الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الخبر والتاريخ

          " الخبر : واحد الأخبار... وخبر الأمر: علمه... والخبر بالضم وهو العلم بالشيء.. والخبير: العالم " [1] .

          والخبر كان أحد علوم العرب قبل الإسلام، مثل الفقه، والأيام، والأنساب، والشعر، فكانت للعرب أخبار في مرحلة ما قبل الإسلام [2] .

          كان الخبر وسيلة لمعرفة الحدث أو الشيء، ويعد التعبير عن فكرة التاريخ قبل الإسلام، أي أنه كان يعني مضمون التاريخ؛ لأن العرب لم يتداولوا التاريخ أو يؤلفوا فيه قبل الإسلام، مثلما تداولوه وألفوا فيه في الإسلام [3] . [ ص: 86 ]

          لذلك فإن الخبر أسبق من التاريخ عند العرب، وعرفوه قبل أن يعرفوا التاريخ بمدلوله الاصطلاحي.

          ويتميز الخبر قبل الإسلام بارتباطه بالرواية الشفوية، بمعنى أنه لم يظهر بمظهر كتابي إلا في النقوش، وذلك يعود إلى قلة التدوين وشيوع الأمية في الحياة العربية، واعتماد العرب على الذاكرة في الحفظ، حتى لم تتوفر لأي شعب أو أمة ما كان لهم، وما عرفوا به من قوة الذاكرة [4] .

          فلما جاء الإسلام، أصبحت الأخبار ترتبط بالإسلام.. والظاهر أن رسالة الإسلام وخاصة في عصر الرسالة والراشدين، قد شغلت العرب عما كان لهم في جاهليتهم من أخبار، فصارت الأخبار في خدمة الإسلام، وخاصة فيما يتعلق بالحديث النبوي الشريف [5] .

          وبسبب قدم الخبر على الإسلام، أي على الحديث النبوي الشريف، فقد ظل للخبر كيان خاص به، حتى في أيام الأمويين والعباسيين، فظل يعرف بعلم الأخبار، وعرف رواة الأخبار ونقلتها بالإخباريين [6] ، حتى إن بعض المصنفات المبكرة في التدوين التاريخي أخذت عناوين ابتدأت بـ (الإخبار) أو (إخبار) مثل : (الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري (ت: 282 هـ) ، و (أخبار العلماء بأخبار الحكماء) لابن القفطي .

          ظل الخبر في الثقافة العربية الإسلامية ، يتمتع بأهمية كبيرة، على الرغم من أن التاريخ -بالمفهوم الذي تعنيه الكلمة الإنكليزية ‎ [ ص: 87 ] (Historiography) التي يقصد بها كتب التاريخ، أو التدوين التاريخي - قد حجب الخبر وحجمه إلى حد ما [7] .

          فها هـو التاريخ في تعاريف بعض فحول مؤرخي الإسلام، عبارة عن خبر أو أخبار، رغم التطور الذي شهدته الكتابة التاريخية، فالمسعودي يعرف التاريخ بأنه: ( علم من الأخبار ) [8] ، وابن خلدون يعرفه بأنه: ( ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل ) [9] .

          ولأحد الباحثين المعاصرين تصور دقيق عن فاعلية الخبر ودوره المتميز في الثقافة العربية الإسلامية، فالتاريخ على حد تعبيره، ليس علما للواقع بل معرفة بخبر عن الواقع، فكتابة التاريخ إخبار وإعلام عن الحادثات الماضية [10] .

          ولأن التاريخ خبر، فهو يشابه الفقه والحديث والشعر؛ لأنها هـي الأخرى أخبار، غير أن الفرق بين التاريخ كونه خبرا، وبين الأطر الأخرى في الثقافة العربية الإسلامية باعتبارها أخبارا كالفقه والحديث والخراج، هـو في (تعيين الوقت) لحادث من الحوادث.. فالخبر التاريخي يحدد أو يعين زمن وقوع حدث أو شيء بالنسبة لشيء حدث قبله ضمن إطار تقويمي معين [11] . [ ص: 88 ]

          وانطلاقا من اعتبار الخوارزمي علم الأخبار أحد العلوم العربية الستة وهي: علم الكلام، وأصول الفقه، والنحو، والشعر، والأخبار، والكتابة [12] ، فإن إدماج التاريخ في هـذا الإطار الأوسع للخبر (أعني الفقه والحديث.. إلخ) ، يتمخض عنه (إدماج سوسيولوجي " اجتماعي " ثقافي للفاعلية التاريخية في الأطر الأوسع للثقافة العربية الإسلامية) [13] .

          وإذا كان التاريخ قد حجب الخبر إلى حد ما، فمن الممكن التمييز بين الاثنين، فالخبر يعد مادة ساذجة، فهو الحدث أو الواقعة، أو العلم المباشر بحدوث شيء، أما التاريخ فهو موضوع يتضمن عدة أخبار، مع ضرورة توفر الإحساس لدى المؤرخ وفهمه لتلك الأخبار، والتعاقب المرتبط بها.. إضافة إلى أن التاريخ عكس الخبر، (فإنه يستحسن ألا يكون التاريخ هـو المعرفة المباشرة للنظر فيه) [14] .

          ولكن متى حل التاريخ محل الخبر؟

          لا يستطيع المرء أن يعين تاريخا محددا دقيقا لظهور مصطلح التاريخ كبديل عن الخبر، أي عندما ظهرت كلمة التاريخ بمعنى (كتب التاريخ) ، ويرى ( روزنثال ) أن كلمة التاريخ (كانت راسخة الكيان بهذا المعنى منذ القرن الثاني الهجري) [15] . وهذا يعني أن المصطلح قد جاء [ ص: 89 ] تبعا للتطور الذي مرت به الأمة خلال حقبتين: ما قبل الإسلام، والمرحلة الإسلامية.. فالخبر كان المعرفة السائدة عند العرب قبل الإسلام، ثم استمر حتى بعد ظهور الإسلام، وظهر بأجلى صوره في مدونات الإخباريين، كما مر معنا، غير أن الخبر تبعا لحالة التطور، أصبح لا يفي بالمتطلبات الثقافية والحضارية، الأمر الذي سوغ ظهور التاريخ واستخدامه في التدوين التاريخي بديلا عن الخبر، الذي أخذ بالتراجع منذ القرن الثاني الهجري.

          ويستطيع المتتبع لنشأة التدوين التاريخي عند العرب المسلمين أن يلحظ بداية هـذا التراجع للخبر منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وبداية شيوع كلمة (التاريخ) كعناوين لمصنفات كتبها إخباريون أو مؤرخون فيما بعد، فلعوانة بن الحكم (ت: 147 هـ) كتاب اسمه: (كتابة التاريخ) .. و (التاريخ على السنين) ، كان عنوانا لكتاب ألفه الهيثم ابن عدي (ت: 207هـ) .. وكتاب (التاريخ الكبير) للواقدي (ت: 207) .. وكتاب (التاريخ) لخليفة بن خياط (ت : 240 هـ) [16] .. إلخ.

          على أن المصطلحين قد تعايشا فترة من الزمن، بعد ظهور مصطلح التاريخ، فنجد في مؤلفات بعض الإخباريين تأليفا في كلا المصطلحين: فالهيثم بن عدي (ت: 207 هـ) الذي ألف كتابا (في التاريخ على السنين) ولم يصلنا، ألف إلى جانبه كتابين هـما: (أخبار الحسن ووفاته) ، وكتاب (أخبار الفرس) [17] . [ ص: 90 ]

          كما كتب المدائني (ت: 225هـ) (كتاب أخبار أبي طالب) ، و (كتاب خبر الحكم بن أبي العاص) ، وكتاب (أخبار الشعراء) ، و (خبر الجسر) ، و (خبر القادسية) ، إلى جانب (كتاب تاريخ أعمار الخلفاء) ، و (كتاب تاريخ الخلفاء) إلخ [18] .

          ‎ وقد لاحظ الباحث أن كثيرا من الكتاب الإخباريين قد استعملوا كلمة (كتاب) دون استخدام لكلمة (خبر) أو (تاريخ) ، وكأن استخدام كلمة (كتاب) كانت تقوم مقام (الخبر) ومقام (التاريخ) في فترة أسبق.

          فلعوانة بن الحكم (ت: 147هـ) (كتاب سيرة معاوية وبني أمية) ولهشام بن الكلبي (ت: 206 هـ) كتب هـي: " كتاب حلف عبد المطلب وخزاعة، كتاب حلف الفضول، كتاب ملوك اليمن من التبابعة، (كتاب اليمن) [19] . وللواقدي (ت: 207 هـ) كتاب أخبار مكة ، كتاب فتوح الشام ، كتاب فتوح العراق " إلخ [20] .

          ومثلها كتب للمدائني وغيرهم من الإخباريين، ممن ابتدأت العنوان بكلمة (كتاب) [21] .

          ولنا الآن أن ننتقل إلى الحديث عن البدايات في التدوين التاريخي ، والتطورات التي مرت بها حركة التأليف هـذه، وأثر الانطلاقة الحضارية الكبرى للأمة العربية الإسلامية على حركة التدوين التاريخي. [ ص: 91 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية