الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ب - عصر الرسالة أشرنا سابقا إلى أن مفهوم الزمان في نظر العربي المشرك قبل الإسلام قد تحدد في النهاية، أي نهاية الإنسان التي هـي الموت، ولم يحدث أن تعدت هـذه النظرة إلى البداية، إلى بداية خلقه ووجوده على سطح هـذا الكوكب، وكيف خلق، ومم خلق، وما هـي الغاية والهدف من خلقه، بل من وجوده على هـذه الأرض؟

          لقد كان هـناك قصور تام في تصوره ورؤيته للحياة، عندما ألغى البداية وركز على النهاية.

          لذا كان لا بد من رسالة كونية شاملة تصحح للإنسان مساره ونظرته للكون والحياة، وتعيد له ثقته بنفسه، وتربطه بأمل يجد فيه كل معاني الخلود والسرمدية بعد الموت، بعد أن كان يجد فيه فناء مطلقا، لا حياة أخرى من بعده. [ ص: 45 ]

          على أن في هـذا القول ما يشير لأول وهلة إلى أنه يتناقض مع حقيقة وجود النصرانية واليهودية ، وانتشار أتباعهما، وإن كان بشكل محدود، في جزيرة العرب، وهم أصحاب ديانتين سماويتين، تمتلكان رؤية واضحة للكون والوجود، والخليقة، والموت.

          ويبدو أن هـؤلاء العرب المتنصرين أو المتهودين لم يكونوا على وعي كامل ودقيق بحقائق دينهم، (فقد عرفوا الكنائس والبيع والرهبان والأساقفة والصوامع، ولكنهم ظلوا لا يتعمقون في هـذا الدين الجديد، وظلوا يخلطونه بغير قليل من وثنيتهم) [1] ، فيكون بذلك فهمهم للدين فهما سطحيا، يهتم بالمظاهر الدينية أكثر من اهتمامهم بجوهر الدين، ولذا (فهم مسيحيون وثنيون في الوقت نفسه)

          [2] .

          أما الأحناف، فهم الذين خالفوا قومهم في عبادة الأصنام والأوثان، وحرموا على أنفسهم في فترة ما قبل الإسلام، الخمر والميسر والأزلام والميتة والذبائح التي تذبح على الأوثان، وراحوا يلتمسون الحقيقة وهي دين إبراهيم عليه السلام [3] .

          ‎ على أن الأحناف كانوا من القلة، بحيث لا يمكن أن ينتظر منهم [ ص: 46 ] عمل كبير وواسع، يغير من معتقدات إخوانهم المشركين الذين يعيش الأحناف بين ظهرانيهم في مكة أو بين القبائل.. هـذا من ناحية ومن ناحية أخرى يبدو أن فكرة (دين إبراهيم ) لم تكن واضحة في أذهانهم، إذ لم يكن مثل هـذا الدين محددا ومعروفا قبل الإسلام، ولذا نجد بعضهم قد تنصر، وبعضهم اعتزل قومه، وبعضهم ظل قلقا، وقد التبست عليه الأمور حتى جاء الإسلام فاعتنقه [4] .

          وإذا كان من معنى للحنيفية قبل ظهور الإسلام، فإنه يمثل حالة القلق عند بعض العرب، وإن ما هـم عليه من شرك أصبح موضع اتهام.. كان العربي قبل ظهور الإسلام يفتقد وجود عقيدة كونية عامة أو دين عام، يربط بين الماضي والحاضر، ويعطي مغزى وغاية للحياة البشرية [5] .

          إن ظهور الإسلام يعد منعطفا خطيرا في حياة العرب، فقد غير مسار حياتهم وأسس تفكيرهم، واستبدل عقائدهم المنحرفة الضالة بعقيدة واضحة، فكون بذلك القاعدة الفكرية اللازمة لتوحدهم بعد حياة التبعثر والشتات التي كانوا يعيشونها في ظل القبلية ، وما فرضته طبيعتها عليهم من مخاصمات وحروب ودماء.

          وبقدر تعلق الأمر بالوعي التاريخي، فإن القرآن الكريم قد استفز العقل العربي في المحاور الأربعة التالية، والتي نرى في مجملها أنها [ ص: 47 ] كانت المشكاة التي أضاءت الطريق لمسيرة علم التاريخ العربي-الإسلامي:

          1- فكرة المصير في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي.

          2- البعد الحضاري في القرآن الكريم فكرة استخلاف الله تعالى للإنسان في الأرض، وأثره في الوعي التاريخي.

          3- أخبار الأمم الماضية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين.

          4- فكرة وحدة الرسالات السماوية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين.

          إن هـذه المحاور الأربعة ستكون مدار حديثنا؛ لتشخيص ما تنطوي عليه من محفزات الوعي التاريخي عند العرب المسلمين في عصر الرسالة.

          أولا: فكرة المصير في القرآن الكريم وأثرها في الوعي التاريخي

          الواقع أن الإسلام من خلال كتابه الكريم القرآن، لم يكن أول من جاء بفكرة المصير، أي نهاية الإنسان، وما سيئول إليه بعد الموت.

          لقد تناولت اليهودية والنصرانية هـذه المشكلة، وقدمتا لها حلا يتلخص في أن الإنسان ليس وحيدا في هـذا العالم، بل إنه يتمتع بمكانة ممتازة في مجرى التاريخ، فتاريخ الإنسان في منظورهما: " يبدأ [ ص: 48 ] ببداية العالم من قبل أن يخلق المرء بأمد طويل " [6] . كما أن هـذا التاريخ للإنسان لا ينتهي بالنهاية المحزنة المأسوية التي يطويها العدم والفناء، وإنما تستمر في عالم آخر بعد الموت، حتى تحصى أعمال الإنسان، وكل ما جنت يداه في الحياة الدنيا، دون إغفال لأي منها، صغيرة كانت أو كبيرة [7] .

          ‎ ورغم انتشار اليهودية والنصرانية -المحدود- في الجزيرة العربية، فالظاهر أن فكرة (المصير التي جاء بها القرآن، بدت للمشركين العرب وكأنها فكرة جديدة لم يسمعوا بها من قبل) .

          كذلك فإن (الدين الإسلامي الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتميز بالوضوح والقدرة على تفهم أسس هـذا الوجود بصورة واضحة جدا ومن غير تعسف) [8] .

          عالج القرآن الكريم مسألة الزمان بشكل واضح لا لبس فيه، فالوجود نوعان: وجود يرتبط بالزمن، فهو وجود متزمن، وهو هـنا مخلوقات الله جميعا، ويأتي في مقدمتها الإنسان.. ووجود خارج عن إطار الزمان والمكان، فهو وجود غير مرتبط بزمن، وهو الله سبحانه وتعالى ، وهو المطلق. [ ص: 49 ]

          غير أن هـذين الوجودين مرتبطان ارتباطا فلسفيا عميقا، يتجلى بصورة واضحة في العلاقة بين الخالق (اللامتزمن) وبين المخلوق الإنسان (المتزمن) .. وبين المطلق (الله) وبين النسبي (الإنسان) [9] .

          إن هـذه العلاقة كانت الحلقة المفقودة في تصور العرب المشركين، فصار الزمان أو الدهر مصدر شقاء، لأنه يوردهم موارد الفناء والعدم، في حين نجد أن فكرة الزمان في التصور الإسلامي قد استبعدت كل معاني الخوف والألم والشقاء [10] .

          لقد ألغى القرآن الكريم فكرة العدم والفناء اللتين يمثلهم الموت، وأكد على حياة أخرى تجيء بعد يوم البعث أو القيامة، وسيحاسب الإنسان على جميع ما عمله في حياته الدنيا، فإن كانت أعماله صالحة فاز بالجنة، حيث الخلود والنعيم، وإن كانت أعماله سيئة أدخل النار، حيث العذاب الأليم.

          يقول تعالى: ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) (يس: 12) .

          فالله تعالى يحيي الموتى، فانتفت بذلك فكرة الفناء، وفي حياة الناس في الدنيا قد كتبت جميع أعمالهم وآثارهم، وأحصيت هـذه الأعمال من خير وشر في كتاب واضح مبين: ( وكل إنسان ألزمناه [ ص: 50 ] طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) (الإسراء: 13-14) . فكل إنسان يلزمه الله ما قضى له أنه عامله، وهو صائر إليه بعمله من شقاء أو سعادة.. وقد " فسر ابن عباس الآية الكريم: ( وكل إنسان ألزمناه.. ) ، قال: عمله وما قدر عليه، والله يخرج له يوم القيامة كتاب عمله فيجده منشورا أمامه " [11] .

          وهكذا لم تعد الأفعال التي قام بها الإنسان في الماضي منسية ضائعة بعد موت الإنسان، وإنما أصبح كل ما جناه في حياته الدنيا مسطرا ومكتوبا، ويكفي تقديم هـذا السجل الكامل بأعمال الإنسان ووضعه بين يديه يوم القيامة، ليكون حكما على نفسه، حسيبا عليها.

          وبهذا فقد أصبح للماضي قيمة كبيرة في نظر المؤمنين، وهذه القيمة للماضي الزماني، ترتبط في القرآن بفكرة (العبرة) والاتعاظ بأحداثه وتجاربه، تجارب الأمم والشعوب التي مضت، والوقوف والتأمل في ما فعلته في حياتها من خير، فكان سبب تقدمها وفوزها وسعادتها في الدنيا، أو بما ارتكبته من طغيان وتظالم وتقاعس عن فعل الخير فكان فيه هـلاكها ودمارها.

          والبحث في الماضي، وأخذ العبر والعظات من حوادثه، هـو من صميم النظرة التاريخية، ومن هـنا جاء الاستدلال على أثر فكرة [ ص: 51 ] (المصير) في القرآن الكريم، في تحفيز الوعي التاريخي عند العرب المسلمين، ولكي يعتبر المؤمنون بما حدث للطغاة والظالمين والمنحرفين عن السلوك الإنساني القويم، الذي أراده الله لعباده في الأرض،

          يقول تعالى: ( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ) ( النازعات: 25-26) .

          جاء في تفسير هـذه الآية الكريمة [12] : فعاقبه الله عقوبة الآخرة، وعقوبة الدنيا بإغراقه لفرعون.

          وهكذا توثقت مكانة الزمان الماضي في حياة الإنسان، وهذا هـو التاريخ بعينه، أوليس التاريخ هـو: (السعي لإدراك الماضي البشري وإحيائه) ، على حد تعبير أحد المؤرخين المعاصرين؟ [13] .

          لقد نفى القرآن الكريم نفيا قاطعا أي معنى للعبثية في وجود الإنسان، وهي الفكرة التي كانت سائدة عند عرب ما قبل الإسلام،

          يقول تعالى: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) (المؤمنون: 115) .

          بهذا تحدد الزمان في: خلق العالم بوصفه بدايته، وبيوم القيامة بوصفه نهايته، وبين البداية والنهاية تتم كافة الفعاليات التي يقوم بها الإنسان، لذلك أصبحت هـذه المرحلة (أي مرحلة الإنسان الدنيا) ، [ ص: 52 ] مرحلة اختبار دقيق لمحتوى أعماله، بانتظار تقويمها يوم القيامة، فينال بها الخلود والنعيم، (أو تكون سيئة فيدخل بها الجحيم) [14] .

          إن نظرة العربي المسلم إلى الماضي، كما جاء بها القرآن، وإلى المستقبل الذي امتد إلى ما بعد الموت، قد فتقت ذهنيته للإحاطة بالحركة التاريخية في كافة جوانبها، لأنه العنصر الفعال في هـذه الحركة، وهو صانع أحداثها.

          فلا غرو أن تصبح فكرة المصير في القرآن، أحد دوافع تبلور ونضوج الوعي التاريخي عند العرب المسلمين، فالذي يفكر بمفهوم التاريخ في هـذا اليوم لا بد (أنه يتساءل عن البداية والنهاية، عن الزمان، عن الوجدان الإنساني، وكل بحث عن أي من هـذه المفاهيم يعتبر مساهمة في توضيح معنى التاريخ) [15] .

          ثانيا: البعد الحضاري في القرآن الكريم وأثره في الوعي التاريخي

          قص القرآن الكريم قصة خلق آدم ،

          قال تعالى: ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) ( المؤمنون: 12) .

          وقال: ( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون ) (الحجر: 28) . [ ص: 53 ]

          وفي آية أخرى ينص القرآن على الدور المنوط بهذا المخلوق وهو الإنسان،

          يقول عز وجل : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة: 30) .

          وإذا كان الهدف من هـذه الدراسة ليس الخوض في التفاصيل المتعلقة بآدم عليه السلام ، إلا بالقدر الذي يمس البحث مسا مباشرا، فإننا نقول إن الله تعالى كرم آدم لما أودع فيه من قدرات جعلته يرتقي فوق مصاف الملائكة، لذلك أمرهم بالسجود له، مما أثار حفيظة إبليس وحسده، فصار يمثل الشر، كما صار العدو اللدود لآدم عليه السلام وذريته حتى قيام الساعة.

          لقد خلق الله تعالى مع آدم كافة المقومات العقلية والبدنية، التي تؤهله لأداء فكرة استخلاف الله له على الأرض.

          وفكرة الاستخلاف هـذه تقوم على دعامتين، هـما الإيمان بالله والعمل الصالح، ونبذ وتجنب كل ما هـو من شأنه الإفساد في الأرض [16] ،

          يقول تعالى: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) ( النور: 55) .

          ولا شك أن العمل المخلص الصائب الجاد البعيد عن الهوى، والنشاط والتفاني اللذين يظهرهما الإنسان في أداء عمله، والإبداع [ ص: 54 ] الذي يسعى إلى تحقيقه بما فتق الله له ذهنه وعقله من طاقات وقدرات كبيرة قادرة على تسخير الأنهار لخدمته، والنار لحاجته، والأرض لزرعه ومسكنه، هـي التي وضعت لبنات الحضارة الأولى التي بناها الإنسان.

          ولكي لا تنهار هـذه الحضارة بالفساد، الذي يسببه الظلم والطغيان، ظلم الناس وطغيانهم بعضهم على بعض، فإن الالتزام بمقتضيات الإيمان بالله فيما أمر ونهى يعد العامل الأساس الثاني في ديمومة الحضارة واستمرارها.

          لقد احتفظ القرآن الكريم (للعمل) بمكانة بارزة، وقرن دائما بينه وبين الإيمان بالله:

          ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (سورة العصر) .

          فمما لا جدال فيه أنه بدون العمل الصالح المثابر الجاد لا يمكن أن يقوم عمران بشري أو حضارة، ولهذا ترد لفظة العمل في القرآن ثلاثمائة وخمسين مرة، مؤكدة سلبا أو إيجابا على أن العمل هـو المحور الذي يقوم عليه الوجود البشري [17] .

          والآيات التي قرن الله تعالى فيها بين الإيمان والعمل كثيرة، منها:

          ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) (التين: 4-6) ،

          ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا ) (فصلت: 33) . [ ص: 55 ]

          فالإيمان والعمل الصالح هـما اللذان يبدعان الحضارة، وبهما تتحقق سعادة الإنسان على الأرض، وكلما أبدى الإنسان ضربا جديدا من الهمة والنشاط والإبداع، كلما ارتقى مدرجا جديدا من مدارج الحضارة التي يصنعها لنفسه ولبني جنسه من البشر والإيمان بالله، وتلقي هـدايته عن طريق رسله وأنبيائه، هـو الكابح الذي ينظم المسيرة الحضارية، ويحفظ لها التوازن من الطيش والتعالي والتظالم والطغيان، مما يجعل حياة الجماعة البشرية أكثر سعادة ورخاء وأمنا.

          إن الله تعالى عندما استخلف الإنسان في الأرض وأمره بإعمارها بحثه على العمل الصالح النافع له ولبني جنسه، أراد بذلك استمرار المسيرة البشرية نحو الخير والصلاح، كي ينعم المجتمع البشري بالرخاء والاطمئنان، ولذلك فإن القرآن الكريم يعتبر الأرض من نعم الله التي أنعم بها على المجتمع البشري:

          ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ) (الأعراف: 10) ،

          ( وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الرعد: 3 ) ،

          ( أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ) (الشعراء: 7) . [ ص: 56 ]

          وكثير من آيات القرآن الكريم الأخرى، تتحدث عما في الأرض من خير: الماء، والنبات، والحيوان، والمعادن، وكل هـذه وضعت تحت تصرف الإنسان، وحث على استغلالها والتنعم بها، لتحقيق الكفاية في راحته وسعادته وضمان مستقبله.. بمعنى وجود كل المقومات والعناصر التي تدخل وتساعد في البناء الحضاري للإنسان، قد يسرها الله تعالى على الأرض، فما على الإنسان إلا أن يجد ويسعى لصنع حضارته وبناء مستقبله، وتواصل جهوده بجهود الأجيال اللاحقة، لذلك فإن القرآن الكريم يحتفظ للأرض بمكانة كبيرة كونها مستقر الإنسان، ومصدر جميع عناصر الحياة التي تضمن بقاءه، كما تضمن تواصله مع الكون، على خلاف ما جاء في العهد القديم عنها، فنراه يلعن الأرض لعصيان آدم وهبوطه عليها وهو مثقل بالخطيئة [18] .

          وطبقا لفكرة وحدة الرسالات السماوية التي جاء الإسلام خاتما لها، فإن الآيات الكريمة في القرآن الكريم التي تتحدث عن الأرض وعن ما أودع الله فيها من ماء ونبات وحيوان ومعادن كي تصبح حياة الإنسان على ظهرها ليست ممكنة فحسب، وإنما مزدهرة ومتطورة متقدمة إن هـو أحسن استغلالها، واستخدم تلك الطاقة الجبارة التي أودعها الله فيه وهي عقله، وأطرافه وجسده، اللذان انطويا على قدرات هـائلة لمواجهة متطلبات البناء والتعمير والتصنيع، التي بتلاقيها مع [ ص: 57 ] الإيمان بالله والتلقي للهداية عنه؛ تتحقق فكرة استخلاف الإنسان على الأرض وفق النواميس والسنن التي أرادها الله تعالى، كي ينعم المجتمع البشري بنعمة التقدم والسلام، اللذين أرادهما الله لبني البشر، أقول: فإنه وفقا لهذه الفكرة، فإن آيات القرآن كانت تتضمن لفت نظر الإنسان، ومنذ بدء الرسالات السماوية، إلى التفكر والتمعن فيما خلق الله من نعم على الأرض وفيها، وما أنزل الله من السماء من ماء فأخرج به من نبات الأرض، ما يكفل للإنسان بناء حضارته.

          قال تعالى: ( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ) (الحجر: 19-20) ،

          ومعايش الإنسان في الأرض متنوعة ومتعددة، منها النبات والحيوان، ومنها المعادن بمختلف أشكالها للسلاح والآلة والزينة،

          قال تعالى: ( أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ) ( الشعراء: 7) ،

          وقال جل شأنه: ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) (الرعد: 4) .

          وقال تعالى: ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ) (النحل: 5) ،

          وقال: ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ) (النحل: 66) .

          وجعل من بعض هـذه الأنعام وسائل للنقل بين الجماعات وتيسير الحاجات، [ ص: 58 ] عن طريق التجارة وبواسطة السفن التي يسر الله صنعها للإنسان،

          قال تعالى : ( الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ) (غافر: 79-80) ،

          وقال: ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) (النحل: 14) .

          والقرآن يوجه أنظار الناس إلى ما خلق الله لهم من نعم وخيرات على سبيل المنة، أي على الناس أن يشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليهم.. وشكر الناس يكون بطاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه، وهي جميعا وراء كل خير للمجتمع البشري، وتحقيق كل تقدم وتطور حضاري في الحياة الإنسانية، لذلك فإن القرآن يهاجم كل فعل أو قول من شأنه أن يؤدي إلى الفساد في الأرض، لأن هـذا الفساد يعني هـدم جميع المنجزات الحضارية التي شيدتها جماعة أو مجتمع ما أو البشرية جميعا [19] ، فترى القرآن يعيب أولئك الذين إن تولوا في الأرض سعوا إلى تدمير كل ما ينفع الإنسان أو المجتمع:

          ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) (البقرة : 205) . [ ص: 59 ]

          لذا فإن القرآن يسعى إلى حماية المنجزات الحضارية التي بناها الإنسان، ومنع العبث بها وتخريبها، بل إنه رفض أية محاولة من شأنها إعاقة المسيرة الحضارية للبشرية بجانبيها المادي والأخلاقي أو الروحي؛ لأن سلامة الجانب الأخلاقي وتنامي الجوانب الروحية في أية حضارة، هـو الذي يضمن استمرار الحضارة وتقدمها في جوانبها المادية فعندما تضيع الأمانة والصدق في حضارة ما، وينعدم الإخلاص في العمل، وينتشر الغش، ويتسلط الولاة وأولي الأمر على الرعية، فإن ذلك يعد إيذانا بانهيار تلك الحضارة؛ لأن الفساد الخلقي والروحي من شأنهما حرمان الحضارة من نصف عناصر قوتها التي تضمن لها الحيوية والانتشار.

          إن المجتمع البشري مأمور بعمران الأرض، وإقامة قواعد العدل والحق عليها، وليس له أن يتهاون في أداء هـذا الجانب [20] . وفي كل ذلك فإن البشرية محروسة بالعناية الإلهية ، ومحمية بها، طالما ظلت أمينة على رسالتها في تحقيق العدل والسلام فيما بين أفرادها:

          ( قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هـم عن ذكر ربهم معرضون ) (الأنبياء: 42) ،

          ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هـوى ) (طه: 81) ،

          ( الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم [ ص: 60 ] فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) (طه: 53-54) .

          إن أصحاب العقول النيرة الواعية، هـم أكثر الناس إدراكا لعظمة الله، كما أنهم الأكثر قربا منه، والأكثر حرصا على استمرار وتنامي المسيرة الحضارية لقد لفت الله تعالى أنظار البشر لأعمال وآثار السالفين منهم في دعوة منه للتأمل فيما ترك هـؤلاء من مساكن وعمران، بمعنى تأمل فعل أولئك الأقوام على الأرض، أي تاريخهم، بقصد الاعتبار وتحقيق الكمال في بناء حياتهم الروحية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية [21] ، لذلك أصبح التاريخ في القرآن الكريم مصدرا للعظة والعبرة التي يجب أن يتلمسها الإنسان في أخبار الأمم الماضية في تدبر وإمعان [22] .

          يقول الله تعالى: ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ( الحج45 -46) .

          ودعوة القرآن الكريم إلى التأمل والتفكر في آثار الأمم والحضارات، هـي دعوة للمؤمنين بتجنب المصير ذاته، فإنه يضع سننا وقواعد في الحياة، بمراعاتها تستمر الحضارات وتزدهر المجتمعات، ويعيش الناس في أمن ودعة وسلام. [ ص: 61 ] أما الانحراف والعزوف عنها وإهمالها أو تجاهلها، فسيؤدي إلى كارثة تحل بتلك الحضارات لا محالة.

          ثالثا: أخبار الأمم الماضية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين

          قص القرآن الكريم أخبار بعض الأمم التي سبقت الإسلام، فذكر قوم نوح وعاد وثمود ومدين ، وقوم إبراهيم وموسى وعيسى ويونس ، عليهم السلام، إضافة إلى إشارات مقتضبة عن ( سبأ ) وذي القرنين .

          قال تعالى : ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم ) (نوح: 1)

          وقال عز وجل مخبرا عن إبراهيم عليه السلام وقومه:

          ( واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ) (الشعراء:70 -71 ) .

          وعن موسى عليه السلام

          يقول تعالى: ( ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) (يونس: 75) .

          ثم قص خبر قوم هـود عليه السلام (وهم عاد)

          فقال تعالى: ( وإلى عاد أخاهم هـودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ) (هود: 50) .

          وكذلك في خبر ثمود وهم قوم صالح ،

          يقول سبحانه وتعالى : ( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هـو أنشأكم من الأرض [ ص: 62 ] واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ) (هود : 61) .

          لقد لفت الله عز وجل أنظار البشر لأعمال وآثار الماضين منهم، بهدف التأمل والاتعاظ بما حل بتلك الأقوام من كوارث أصابتهم، وما نزل عليهم من العذاب، بسبب جحودهم وإعراضهم عن الإيمان بدعوات رسلهم الذين بعثوا فيهم، يدعونهم إلى توحيد الله، ويمنعونهم من التظالم والتنازع، ويحثونهم على الصدق والأمانة والإخلاص في العمل، والإحسان إلى المستضعفين والفقراء.

          إن هـذا الحشد من القصص عن الأنبياء وأممهم في القرآن الكريم، جاء بهدف العظة والعبرة، التي يجب أن يتلمسها الإنسان في أخبار الأمم الماضية، وأن يتدبر ويتمعن في نتائجها [23] ، ولم تكن الغاية منها (المعرفة التاريخية بذاتها) .. ولكنها من ناحية أخرى، حفزت الوعي التاريخي عند المسلمين، فلا بد وأن أثارت هـذه القصص في أذهان الصحابة أسئلة متعددة: من هـم أصحاب النبي نوح أو إبراهيم أو موسى .. ؟ أين عاشوا؟ ومتى وجدوا؟ ومتى جاءهم الدمار؟.

          إن هـذه الأسئلة، نجد نماذج منها وجهت إلى بعض الصحابة، فقد استفسر أحد الصحابة عن موسى والرجل الصالح الذي قص القرآن قصته أهو النبي موسى أم موسى آخر غير النبي صاحب فرعون ؟ فجاء الجواب من عبد الله بن عباس حيث روى عن أبي بن كعب حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 63 ] جاء فيه أن المقصود بصاحب الرجل الصالح هـو النبي موسى عليه السلام [24] .

          وعن أبي بكر بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب ، ( عن عمرو ابن خارجة ، قال: قلنا له: حدثنا حديث ثم ود قال أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمود: كانت ثمود قوم صالح، عمرهم الله عز وجل في الدنيا.. فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فارهين، فنحتوها وجابوها وجوفوها ) [25] .

          وهذا يعني أن ورود أسماء مثل هـذه الأمم في القرآن الكريم، كان مما يشغل الصحابة رضوان الله عليهم، ويدفعهم للسؤال عما ورد في القرآن بصددهم.. يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم ويسأل بعضهم بعضا، ويسألون أهل الكتاب لعل في كتبهم الأولى خبر تلك الأقوام.

          ( وفي غزوة تبوك (8 هـ) ، نزل الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر فقال: أيها الناس لا تسألوا نبيكم الآيات، هـؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم آية، فبعث الله تعالى ذكره لهم الناقة آية.. ) [26] .

          وخبر بلقيس وقصتها تأتي " عن وهب بن منبه ، قال: (لما رجعت الرسل إلى بلقيس بما قال سليمان ، قالت: قد والله عرفت ما هـذا بملك، وما لنا به من طاقة) ... " [27] [ ص: 64 ] ( وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى ، قال: قلت يا رسول الله ! ما كان في صحف موسى؟ قال: كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالنار ثم يضحك، عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح، عجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل ) [28] .

          إن الآيات الكريمة التي أوردناها، والتي كانت مثار تساؤل المسلمين، وبعض النماذج التي أتينا بها أجوبة عن أسئلة، أو توضيحا لبعض الإشارات القرآنية، إنما تظهر أثر القرآن الكريم في تحفيز الوعي التاريخي وتنشيطه، وهو مما لا غنى عنه في أي عمل يتجه صوب التأليف التاريخي، وعليه فهذا يأتي في صميم النظرة التاريخية.

          رابعا: وحدة الرسالات السماوية كما جاءت في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي الإسلام هـو خاتم الأديان السماوية، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم هـو خاتم الأنبياء والمرسلين،

          قال تعالى: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ) (الأحزاب: 40) ،

          فلا نبي من بعد محمد صلى الله عليه وسلم ولكن ما هـو موقف الإسلام من الأديان السماوية التي ظهرت قلبه؟ وما هـي صلة الإسلام بها؟ هـل يرتبط الإسلام بهذه الأديان من قريب أو [ ص: 65 ] بعيد؟ والجواب على هـذه الأسئلة جميعا نجده في القرآن الكريم، وهو كلام الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ،

          يقول الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد: ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) (البقرة: 285) .

          فالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون كلهم، قد آمن بالله والملائكة والرسل والأنبياء السابقين، لا فرق بين أحد من رسل الله وأنبيائه، ومن هـنا فإن كل دعوات الأنبياء السابقين في أصل تنزيلها صحيحة، وتحمل نفس القداسة بالنسبة للمسلم؛ لأنها جميعا جاءت من عند الله تبارك وتعالى.

          بل إن القرآن الكريم أشار إلى العمق التاريخي لرسالة الإسلام، التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وأنها امتداد لرسالات إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وبقية الأنبياء،

          قال تعالى: ( ملة أبيكم إبراهيم هـو سماكم المسلمين من قبل وفي هـذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء ) (الحج: 78) .

          وقال تعالى: ( قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) (آل عمران: 84) .

          وهكذا يكون الإيمان والتصديق برسالات الأنبياء والرسل السابقين من قواعد الإيمان في الإسلام، والتي لا يمكن اكتمال إيمان المسلم إذا [ ص: 66 ] جحدها أو تنكر لها.

          ويبدو أن كلمة الإسلام ومسلم، وإن صارتا اليوم علما على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إلا أنهما تعنيان الخضوع والاستسلام لله تبارك وتعالى، لأن أسلم تعني: أسلم أمره إلى الله، و " أسلم " من الإسلام [29] . وبهذا المعنى وردتا في القرآن الكريم على لسان إبراهيم عليه السلام ،

          قال تعالى: ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) (البقرة: 130-132) .

          وعندما سأل يعقوب عليه السلام وهو على فراش الموت أبناءه ماذا سيعبدون من بعده أجابوا،

          كما جاء بقوله تعالى: ( نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) (البقرة: 133) .

          والمعاني التي يمكن استخلاصها من تلك الآيات الكريمة، أن جميع الرسالات السماوية هـي واحدة ومتوحدة فيما دعت إليه من توحيد الله تعالى وتنزيهه.

          فالعقيدة واحدة عند جميع الأنبياء والمرسلين، وهي الإيمان بالله تعالى إلها واحدا لا شريك له، أما التباين بين أولئك الأنبياء عليهم [ ص: 67 ] السلام فيكمن في الشرائع التي جاءوا بها من عند الله، تبعا للظروف الزمانية والأحوال الاجتماعية والاقتصادية للجماعات أو الأمم التي بعثوا لهدايتها، ولذا فإن باحثا معاصرا يرى: " أنه لا توجد أديان سماوية متعددة، وإنما توجد شرائع سماوية متعددة نسخ اللاحق منها السابق، إلى أن استقرت الشريعة السماوية الأخيرة، التي قضت حكمة الله أن يكون مبلغها هـو خاتم الأنبياء والرسل أجمعين " [30] .

          لقد كانت دعوة الإسلام خاتمة ومتممة لكافة الشرائع السماوية السابقة، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هـذه الصلة بين دعوته وبين دعوات إخوانه الأنبياء والرسل السابقين في الحديث التالي: ( قال عليه الصلاة والسلام : إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هـلا وضعت هـذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) [31] .

          ونعود الآن لنرى أثر فكرة (وحدة الرسالات) ، التي جاء بها القرآن الكريم على الوعي التاريخي عند العرب المسلمين.

          لقد كان لفكرة (وحدة الرسالات) أثر واضح وبين في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين، فلقد جاء القرآن الكريم بنظرة عالمية إلى التاريخ، وقد تمثلت هـذه النظرة في توالي النبوات، التي هـي في أساسها [ ص: 68 ] تعد رسالة واحدة بشر بها أنبياء عديدون، كان الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم هـؤلاء الأنبياء والمرسلين.. ومن هـنا، أي من العقيدة الإسلامية، بدأ الاهتمام والعناية بالتاريخ، وأعني (تاريخ الأنبياء والمرسلين) .

          وكان المسلمون في عصر الرسالة، على وعي تام بوحدة الرسالات السماوية، " فعن مجاهد قال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال أوما تقرأ: (ومن ذريته داود وسليمان... أولئك الذين هـدى الله فبهداهم اقتده) ، فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم " [32] .

          كما أن صوم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم عاشوراء، بعد قدومه إلى المدينة ، وكان اليهود يصومون عاشوراء لأنه يوم نجى الله فيه موسى عليه السلام وأغرق فرعون ، ( فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بصيامه، وقال: أنا أولى بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه ) [33] .. كل ذلك فيه ما فيه من الدلائل على وعي المسلمين بفكرة وحدة الرسالات، أو بفكرة النظرة العالمية إلى التاريخ التي جاءهم بها القرآن.

          كما أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الفكرة -أي وحدة الرسالات- امتداداتها التي تنتهي بالمسلمين الذين يتبعون سنن من سبقوهم من أهل الأديان السابقة، ( فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو [ ص: 69 ] دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال فمن ) . [34] إن هـذه الفكرة قد دفعت المسلمين إلى سؤال أهل الكتاب عن بعض ما جاء في القرآن الكريم عن أديانهم وأنبيائهم، طالما اعترف القرآن بهذه الأديان وبأنبيائها عليهم السلام [35] .

          وقد تبلور هـذا الوعي في مرحلة التدوين بدخول ما عرف بالإسرائيليات في التاريخ العربي الإسلامي.

          فقد التفت المؤرخون المسلمون أو بعضهم إلى هـذا التراث، وخاصة ما يتعلق بالخليقة، السموات والأرض، وآدم ، ونوح وأبنائه، والطوفان وغير ذلك، فنقلوا عن الإسرائيليات [36] .

          ونجد من المنقول عن الإسرائيليات شيئا غير قليل في كتب اليعقوبي والدينوري والطبري وغيرهم، وخاصة في مواضيع (بدء الخليقة) ، وآدم، ونوح والطوفان ، وأبناء نوح الذين ينتسب إليهم العالم آنذاك.

          وهكذا تبلورت النظرة العالمية التي جاء بها القرآن الكريم إلى تواريخ عالمية لم تقتصر في مادتها على التاريخ الإسلامي، وإنما تناولت أنبياء وأمما عديدة، كبني إسرائيل والفرس والروم ، ثم السودان والصين وغيرهم [ ص: 70 ] من الأمم، مما يعكس فاعلية النظرة القرآنية وعمقها في الوعي التاريخي في عصر الرسالة من خلال فكرة وحدة الرسالات التي جاء بها القرآن الكريم.

          وفي الختام، فإن عصر الرسالة كان فاتحة وعي تاريخي واضح المعالم، كان أحد عوامل تلك الاندفاعة الكبيرة في مجال التأليف التاريخي في القرون الثلاثة اللاحقة من الهجرة.

          وكان القرآن الكريم هـو الملهم لهذا الوعي في نفوس العرب المسلمين:

          1- فمن خلال فكرة المصير أو النهاية، أعطى للماضي قيمة كبيرة لدى الإنسان، وذلك لما يترتب على هـذا الماضي من مسئولية الإنسان عما يفعله في الحياة الدنيا، ثم التقاط العبر مما حدث في الماضي البشري، وهما يقعان في صميم النظرة التاريخية .

          2- ومن خلال قصة خلق آدم عليه السلام ، التي بدأ بها الصراع بين الخير والشر.. الشر الذي تمثل في الدور الذي يقوم به إبليس، ابتداء برفضه السجود له، ثم بإغوائه في معصية ربه وإخراجه من الجنة، ثم بتعهده بمواصلة العمل من أجل تخريب وهدم كل ما بناه الإنسان وأنجزه من عمران، بمعنى تخريب حضارة الإنسان، والحيلولة بين الإنسان وبين فعل الخير، والسعي لإثارة الفتن والحروب بين الجماعة البشرية.

          إن فكرة الصراع بين الخير والشر، التي ركز عليها القرآن الكريم، تعد إحدى محفزات الوعي التاريخي، لأنها تمتد في عمق التاريخ البشري، كما أنها تظل معاصرة للإنسان. [ ص: 71 ]

          3- كذلك فإن ما يعرضه القرآن عن مصير بعض الأمم والأقوام، التي أسميناها (بالحضارات) ، من نمو أو انهيار، فإنه يضع أسس نمو الحضارة، متمثلة بالإيمان بالله ثم العمل الصالح الجاد المخلص الذي يبذله الإنسان من أجل تحقيق الرقي والتقدم في حياته.

          وبقدر ما يبقى الإنسان أمينا على هـذين المبدأين، فإن إنجازاته الحضارية تبقى في تصاعد دائم، ومن جهة أخرى فإن إهماله أو تجاهله لأحد هـذين المبدأين، سيكون إيذانا بتراجع يحصل لكافة إنجازاته الحضارية، حتى تذوى وتنهار ثم تزول.

          وبقدر تعلق الأمر بالوعي التاريخي ، فإن ما ذكره القرآن عن مصير بعض الأقوام وعوامل انهيارها، كان مدعاة للنابهين من العرب المسلمين في التساؤل عن هـذه الأقوام: مكانها، وزمانها، وأحوالها، وأخيرا سبب انتكاساتها وانهيار إنجازاتها.. ولا يخفى أثر مثل هـذه التساؤلات على الوعي التاريخي.

          4- وأخيرا فإن (وحدة الرسالات السماوية) التي جاء بها القرآن الكريم، كانت قد لفتت أنظار العرب المسلمين لمعرفة تواريخ الأنبياء السابقين، والأقوام والأمم التي بعثوا إليها، باعتبار تواريخهم تمثل العمق التاريخي لرسالة الإسلام.. وأفرز هـذا الاهتمام بعينه النظرة العالمية في التاريخ الإسلامي.. هـذه النظرة، وضعت دعائمها في القرآن الكريم. [ ص: 72 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية