الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ابن خلدون وفلسفة التاريخ

          يبدو أن مهمة (علم العمران) كما تصورها ابن خلدون هـي (تمحيص الأخبار) ، على أن الدراسة المتأنية لعلم العمران الخلدوني، تخرج باستنتاجات عديدة عن هـوية علم العمران فهل يمكن أن يعد (علم الاجتماع) أو (فلسفة التاريخ) ، أو هـو علم في المنهج، على غرار المنطق، أو هـو فلسفة سياسية؟ ) [1] .

          إن دراسة ابن خلدون للظواهر الاجتماعية، يمكن أن ترتقي بعلمه الجديد (علم العمران) ، إلى مصاف الدراسات التي تتصل في صميم فلسفة التاريخ، وبالتالي فإن ابن خلدون يمكن أن يكون أول فيلسوف للتاريخ، وأول من فلسفه، بل ويكون منشئ فلسفة التاريخ على صعيد الفكر الإنساني [2] .

          لقد استخدم فولتير مصطلح ( فلسفة التاريخ ) ، لأول مرة في القرن الثامن عشر، في كتابه الموسوم (طبائع الأمم وفلسفة التاريخ) ، الذي أصدره سنة (1756م) [3] ، لقد كان فولتير يعني به دراسة التاريخ الحضاري للأمم من وجهة نظر عقلية ناقدة، ثم توالت الدراسات في هـذا الحقل، وأصبحت له مقومات معينة يقوم عليها هـي: [ ص: 141 ]

          1- الكلية: تهدف فلسفة التاريخ إلى البحث عن المعاني الكلية في أحداث التاريخ وتجميعها في مختلف العصور، بغية الوصول إلى قوانين كلية تفسر لنا التاريخ الإنساني.

          2-العلية: هـي اتجاه فلسفة التاريخ، تقوم على تجاوز العلل الجزئية التي يفسر بها المؤرخون الوقائع الفردية المحصورة في زمان ومكان محددين، إلى محاولة العثور على (علة عامة) أو أكثر، لتفسير مجمل حوادث التاريخ الإنساني.

          وبهذا فإن مقولات التاريخ تختلف عن مقولات فلسفة التاريخ اختلافا جوهريا، فأصبحت النظرة الكلية بديلا عن النظرة الفردية، كما تجاوزت فلسفة التاريخ مقولتي الزمان والمكان إلى ما وراء الزمان والمكان [4] .

          لقد تنبه الكثير من الباحثين وخاصة في الغرب، إلى أن مقدمة ابن خلدون التي كتبت في القرن الثامن الهجري، والتي سبقت مؤلف فولتير آنف الذكر بأربعة قرون تقريبا، قد تضمنت (فلسفة للتاريخ) ، وهذا برر إعلانهم عن أن ابن خلدون يعد المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ، أو بعبارة أخرى هـو رائد ومؤسس هـذا النوع من الدراسة [5] . [ ص: 142 ]

          لقد حاول ابن خلدون أن يدرس تاريخ أوسع مساحة من العالم التي سنحت له فرص دراستها، فقد درس تاريخ شمال أفريقيا والأندلس ، وتاريخ الدولة العربية الإسلامية في الشرق، إضافة إلى تواريخ الفرس والروم .. وقد حاول ابن خلدون أن يخرج بهذه الدراسة عن نظريات عامة عن العصبية والدولة والحضارة، والظاهرات الاجتماعية، مما يجعل من ابن خلدون رائدا لدراسة التاريخ على أساس حضاري[6] .

          وإذا كان بعض الباحثين انتقد ابن خلدون؛ لأن دراساته في نظرهم، تفتقد إلى (الصفة الكلية) ، لأنه لم يقم باستقراء شامل لتاريخ العالم، حيث قصر دراسته على تاريخ العرب، بمشرقه ومغربه [7] ، فإن الدكتور الملاح يرى أن هـذا الحكم فيه بعض المبالغة، إذ أن دراسة ابن خلدون تضمنت إضافة إلى التاريخ الإسلامي، تواريخ بعض الإمبراطوريات القديمة التي سبقت المسلمين أو عاصرتهم، كما أن تخلف المواصلات في العصور الوسطى تعطي العذر لابن خلدون في ضيق مجال دراساته [8] .

          العلية: أما بحث ابن خلدون في مقدمته عن العلة أو العلل في التاريخ، فقد أوضح أن التاريخ (هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول) [9] . [ ص: 143 ]

          غير أنه يرى أن هـذه الأخبار من التاريخ، تمثل الأمور الظاهرية، التي يتساوى في فهمها العلماء والجهال، بينما هـو يتجاوز هـذه المظاهر إلى البحث عن العلل والأسباب المحركة للأحداث.. يقول ابن خلدون في وصف مهمة التاريخ الرئيسة : (وفي باطنه نظر وتحقيق، وتحليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق) [10] .

          وهكذا فإن ما يهم ابن خلدون من التاريخ؛ النظر في بواطنه، وليس في ظاهره، ولذا فقد توصل ابن خلدون إلى دراسة التاريخ وفقا لمنهج يمكن عده من ضمن الدراسات الفلسفية: (الحكمة) .. فالتاريخ طبقا لمنظور ابن خلدون، (أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق) [11] .

          لقد كان ابن خلدون مدينا لتراث أمته في بلورة نظرية (علم العمران) ، على أن ملكاته وقدراته ومواهبه وعبقريته، كان لها جميعا أكبر الأثر في النجاح الذي أحرزه في ميدان التفسير الحضاري للتاريخ.

          ورغم مرور ما ينيف على ستة قرون على وفاة ابن خلدون، فإنه ما يزال يشغل أذهان الباحثين والمفكرين المعاصرين. [ ص: 144 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية