا عاصم ، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله ، فتقتلوه ؟ أم كيف يفعل ؟ سل يا عاصم عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عاصم عن ذلك رسول الله ، فلما رجع عاصم إلى أهله جاء عويمر فقال : يا عاصم ، ماذا قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة التي سألت عنها ، فقال : والله لا أنتهي حتى أسأله عنها ، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط الناس ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله ، فتقتلوه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قد نزل فيك وفي صاحبتك قرآن ، فاذهب فأت بها ، وقال سهل : فتلاعنا ، وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا من تلاعنهما ، قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ! فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم " . قال مالك : قال ابن شهاب : فلم تزل تلك سنة المتلاعنين .

وأيضا من جهة المعنى لما كان الفراش موجبا للحوق النسب كان بالناس ضرورة إلى طريق ينفونه به إذا تحققوا فساده ، وتلك الطريق هي اللعان ، فاللعان حكم ثابت بالكتاب ، والسنة ، والقياس ، والإجماع ، إذ لا خلاف في ذلك أعلمه ، فهذا هو القول في إثبات حكمه .

الفصل الأول في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها .

وأما صور الدعاوي التي يجب بها اللعان فهي أولا صورتان : إحداهما دعوى الزنا ، والثانية نفي الحمل .

ودعوى الزنا لا يخلو أن تكون مشاهدة ( أعني أن يدعي أنه شاهدها تزني كما يشهد الشاهد على الزنا ) ، وأن تكون دعوى مطلقة .

وإذا نفي الحمل فلا يخلو أن ينفيه أيضا نفيا مطلقا ، أو يزعم أنه لم يقربها بعد استبرائها ، فهذه أربعة أحوال بسائط ، وسائر الدعاوي تتركب عن هذه ، مثل أن يرميها بالزنا وينفي الحمل ، أو يثبت الحمل ويرميها بالزنا .

فأما وجوب اللعان بالقذف بالزنا إذا ادعى الرؤية فلا خلاف فيه ، قالت المالكية : إذا زعم أنه لم يطأها بعد .

[ ص: 489 ] وأما وجوب اللعان بمجرد القذف ، فالجمهور على جوازه : الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد ، وداود ، وغيرهم . وأما المشهور عن مالك : فإنه لا يجوز اللعان عنده بمجرد القذف ، وقد قال ابن القاسم أيضا إنه يجوز ، وهي أيضا رواية عن مالك . وحجة الجمهور عموم قوله تعالى : ( والذين يرمون أزواجهم ) . الآية . ولم يخص في الزنا صفة دون صفة ، كما قال في إيجاب حد القذف . وحجة مالك ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك . منها قوله في حديث سعد : " أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا " ، وحديث ابن عباس ، وفيه : " فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : والله يا رسول الله لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به واشتد عليه ، فنزلت : " والذين يرمون أزواجهم " الآية ، وأيضا فإن الدعوى يجب أن تكون ببينة كالشهادة . وفي هذا الباب فرع اختلف فيه قول مالك ، وهو إذا ظهر بها حمل بعد اللعان ، فعن مالك في ذلك روايتان : إحداهما سقوط الحمل عنه ، والأخرى لحوقه به .

واتفقوا فيما أحسب أن من شرط الدعوى الموجبة اللعان برؤية الزنا أن تكون في العصمة . واختلفوا فيمن قذف زوجته بدعوى الزنا ، ثم طلقها ثلاثا هل يكون بينهما لعان أم لا ؟ فقال مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، وجماعة : بينهما لعان; وقال أبو حنيفة : لا لعان بينهما إلا أن ينفي ولدا ولا حد ; وقال مكحول ، والحكم ، وقتادة : يحد ولا يلاعن .

وأما إن نفى الحمل : فإنه كما قلنا على وجهين : أحدهما أن يدعي أنه استبرأها ولم يطأها بعد الاستبراء ، وهذا ما لا خلاف فيه . واختلف قول مالك في الاستبراء ، فقال مرة : ثلاث حيض ، وقال مرة : حيضة . وأما نفيه مطلقا ، فالمشهور عن مالك أنه لا يجب بذلك لعان . وخالفه في هذا الشافعي ، وأحمد ، وداود ، وقالوا : لا معنى لهذا لأن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم; وحكى عبد الوهاب عن أصحاب الشافعي أنه لا يجوز نفي الحمل مطلقا من غير قذف .

واختلفوا من هذا الباب في فرع ، وهو وقت نفي الحمل ، فقال الجمهور : ينفيه وهي حامل ، وشرط مالك أنه متى لم ينفه وهو حمل لم يجز له أن ينفيه بعد الولادة بلعان; وقال الشافعي : إذا علم الزوج بالحمل فأمكنه الحاكم من اللعان فلم يلاعن لم يكن له أن ينفيه بعد الولادة; وقال أبو حنيفة : لا ينفي الولد حتى تضع .

وحجة مالك ، ومن قال بقوله الآثار المتواترة من حديث ابن عباس ، وابن مسعود ، وأنس ، وسهل بن سعد : " أن النبي - عليه الصلاة والسلام - حين حكم باللعان بين المتلاعنين قال : إن جاءت به على صفة كذا فما أراه إلا قد صدق عليها " ، قالوا : وهذا يدل على أنها كانت حاملا في وقت اللعان . وحجة أبي حنيفة أن الحمل قد ينفش ويضمحل ، فلا وجه للعان إلا على يقين . ومن حجة الجمهور : أن الشرع قد علق بظهور الحمل أحكاما كثيرة : كالنفقة ، والعدة ، ومنع الوطء ، فوجب أن يكون قياس اللعان كذلك ، وعند أبي حنيفة أنه يلاعن ، وإن لم ينف الحمل إلا وقت الولادة ، وكذلك ما قرب من الولادة ، ولم يوقت [ ص: 490 ] في ذلك وقتا ، ووقت صاحباه أبو يوسف ، ومحمد ، فقالا : له أن ينفيه ما بين أربعين ليلة من وقت الولادة; والذين أوجبوا اللعان في وقت الحمل اتفقوا على أن له نفيه في وقت العصمة ، واختلفوا في نفيه بعد الطلاق ، فذهب مالك إلى أنه له ذلك في جميع المدة التي يلحق الولد فيها بالفراش ، وذلك هو أقصى زمان الحمل عنده ، وذلك نحو من أربع سنين عنده ، أو خمس سنين ، وكذلك عنده حكم نفي الولد بعد الطلاق إذا لم يزل منكرا له ، وبقريب من هذا المعنى قال الشافعي . وقال قوم : ليس له أن ينفي الحمل إلا في العدة فقط ، وإن نفاه في غير العدة حده وألحق به الولد ، فالحكم يجب به عند الجمهور إلى انقضاء أطول مدة الحمل على اختلافهم في ذلك ، فإن الظاهرية ترى أن أقصر مدة الحمل التي يجب بها الحكم هو المعتاد من ذلك ، وهي التسعة أشهر وما قاربها ، ولا اختلاف بينهم أنه يجب الحكم به في مدة العصمة ، فما زاد على أقصر مدة الحمل وهي الستة أشهر ( أعني : أن يولد المولود لستة أشهر من وقت الدخول أو إمكانه ، لا من وقت العقد ) ، وشذ أبو حنيفة ، فقال : من وقت العقد ، وإن علم أن الدخول غير ممكن . حتى أنه إن تزوج عنده رجل بالمغرب الأقصى امرأة بالمشرق الأقصى ، فجاءت بولد لرأس ستة أشهر من وقت العقد أنه يلحق به إلا أن ينفيه بلعان ، وهو في هذه المسألة ظاهري محض ، لأنه إنما اعتمد في ذلك عموم قوله عليه - الصلاة والسلام : " الولد للفراش " ، وهذه المرأة قد صارت فراشا له بالعقد ، فكأنه رأى أن هذه عبادة غير معللة ، وهذا شيء ضعيف .

واختلف قول مالك من هذا الباب في فرع ، وهو أنه إذا ادعى أنها زنت واعترف بالحمل ، فعنه في ذلك ثلاث روايات : إحداها أنه يحد ، ويلحق به الولد ، ولا يلاعن . والثانية : أنه يلاعن وينفي الولد . والثالثة : أنه يلحق به الولد ويلاعن ليدرأ الحد عن نفسه . وسبب الخلاف : هل يلتفت إلى إثباته مع موجب نفيه وهو دعواه الزنا ؟

واختلفوا أيضا من هذا الباب في فرع وهو : إذا أقام الشهود على الزنا هل له أن يلاعن أم لا ؟ فقال أبو حنيفة ، وداود : لا يلاعن ، لأن اللعان إنما جعل عوض الشهود لقوله تعالى : " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " الآية . وقال مالك ، والشافعي : يلاعن ، لأن الشهود لا تأثير لهم في دفع الفراش .

التالي السابق


الخدمات العلمية