الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجلد، وأما التغريب فمفوض إلى رأي الإمام، وقال مالك : يجلد الرجل ويغرب، وتجلد المرأة ولا تغرب. حجة الشافعي رحمه الله حديث عبادة أنه عليه السلام قال: " خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا; البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " ويدل أيضا عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد : " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ابني كان عسيفا على هذا وزنى بامرأته، فافتديت منه بوليدة ومائة شاة، ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم ، فاقض بيننا، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله; أما الغنم والوليدة فرد عليك، وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام، ثم قال لرجل من أسلم : اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " واحتج أبو حنيفة رحمه الله على نفي التغريب بوجوه:

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها: أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ الآية، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، وقرروا النسخ من ثلاثة أوجه.

                                                                                                                                                                                                                                            الأول: أنه سبحانه رتب الجلد على فعل الزنا بالفاء، وحرف الفاء للجزاء إلا أن أئمة اللغة قالوا: اليمين بغير الله ذكر شرط وجزاء، وفسروا الشرط بالذي دخل عليه كلمة إن، والجزاء بالذي دخل عليه حرف الفاء، والجزاء اسم لما يقع به الكفاية، مأخوذ من قولهم جازيناه ؛ أي: كافأناه، وقال عليه السلام : " تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك " أي: تكفيك، ومنه قول القائل: اجتزت الإبل بالعشب بالماء، وإنما تقع الكفاية بالجلد إذا لم يجب معه شيء آخر، فإيجاب شيء آخر يقتضي نسخ كونه كافيا.

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني: أن المذكور في الآية لما كان هو الجلد فقد كان ذلك كمال الحد، فلو جعلنا النفي معتبرا مع الجلد لكان الجلد بعض الحد لا كل الحد، فيفضي إلى نسخ كونه كل الحد.

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث: أن بتقدير كون الجلد كمال الحد فإنه يتعلق بذلك رد الشهادة ، ولو جعلناه بعض الحد لزال ذلك الحكم ، فثبت أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ الآية.

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها: قال أبو بكر الرازي : لو كان النفي مشروعا مع الجلد لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوة الآية توقيف الصحابة عليه; لئلا يعتقدوا عند سماع الآية أن الجلد هو كمال الحد، ولو كان كذلك لكان اشتهاره مثل اشتهار الآية، فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل كان وروده من طريق الآحاد ، علم أنه غير معتبر.

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها: ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمة: " إذا زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بطفير " وفي رواية أخرى: " فليجلدها الحد ولا تثريب عليه " ووجه الاستدلال به أنه لو كان النفي ثابتا لذكره مع الجلد.

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها: أنه إما أن يشرع التغريب في حق الأمة أو لا يشرع، ولا جائز أن يكون مشروعا; لأنه يلزم منه الإضرار بالسيد من غير جناية صدرت منه وهو غير جائز; ولأنه قال صلى الله عليه وسلم : " بيعوها ولو بطفير " ولو وجب نفيها لما جاز بيعها; لأن المكنة من تسليمها إلى المشتري لا تبقى بالنفي، ولا جائز أن لا يكون مشروعا لقوله تعالى : ( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) [النساء: 25].

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 120 ] وخامسها: أن التغريب لو كان مشروعا في حق الرجل لكان إما أن يكون مشروعا في حق المرأة أو لا يكون، والثاني باطل لأن التساوي في الجناية قد وجد في حقهما، وإن كان مشروعا في حق المرأة فإما أن يكون مشروعا في حقها وحدها أو مع ذي محرم, والأول غير جائز للنص والمعقول، أما النص فقوله عليه السلام : " لا يحل لامرأة أن تسافر من غير ذي محرم " وأما المعقول فهو أن الشهوة غالبة في النساء، والانزجار بالدين إنما يكون في الخواص من الناس، فإن الغالب لعدم الزنا من النساء بوجود الحفاظ من الرجال، وحيائهن من الأقارب. وبالتغريب تخرج المرأة من أيدي القرباء والحفاظ، ثم يقل حياؤها لبعدها عن معارفها، فينفتح عليها باب الزنا، فربما كانت فقيرة فيشتد فقرها في السفر، فيصير مجموع ذلك سببا لفتح باب هذه الفاحشة العظيمة عليها. ولا جائز أن يقال: إنا نغربها مع الزوج أو المحرم; لأن عقوبة غير الجاني لا تجوز لقوله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [الأنعام: 164].

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها: ما روي عن عمر أنه غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر ، فلحق بهرقل، فقال عمر : لا أغرب بعدها أحدا . ولم يستثن الزنا. وروي عن علي عليه السلام أنه قال في البكرين إذا زنيا : يجلدان ولا ينفيان , وإن نفيهما من الفتنة، وعن ابن عمر أن أمة له زنت فجلدها ولم ينفها، ولو كان النفي معتبرا في حد الزنا لما خفي ذلك على أكابر الصحابة.

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها: ما روي " أن شيخا وجد على بطن جارية يحنث بها في خربة ، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجلدوه مائة. فقيل: إنه ضعيف من ذلك. فقال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها وخلوا سبيله ". ولو كان النفي واجبا لنفاه، فإن قيل : إنما لم ينفه; لأنه كان ضعيفا عاجزا عن الحركة، قلنا: كان ينبغي أن يكترى له دابة من بيت المال ينفى عليها. فإن قيل: كان عسى يضعف عن الركوب، قلنا: من قدر على الزنا كيف لا يقدر على الاستمساك؟!

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها: أن التغريب نظير القتل لقوله تعالى : ( أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ) [النساء: 66] فنزلهما منزلة واحدة، فإذا لم يشرع القتل في زنا البكر وجب أن لا يشرع أيضا نظيره وهو التغريب. والجواب عن الأول: أنه ليس في كلام الله تعالى إلا إدخال حرف الفاء على الأمر بالجلد، فأما أن الذي دخل عليه هذا الحرف فإنه يسمى جزاء، فليس هذا من كلام الله ولا من كلام رسوله، بل هو قول بعض الأدباء فلا يكون حجة.

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله ثانيا: لو كان النفي مشروعا لما كان الجلد كل الحد، فنقول: لا نزاع في أنه زال أمره; لأن إثبات كل شيء لا أقل من أن يقتضي زوال عدمه الذي كان، إلا أن الزائل هاهنا ليس حكما شرعيا، بل الزائل محض البراءة الأصلية، ومثل هذه الإزالة لا يمتنع إثباتها بخبر الواحد، وإنما قلنا: إن الزائل محض العدم الأصلي; وذلك لأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب. والقدر المشترك بين القسمين لا إشعار له بواحد من القسمين.

                                                                                                                                                                                                                                            فإذن إيجاب الجلد لا إشعار فيه البتة لا بإيجاب التغريب ولا بعدم إيجابه، إلا أن نفي التغريب كان معلوما بالعقل نظرا إلى البراءة الأصلية، فإذا جاء خبر الواحد ودل على وجوب التغريب، فما أزال البتة شيئا من مدلولات اللفظ الدال على وجوب الجلد، بل أزال البراءة الأصلية، فأما كون الجلد وحده مجزيا، وكونه وحده كمال الحد. وتعلق رد الشهادة عليه، فكل ذلك [ ص: 121 ] تابع لنفي وجوب الزيادة. فلما كان ذلك النفي معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد فيه، كما أن الفروض لو كانت خمسا لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة، ولو زيد فيها شيء آخر لتوقف الخروج عن العهدة وقبول الشهادة على أداء تلك الزيادة، مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس ، فكذا هاهنا. أما لو قال الله تعالى: الجلد كمال الحد ، وعلمنا أنها وحدها متعلق رد الشهادة، فلا يقبل هاهنا في إثبات الزيادة خبر الواحد; لأن نفي وجوب الزيادة ثبت بدليل شرعي متواتر. والجواب عن الثاني: أنه لو صح ما ذكره لوجب في كل ما خصص آية عامة أن يبلغ في الاشتهار مبلغ تلك الآية، ومعلوم أنه ليس كذلك. والجواب عن الثالث أن قوله : "ثم بيعوها" لا يفيد التعقيب، فلعلها تنفى ثم بعد النفي تباع. والجواب عن الرابع أنه معارض بما روى الترمذي في جامعه أنه عليه السلام جلد وغرب، وأن أبا بكر جلد وغرب. والجواب عن الخامس أن للشافعي رحمه الله في تغريب العبد قولين:

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما: لا يغرب لأنه عليه السلام قال: " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد " ولم يأمر بالتغريب، ولأن التغريب للمعرة ولا معرة على العبد فيه; لأنه ينقل من يد إلى يد، ولأن منافعه للسيد ففي نفيه إضرار بالسيد. والثاني: وهو الأصح أنه يغرب لقوله تعالى : ( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) [النساء: 25] ولا ينظر إلى ضرر المولى, كما يقتل العبد بسبب الردة, ويجلد العبد في الزنا والقذف، وإن تضرر به المولى ، فعلى هذا كم يغرب؟ فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما: يغرب نصف سنة ; لأنه يقبل التنصيف كما يجلد نصف حد الأحرار. والثاني: يغرب سنة ; لأن التغريب المقصود منه الإيحاش, وذلك معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء أو العنة. والجواب عن السادس: أن المرأة لا تغرب وحدها بل مع محرم، فإن لم يتبرع المحرم بالخروج معها أعطي أجرته من بيت المال، وإن لم يكن لها محرم تغرب مع النساء الثقات، كما يجب عليها الخروج إلى الحج معهن. قوله : التغريب يفتح عليها باب الزنا، قلنا: لا نسلم فإن أكثر الزنا بالإلف والمؤانسة وفراغ القلب، وأكثر هذه الأشياء تبطل بالغربة، فإن الإنسان يقع في الوحشة والتعب والنصب فلا يتفرغ للزنا. والجواب عن السابع: أي استبعاد في أن يكون الإنسان الذي يعجز عن ركوب الدابة يقدر على الزنا؟ والجواب عن الثامن: أنه ينتقض بالتغريب إذا وقع على سبيل التعزير. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية