الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( والدلك )

                                                                                                                            ش : لما فرغ رحمه الله من الفرائض الأربعة المذكورة في الآية المجمع عليها أتبع ذلك بالكلام على الفرائض المختلف فيها وبدأ منها بالدلك ; لأنه قد قيل : إنه داخل في حقيقة الغسل ولهذا لم يعده ابن الحاجب فريضة مستقلة بل ذكره مع غسل الوجه وما فعله المصنف أحسن ; لأنه يفهم منه أن الدلك فرض في مغسول الوضوء جميعه : الوجه واليدين والرجلين ، بخلاف كلام ابن الحاجب ، وهذه هي الفريضة الخامسة من فرائض الوضوء وقد اختلف في الدلك هل هو واجب أو لا على ثلاثة أقوال ؟ المشهور الوجوب وهو قول مالك في المدونة بناء على أنه شرط في حصول مسمى الغسل قال ابن يونس لقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها { وادلكي جسدك بيدك } والأمر على الوجوب ، ولأن علته إيصال الماء إلى جسده على وجه يسمى غسلا ، وقد فرق أهل اللغة بين الغسل والانغماس ، والثاني نفي وجوبه لابن عبد الحكم بناء على صدق اسم الغسل بدونه .

                                                                                                                            والثالث أنه واجب لا لنفسه بل لتحقق إيصال الماء فمن تحقق إيصال الماء لطول مكث أجزأه وعزاه اللخمي لأبي الفرج وذكر ابن ناجي أن ابن رشد عزاه له وعزا ابن عرفة القول الثاني لأبي الفرج وابن عبد الحكم قال في التوضيح ورأى بعضهم أن هذا راجع إلى القول بسقوط الدلك ، والخلاف في الغسل كالخلاف في الوضوء قال ابن عرفة : وظاهر كلام أبي عمر بن عبد البر أن الخلاف في الغسل فقط دون الوضوء أي فيجب فيه بلا خلاف . قال ابن ناجي : وحكى المسناوي قولا بأنه سنة ولا أعرفه فيتحصل في ذلك أربعة أقوال .

                                                                                                                            ( قلت ) بل خمسة والخامس التفرقة بين الوضوء والغسل ، وإنكار القول بالسنية عجيب فقد قال ابن يونس : قال ابن القصار : التدلك في غسل الجنابة واجب عند مالك وقال أبو الفرج المالكي وغيره : مستحب وبالأول أقول . وابن القصار من العراقيين وهم يطلقون المستحب على السنة ذكره في التوضيح في الموالاة فتأمله والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            وقال أبو الحسن الصغير حكى ابن بطال الاتفاق على الوضوء أنه لا بد فيه من التدلك بخلاف الغسل . الشيخ : الفرق بينهما أن آية الوضوء فيها فاغسلوا وآية الغسل فيها فاطهروا ، وأحاديث الوضوء كلها تدل على التدلك وأحاديث الغسل إنما فيها أفاض الماء واغتسل ، وقال الحسن : إن ظاهر كلام ابن يونس وابن رشد وابن بشير أن الخلاف في الغسل فقط ويتعلق به أربعة فروع : حقيقة الدلك ومقارنته للماء والاستنابة فيه ونقل الماء إلى العضو .

                                                                                                                            ( فرع ) فأما حقيقة الدلك في الوضوء والغسل فهي إمرار اليد على العضو . قال في المدونة : وإذا انغمس الجنب في نهر ينوي به الغسل لم يجزه حتى يمر بيديه على جميع جسده وكذلك لا يجزيه الوضوء حتى يمر بيديه على مواضع الوضوء انتهى . وقال اللخمي في باب الغسل : وعلى المغتسل والمتوضئ أن يمر اليد مع الماء في حين غسله ووضوئه ، فإن انغمس في الماء حين غسله أو صب الماء على مواضع الوضوء أو غمسها في الماء ولم يمر اليد مع ذلك لم يجزه الغسل ولا الوضوء عند مالك ، ثم ذكر قول أبي الفرج أنه واجب لا لنفسه كما تقدم ، وقال سيدي الشيخ زروق في شرح قول الرسالة في غسل الوجه : فيفرغه [ ص: 219 ] عليه غاسلا له بيديه بمعنى أنه يدلكه بهما مع الماء أو أثره متصلا به دلكا وسطا إذ لا يلزمه إزالة الوسخ الخفي بل ما ظهر وحال بين مباشرة الماء للعضو ، وقال في شرح الإرشاد : ولا يلزم إزالة الوسخ إلا أن يكون متجسدا ، وقال ابن شعبان في الزاهي : والغسل إمرار اليد على الوجه لا إرسال الماء فقط وليس عليه أن يدلك وجهه وإن طافه وخف إمرار اليد يجزي إذا كان يقع عليه اسم الغسل ، وما أنقى من بشرته فهو أفضل له إذا كان لا وقاية للوجه مما يوقى به سائر الجسد انتهى .

                                                                                                                            ( فرع ) وأما مقارنة الدلك لصب الماء فلا شك أنه الأكمل واختلف في اشتراط ذلك فقيل : يشترط كونه مقارنا لصب الماء ولا يكفي إذا كان عقب الصب ، قال ابن فرحون في الكلام على غسل الوجه في شرح قول ابن الحاجب الثانية غسل الوجه بنقل الماء إليه مع الدلك . قوله : مع الدلك يحتمل أن ينقل الماء إليه فيقتضي أن الدلك يشترط فيه أن يكون مقارنا لصب الماء ولا يكفي إذا كان بأثر الصب وهذا مذهب القابسي خلاف ما ذهب إليه ابن أبي زيد أنه يكفي كونه عقب صب الماء وهو الصحيح للزوم الحرج والمشقة بذلك انتهى . وأصله لابن هارون كما نقله عنه صاحب الجمع وقال ابن الحاجب في باب الغسل : إنه الأصح .

                                                                                                                            فقال : ولو تدلك عقيب الانغماس أو الصب أجزأه على الأصح وسيقول المصنف في باب الغسل : ودلك ولو بعد الماء . وقال الفاكهاني في شرح الرسالة في باب الغسل : الدلك إمرار اليد أو ما يقوم مقامها مع الماء وفي اشتراط مقارنته لصب الماء قولان أظهرهما عدم اشتراط المقارنة ; لأن اشتراطها يؤدي إلى مشقة ولأن الماء إذا صب على الجسد يبقى زمانا فإذا تدلك عقب الصب والماء يسيل على جسده كان كمن تدلك مع صب الماء ، وقال سيدي الشيخ زروق في شرح قول الرسالة : ويعركها بيده اليسرى .

                                                                                                                            والعرك الدلك وينبغي أن يكون متصلا بالإفاضة في كل مغسول ; لأنه أبرأ من الخلاف وإن كان المشهور جواز التعقب مع الاتصال ، وقال في شرح الإرشاد : الفرض السابع من فرائض الوضوء والدلك وحقيقته إمرار اليد مع الماء على قول ابن القاسم وعلى أثره على قول ابن أبي زيد وهو المشهور ، وسيأتي كلام ابن يونس وترجيحه لقول ابن أبي زيد في باب الغسل ، وذكر ابن عرفة في الكلام على غسل الوجه عن الباجي نحو قول القابسي ونصه : شرط إمرار اليد على العضو قبل ذهاب الماء عنه ; لأنه بعده مسح ابن عرفة يأتي في الغسل فيه خلاف انتهى .

                                                                                                                            وظاهر كلامه أن الخلاف إنما هو في الغسل وقد حكى ابن هارون وصاحب الجمع وابن فرحون وغيرهم الخلاف هنا كالخلاف هناك والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) وأما الاستنابة في الدلك فإن كانت من ضرورة جازت من غير خلاف وينوي المغسول لا الغاسل ، وإن كانت لغير ضرورة فلا يجوز من غير خلاف ، واختلف إذا وقع ونزل هل يجزيه أو لا ؟ قولان قال الجزولي في شرح الرسالة عند قوله غاسلا له : لا خلاف في النيابة على صب الماء أنها جائزة ويؤخذ جوازها من حديث المغيرة إذ كان يصب الماء على النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                            وأما على الفعل فإن كان لضرورة فيجوز من غير خلاف وينوي المفعول لا الفاعل ، وإن كان لغير ضرورة فلا يجوز من غير خلاف واختلف إذا وقع ونزل هل يجزيه أم لا ؟ قولان ولو وكل جماعة على أن يغسل كل واحد عضوا على القول بالجواز فقولان ، من قال الترتيب فرض لا يجزيه ، ونحوه للشيخ يوسف بن عمر وذكره أيضا في باب الغسل وشهر الإجزاء ، ولفظ الشيخ يوسف بن عمر : فإن وكل غيره لغير ضرورة فقيل : يجزيه ، وقيل : لا يجزيه والمشهور أنه فعل حراما ويجزيه انتهى . وكلام ابن شعبان الآتي يدل على الإجزاء ، وكذلك كلام ابن رشد يدل على أن المذهب الإجزاء فإنه قال في رسم النذور والجنائز من سماع أشهب من كتاب الوضوء : سئل مالك عن غسل [ ص: 220 ] الجواري رجلي عبد الله بن عمر للصلاة قال : نعم في رأي ، قيل له : ألا تخاف أن يكون ذلك من اللمس قال : لا لعمري وما كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعل ذلك إلا من شغل أو عذر يجده . قال ابن رشد في حديث ابن عمر دليل على قول مالك أنه إذا لم يكن القصد في لمس أحد الزوجين صاحبه الالتذاذ فلا وضوء عليه إلا أن يلتذ ، فلو التذ ابن عمر لما صلى بذلك الوضوء ، وحكى الطحاوي عن طائفة من أهل العلم أن الأفضل أن يلي المغتسل أو المتوضئ أو المتيمم ذلك بنفسه لنفسه ، فإن ولي ذلك غيره أجزأه ، وحكي عن طائفة منهم أن ذلك لا يجزيه قال : ومنهم مالك بن أنس والذي يظهر من مذهبه وقوله في هذه المسألة خلاف ذلك إلا أن يفعله استنكافا عن عبادة الله تعالى واستكبارا عنها وتهاونا بها انتهى . وله نحو ذلك في سماع محمد بن خالد ونصه : سألت ابن القاسم عمن توضأ على نهر فلما فرغ خضخض رجليه في الماء فقال : سألت مالكا عن ذلك فقال : يغسلهما ولا يجزيه قال أصبغ : قلت لابن القاسم : إن فعله فعليه الإعادة ؟ قال : نعم قلت له : فإن غسل إحداهما بالأخرى ؟ قال : لا يقدر على ذلك ، فقلت : بلى ، قال : إن كان يقدر على ذلك فذلك يجزيه .

                                                                                                                            ابن رشد وهذا كما قال لأن الغسل في اللغة لا يفعل إلا بصب الماء وإمرار اليد أو ما يقوم مقام ذلك من دلك إحدى رجليه بالأخرى في داخل الماء إن كان يستطيع ذلك ، وقد روي عن محمد بن خالد أنه قال : لا يجزيه حتى يغسلهما بيديه فيحتمل أنه رأى أن دلك إحداهما بالأخرى لا يمكنه أو لعله فعله استخفافا من فاعله وتهاونا إذا فعله من غير ضرورة انتهى . وسيأتي كلامه في سماع موسى بن معاوية في الفرع الذي بعد هذا وأما الاستنابة على صب الماء فتجوز بلا خلاف قاله الجزولي والشيخ يوسف بن عمر وقال ابن فرحون في الألغاز : فإن قلت : هل تجوز النيابة في الوضوء ؟ قلت أما في صب الماء على العضو فتجوز ، وأما في الدلك فلا تجوز إلا أن يكون المستنيب مريضا .

                                                                                                                            قاله ابن العربي في أحكامه في أول سورة الكهف وقال ابن شعبان في الزاهي : من كانت بيده علة تمنعه من غسل وجهه ولى غيره منه مثل الذي كان يلي من نفسه ، وأجزأ ذلك الغسل عن مراده ، ونيته بحسب ما نواه وأراده وغير نافع له ما ينويه المأمور من وفاقه أو خلافه وكذلك لو احتاج إلى أن يلي منه ما كان يلي من جميع أعضائه المفترض عليه فيها الغسل والمسح كان كما وصفنا ، وقال ابن شعبان أيضا في مسألة من أكره على الوضوء : ولو ولى ذلك يعني غسل أعضائه منه بغير أمره مكرها له على ذلك ما أجزأه ولو نوى الطهارة عند فعل الفاعل إذا كان لا يقدر على دفعه ، وإن كان يقدر على دفعه وأحدث نية الطهارة عند ابتداء الفاعل تم له ذلك .

                                                                                                                            وأما إن نوى الطهارة بعد أن غسلت بعض أعضاء وضوئه أمر بإعادة الطهارة ، وإن كان قد صلى بذلك أعاد ; لأنه لم يغسل بعض ما افترض عليه ، وإن كان إنما صلى بعد أن أعاد ذلك العضو وحده أجزأته صلاته ; لأنه كالمنكس . هذا إذا أعاد غسله بالقرب وإلا كان مفرقا للطهارة عمدا فلا يجزيه انتهى . بعضه باللفظ وبعضه بالمعنى ( قلت ) وقد تجب الاستنابة كما تقدم في الأقطع وكما سيأتي في باب الغسل وفي آداب قضاء الحاجة .

                                                                                                                            ( فرع ) وأما نقل الماء إلى العضو فإن أريد به إيصال الماء إلى العضو فالمذهب وجوبه ، فلو أرسل الماء من يديه ثم مر بهما على وجهه أو غيره من الأعضاء لم يجزه .

                                                                                                                            قال ابن رشد : اتفاقا لأنه مسح وليس بغسل ونقله في التوضيح ، وإن أريد بالنقل حمل الماء باليد إلى العضو فالمشهور من المذهب أنه لا يجب ، فلو أصاب المطر أعضاء وضوئه أو جسده أو خاض برجليه في الماء أو توضأ في الماء وتدلك في ذلك كله أجزأه على المشهور ، كما أن الجنب إذا انغمس في نهر وتدلك فإنه يجزئه اتفاقا ، وكذلك إذا نصب يديه للمطر حتى حصل فيهما من الماء ما يغسل به وجهه أو غيره من الأعضاء أجزأه بلا خلاف ، قال [ ص: 221 ] في التوضيح : الصور ثلاث منها ما اتفق على عدم النقل وهي مسألة النهر كما ذكر ابن رشد . يشير إلى قول ابن رشد في شرح أول مسألة من نوازل سحنون من كتاب الوضوء ، وقد أجمعوا على أن الجنب إذا انغمس في النهر وتدلك فيه للغسل أن ذلك يجزئه وإن لم ينقل الماء بيده إليه ولا صبه عليه ، ثم قال في التوضيح : ومنها ما اختلف فيه وهي مسألة سحنون ويشير إلى قوله في المسألة المذكورة .

                                                                                                                            ( قلت ) لسحنون أرأيت الرجل يكون في السفر ولا يجد الماء فيصيبه المطر هل يجوز له أن ينصب يديه للمطر ويتوضأ ؟ قال : نعم . قلت فإن كان جنبا هل يتجرد ويتطهر بالمطر ؟ قال : نعم . قلت : فإن لم يكن غزيرا ؟ قال : إذا وقع عليه ما يبل جلده فعليه أن يتجرد ويتطهر . ابن رشد أما إذا نصب يده للمطر فحصل فيها من المطر ما يكون بنقله إلى وجهه وسائر أعضائه غاسلا له ومن بلته ما يمسح به رأسه فلا اختلاف في صحة وضوئه ، وذهب ابن حبيب إلى أنه لا يجوز له أن يمسح بيديه على رأسه بما أصابه من الرأس فقط ، وكذلك على مذهبه لا يجوز له أن يغسل ذراعيه ورجليه بما أصابهما من المطر دون أن ينقل إليهما الماء بيديه من المطر ، وحكاه عنه ابن الماجشون وهو دليل قول سحنون في هذه الرواية ، وذلك كله جائز على مذهب ابن القاسم رواه عنه عيسى فيما حكى الفضل وذلك أيضا قائم من المدونة فيمن توضأ وأبقى رجليه فخاض بهما نهرا فغسلهما فيه أن ذلك يجزئه إذا نوى به الوضوء وإن كان لم ينقل إليهما الماء بيديه ، ومثله في سماع موسى بن معاوية ومحمد بن خالد من هذا الكتاب ، وقد أجمعوا على أن الجنب وذكر ما تقدم ، ثم قال : وذلك يدل على ما اختلفوا فيه من الوضوء انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن عرفة : وفي كون قول ابن رشد إجماعهم على إجزاء انغماس الجنب في الماء وتدلكه فيه يدل على ما اختلفوا فيه من الوضوء دليلا على أن كل صور الغسل متفق على عدم اشتراط النقل فيها ، وإنما اتفقوا على صور الانغماس ولو اغتسل خارج الماء كان كالوضوء نظر ، والثاني أظهر وقاله بعض من لقيت قال ابن ناجي : وبالثاني قطع شيخنا يعني البرزلي والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            وتحصل من كلام ابن رشد فيمن غسل أعضاء وضوئه بما أصابها من المطر ومسح رأسه بما أصابه من المطر قولان ، مذهب ابن القاسم الجواز وهو الذي يفهم من المدونة من مسألة الحائض في النهر ، ومثله في سماع موسى ومحمد بن خالد وذهب ابن حبيب ورواه عن ابن الماجشون أنه لا يجوز وأما لو لاقى برأسه المطر ثم مسحه بيديه فقال ابن عبد السلام : المنصوص أنه لا يكفي ، وحكى ابن عرفة عن بعض شيوخه أنه حكي الاتفاق على ذلك قال في التوضيح وفي المنتقى : لو مسح بما على رأسه من بلل مطر أو غيره لم يجزه قاله ابن القاسم وفيه أن ابن القاسم وسحنونا قالا يجوز الغسل بماء المطر كما نقله ابن رشد وعلى هذا فاتفق نقل الباجي وابن رشد عن ابن القاسم في الإجزاء في الغسل واختلفا في المسح والظاهر أن له قولين انتهى . ولفظ الباجي : وأما إيصال الماء إليه يعني الرأس فهو أن ينقل بلل الماء بيده إليه ولا يجزئه أن يمر يده جافة على بلل رأسه فإن ذلك ليس بمسح بالماء وإنما هو مسح بيده ، حكى ذلك ابن حبيب عن ابن الماجشون والذي يتوضأ بالمطر ينصب يديه للمطر فيمسح بالبلل رأسه ، وأما الغسل فيجزئه أن يمر يده على جسده بما صار فيه من ماء مطر أو غيره قاله ابن القاسم وسحنون .

                                                                                                                            والفرق بينهما أن ماء المسح يسير فإذا كان على العضو الممسوح لم يكن الماسح ماسحا بالماء وماء الغسل يعلق باليد ويتصرف معها على أعضاء الغسل كان في اليد ماء أم لا لكثرته فيكون غاسلا بالماء انتهى . وفي التوضيح والفرق على هذا أن قوله تعالى { وامسحوا برءوسكم } يقتضي وجوب النقل إذ التقدير ألصقوا بلل أيديكم برءوسكم والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ومسألة المدونة [ ص: 222 ] التي أشار إليها ابن رشد وأقام منها عدم وجوب النقل هي قولها : ومن بقيت رجلاه من وضوئه فخاض بهما نهرا فدلكهما فيه بيديه ولم ينو تمام وضوئه لم يجزه حتى ينويه ا هـ .

                                                                                                                            ( قلت ) ويقوم من المسألة المتقدمة أعني قوله : وإذا انغمس الجنب في نهر إلى آخره .

                                                                                                                            وقد أقامه منها أبو الحسن الصغير كما حكاه ابن ناجي فيه ويؤخذ من كلام اللخمي المتقدم أيضا ونص ما في سماع موسى بن معاوية الذي أشار إليه ابن رشد ، وسئل ابن القاسم عن الذي يتوضأ وينسى غسل رجليه فيمر بنهر فيدخل فيه ويخوضه هل يجزئه عن غسل رجليه قال مالك : إذا دلك إحدى رجليه بالأخرى أجزأه . ابن القاسم إذا دلك إحداهما بالأخرى وكان يستطيع ذلك فلا بأس به .

                                                                                                                            ابن رشد ولا بد من تجديد النية ; لأنه لما نسيها وفارق محل وضوئه على أنه أكمله ارتفضت النية المتقدمة فلزمه تجديدها ، وكذلك في المدونة فيمن توضأ وأبقى رجليه فخاض بهما نهرا وغسلهما أن ذلك لا يجزئه إلا بالنية ; لأن معنى ذلك أنه أبقاهما ظنا أنه أكمل وضوءه ، فإن أبقاهما قاصدا لغسلهما في النهر لم يحتج لتجديد النية وأجزأه غسلهما في النهر دون تجديد نية إن كان قريبا ، ولو كان على النهر فلما فرغ من وضوئه أدخلهما فيه ودلك إحداهما بالأخرى لم يحتج في ذلك إلى تجديد نية انتهى . وما أشار إليه في سماع محمد بن خالد تقدم جميعه وقال ابن عبد السلام في شرح قول ابن الحاجب ينقل الماء إليه لا يعني ما يعطيه ظاهر اللفظ من رفع الماء بيديه أو بيد من يستنيبه بل حصوله على سطح الوجه كيفما اتفق حتى لو ألقى وجهه إلى ميزاب أو مطر وابل وأتبع الدلك لكفاه وكذا المنقول في هذه الصورة .

                                                                                                                            ( فإن قلت ) لا يحتاج هذا إلى بيان لأن مثل ما ذكرت لا يلتبس على من له أدنى معرفة ( قلت ) قد يلتبس ; لأن المنصوص في المسح أنه لا يكفي فيه أن يلاقي برأسه ماء المطر ثم يمسحه بيديه فقد يشكل الفرق بينهما أي بين المسح والغسل كما غلط فيه بعض المتأخرين فلذلك احتيج إلى التنبيه على ما تقدم ، وذكر ابن عرفة كلام ابن رشد المتقدم ثم كلام ابن عبد السلام واعترض عليه في تغليطه بعض المتأخرين بأنه قصور يعني لأن الخلاف منقول ، وقال ابن عرفة : أيضا جعل ابن رشد مسح رأسه بما ناله من رش دون يديه مجزئا عند ابن القاسم خلاف ، نقل بعض شيوخنا ومن لقيناه عدم إجزائه اتفاقا انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وهو الذي حكاه الباجي عن ابن القاسم في موضعين في العمل في الوضوء وفي باب ما جاء في مسح الرأس ولم يحك غيره وكذلك ابن هارون ولم يحك فيه خلافا ، وحكى ابن الفرس في أحكامه القولين كما حكاهما ابن رشد سواء بسواء ثم قال : فعلى هذا يأتي الخلاف فيمن توضأ وهو منغمس في الماء والأظهر الجواز في هذه المسألة ; لأن هذا غسل وإن لم ينقل إليه الماء بل هو أكثر من نقل الماء ، وليس في اللغة ما يدفع أن يسمى هذا غسلا انتهى . ثم ذكر في التوضيح الصورة الثالثة من صور النقل فقال : ومنها ما اتفق فيها على وجوب النقل وهي إذا أخذ الإنسان الماء ثم نفضه من يده ومر بها بعد ذلك على العضو فلا يجزئه . نص على ذلك مالك في العتبية . ابن رشد : ولا خلاف فيه ; لأنه مسح وليس بغسل انتهى . والمسألة في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الطهارة وفي مختصر الواضحة قال عبد الملك : وإن أرسل المتوضئ في غسل وجهه الماء من يديه ثم ذهب بهما إلى وجهه لا ماء فيهما إلا البلة فعليه أن يعيد الوضوء وكل صلاة صلاها بمثل ذلك أبدا ; لأنه ماسح وإنما قال تعالى { فاغسلوا } وإنما يجوز هذا فيما ذكر الله فيه المسح وجاءت السنة بمثل الخفين والرأس والأذنين فهذا الشأن فيه أن يأخذ الماء بيديه ثم يرسله أو يرسله باليمنى على اليسرى ثم يمسح ، وكذلك سمعت أصبغ يقول في ذلك كله انتهى . وقد تقدم في الكلام على غسل الوجه عن الشيخ زروق أن نفض اليد قبل إيصال [ ص: 223 ] الماء إلى الوجه مبطل بالاتفاق وكذلك صبه من دون الجبهة ، وظاهر كلام ابن الفرس في أحكامه خلاف ما قال ابن رشد من الاتفاق .

                                                                                                                            ونصه : وقد اختلف فيمن يبل يديه بالماء ويمرهما على أعضاء الوضوء هل يجزيه ذلك أو يلزم نقل الماء إلى أعضاء الوضوء ولا يجتزئ بالبلل ؟ فالمشهور في المذهب النقل .

                                                                                                                            ( قلت ) فتحصل من هذا أن نقل الماء إلى العضو - بمعنى إيصال الماء إليه - واجب اتفاقا وأما حمل الماء إليه باليد فلا يجب أما في مسألة انغماس الجنب في النهر فباتفاق ، وأما في مسألة من أصاب المطر أعضاء وضوئه أو جسمه أو خاض برجليه في الماء أو توضأ في الماء فعلى الراجح وهو مذهب ابن القاسم المفهوم من المدونة وغيرها إلا في مسألة مسح الرأس فالراجح أنه لا يكفي مسحه بالبلل الحاصل عليه والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية