الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المـدخـل

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

وبعد:

فإن الله عز وجل كرم بني آدم، وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، ونهاهم عن كل ما يؤدي إلى الإفساد بدينهم، والإضرار بمصلحتهم. ولقد أوجبت الشريعة الإسلامية حماية الضروريات الخمس التي يقوم عليها بناء المجتمع الصالح: أي حماية النفس والعقل والدين والمال والعرض. وجاءت النصوص المحكمة تحرم كل ما يلحق الضرر بشيء من هـذه الضروريات.

والعقل من أعظم النعم التي أفاء الله بها على بني البشر، وجعله شرطا لتحمل التكاليف الشرعية بكل جوانبها. واعتبر العبث بهذه النعمة، والعمل على إفسادها بأية وسيلة كانت من الجرائم الكبرى التي تعطل أهم ملكات الإنسان، التي تدفعه للتفكير في ذاته، والنظر في خلق الله، والتدبر في الكون من حوله، والاستفادة من كل ما سخره الله عز وجل لإسعاده وإسعاد البشرية جمعاء؛ [ ص: 13 ] يقول الله تعالى: ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) - (البقرة:164) .

ومما يدعو للأسى، أن نرى هـذا الإنسان يقوم بالاعتداء على هـذه النعمة بفعله أو بتأثير غيره، فيعمد إلى إتلافها من جراء تعاطي المخدرات والمسكرات، التي عمت بلواها أرجاء الأرض كافة.

وحينما نبدأ بالحديث عن المخدرات، نجد أنفسنا أمام قضيتين تناقض إحداهما الأخرى. أما أولاهما فتستند إلى القواعد الدينية أو الأخلاقية التي تدين تعاطي المخدرات جملة واحدة، وتعتبرها من أخطر السموم على العقل والبدن وتؤدي إلى فقدان التوازن البدني والنفسي.

والثانية هـي الواقع الأليم الماثل أمام أعيننا، والذي يتجلى بانتشار المخدرات في المجتمعات جميعها، كانتشار النار في الهشيم؛ انتشارا يأخذ بالازدياد يوما بعد يوم، دون الالتفات إلى الأخطار التي تقود إلى إفساد الفرد والمجتمع على المستويات كافة.

ويعتبر إدمان المخدرات، من أهم سمات المجتمعات الحرة؛ أو بالأصح المجتمعات التي تحررت من كل قيد أخلاقي، فانساقت كالثور الهائج وراء لذاتها وشهواتها. وتفاقمت المشكلات المعقدة [ ص: 14 ] في هـذه المجتمعات، واستعصت على الحل حتى على أيدي أبرع النطاسيين والخبراء في العالم.

ومن العجيب أن ترى جميع الناس يعتقدون أن الأطباء هـم أفضل من يعرف التعامل مع الدواء واستعماله ووصفه بلا منازع. بيد أنه استقر في عقلية الناس عامة، وعلى مستوياتهم كافة أن الأطباء لا يصلحون إلا لمعالجة المرضى، وليس من شأنهم أبدا الحفاظ على الصحة، ووضع القواعد الأساسية لحمايتها من كل داء وبيل. ومن هـنا نجد الميل الواضح إلى عدم استشارة الأطباء، والإذعان إلى نصائحهم إلا بعد أن تكون هـذه الصحة قد وقعت تحت تأثير عقار أو أكثر فأدى إلى أذية بدنية أو عقلية متفاقمة.

ولم تعد هـذه المشكلة قاصرة على نوع واحد من المخدرات، أو على قطر معين، أو طبقة محددة من الناس؛ بل أصبحنا نرى المجتمعات الصناعية الحديثة، تطرح لنا كل يوم عقارا أو دواء جديدا، يأخذ بالعقل ويوقع في البلاهة والخبل؛ ثم تعاقب تعاطي المخدرات في الأقطار كافة شرقا وغربا على حد سواء. وبعد أن كان استهلاك هـذه السموم يقتصر في الماضي على الطبقات الراقية المترفة؛ أصبحت اليوم جميع الطبقات فريسة لهذا الإدمان الجنوني.

ومن الجدير بالذكر، أن كثيرا من المواد قد ألفتها بعض الشعوب، فأصبحت جزءا من حياتها اليومية، بل إن كثيرا من الناس [ ص: 15 ] يقدمونها على حاجاتهم الأساسية، كالغذاء والدواء والكساء. وقد أدى هـذا الائتلاف إلى أن تتراجع هـذه الشعوب إلى مؤخرة الأمم، من حيث التنمية والإنتاج، ناهيك عن التخلف العقلي والبدني. ولقد أورد المكتب العربي لشئون المخدرات في أحد تقاريره (أن الجمهورية العربية اليمنية تخسر سنويا ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة مليون ساعة عمل هـو الوقت الهائل الذي يضيع على أبناء اليمن بسبب مضغ أوراق القات وتخزينه، وهو وقت تتبين قيمته في التنمية المطلوبة لهذا البلد الإسلامي، فيصيب اقتصادها بخسائر فادحة، فضلا عن ألف مليون ريال ثمنا للقات الذي يستهلكه المواطنون) .

ونستطيع أن نقول مثل ذلك في مضغ أوراق الكوكا والبتلة والإفراط في تناول القهوة والشاي والكاكاو وتعاطي المشروبات الغولية بأنواعها كافة، وتدخين الحشيش والماريوانا؛ وأثر كل ذلك في إحداث المفاسد الكثيرة في الفرد والمجتمع على حد سواء.

إن نظرة سريعة إلى الجداول الإحصائية، التي تنشرها المكاتب المتخصصة في العالم، تبين بشكل لا يقبل الجدل، خطر هـذه المأساة التي لم ينج منها عالمنا الإسلامي والعربي مع الأسف الشديد. وبدأت آثارها تنعكس على تطور الجريمة، وتفكك العائلة، والانحطاط الخلقي، والتخلف الصحي، والعقلي، والولادات المشوهة.. وما إلى ذلك من آثار بدأت تتكشف لنا يوما [ ص: 16 ] بعد يوم. وما انتشار مرض العصر (الإيدز) إلا إحدى نتائج تعاطي هـذه الموبقات.

ولقد نبه هـذا السلطات المسئولة في العالم لتجمع جهودها وتقف أمام هـذا الخطر الداهم، واعتبرت دول السوق الأوربية المشتركة عام 1987م عام مكافحة المخدرات.

فما أحرى السلطات الإسلامية والعربية المسئولة، أن تتنادى للتعاون في اتخاذ جميع الإجراءات التي تتكفل بوقاية مجتمعاتنا من هـذا الداء الوبيل قبل أن يستفحل، وأن تعنى بتربية الأجيال التربية الإسلامية والخلقية السامية التي تعتبر وحدها السبيل لبناء الفرد والمجتمع الصالح.

من هـنا جاءت عنايتنا بهذه المشكلة، وإعدادنا لهذه الدراسة التي نضعها بين يدي شبابنا الإسلامي والعربي ومسئوليه ليطلعوا عن كثب على أخطار هـذه السموم الفظيعة، فيتقوها قبل أن يقعوا فيها. وبذلك يحفظون دينهم وصحتهم ومالهم ووقتهم وعقلهم ونسلهم ويساهمون مساهمة فعالة في بناء أمتهم في عصر أشد ما نحتاج فيه إلى طاقات الشباب وجهودهم في البناء والتنمية.. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل**

الدكتور محمد محمود الهواري [ ص: 17 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية