الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 298 ] الوجه الرابع :

                                قال :

                                568 593 - حدثنا محمد بن عرعرة : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : رأيت الأسود ومسروقا شهدا على عائشة ، قالت : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين .

                                التالي السابق


                                وخرجه مسلم من طريق غندر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق - وهو : السبيعي ، به بمعناه .

                                وخرجه البخاري في موضع آخر من حديث ابن الزبير ، عن عائشة .

                                وخرجه مسلم من طريق آخر ، من رواية محمد بن أبي حرملة : أخبرني أبو سلمة ، أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما بعد العصر ؟ فقالت : كان يصليهما قبل العصر ، ثم إنه شغل عنهما - أو نسيهما - فصلاهما بعد العصر ، ثم أثبتهما ، وكان إذا صلى صلاة أثبتها .

                                قال إسماعيل : تعني : داوم عليها .

                                وخرجه من وجه آخر ، من طريق طاوس ، عن عائشة ، قالت : لم يدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الركعتين بعد العصر . فقالت عائشة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك ) .

                                ففي هذه الرواية : إشارة من عائشة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي في وقت نهى عن الصلاة فيه ؛ لأنه إنما نهى عن تحري الطلوع والغروب ، وكان يصلي قبل ذلك .

                                [ ص: 299 ] وعلى هذا ؛ فلا إشكال في جواز المداومة عليها لمحبته المداومة على أعماله ، كما في الرواية التي قبلها ؛ لأن ذلك الوقت ليس بوقت نهي عن الصلاة بالكلية .

                                وقد روي عن عائشة ، أنه لم يداوم عليها .

                                خرجه الطبراني من رواية كامل أبي العلاء ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن عائشة ، قالت : فاتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان قبل العصر ، فلما انصرف صلاهما ، ثم لم يصلهما بعد .

                                وروى بقي بن مخلد في ( مسنده ) : حدثنا محمد بن مصفى : ثنا بقية : حدثني محمد بن زياد : سمعت عبد الله بن أبي قيس يقول : سألت عائشة عن الركعتين بعد العصر ؟ فقالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركعهما قبل الهاجرة ، فنهى عنهما ، فركعهما بعد العصر ، فلم يركعهما قبلها ولا بعدها .

                                وهذا إسناد جيد .

                                وخرجه الإمام أحمد عن غندر : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن خمير ، قال : سمعت عبد الله بن [ أبي ] موسى ، قال : دخلت على عائشة ، فسألتها عن الوصال في الصوم ، وسألتها عن الركعتين بعد العصر ؟ فقالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على الصدقة ، فجاءته عند الظهر ، فصلى الظهر ، وشغل في قسمته حتى صلى العصر ، ثم صلاها ، وقالت : عليكم بقيام الليل ؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدعه .

                                قال أحمد : يزيد بن خمير صالح الحديث . قال : وعبد الله بن أبي موسى هذا خطأ ، أخطأ فيه شعبة ، هو : عبد الله بن أبي قيس . انتهى .

                                والأمر كما قاله .

                                وقد روي عن عبد الله بن أبي قيس ، عن عائشة من وجه آخر ، وهو [ ص: 300 ] شامي حمصي ، خرج له مسلم .

                                وإنما سئلت عائشة عن الوصال والركعتين بعد العصر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عنهما ويفعلهما ، وحديث عائشة هذا يدل على أنه إنما فعلهما في هذه المرة ؛ ولذلك لم تأمر السائل بفعلهما ، وإنما عدلت إلى أمره بقيام الليل ، مع أنه [ لم ] يسأل عنه ، وأخبرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدعه ، وهذا يشعر بأن الصلاة بعد العصر بخلاف ذلك .

                                وخرج الإمام أحمد - أيضا - من رواية معاوية بن صالح ، عن عبد الله بن أبي قيس ، قال : سألت عائشة عن الركعتين بعد العصر ؟ فقالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين بعد الظهر ، فشغل عنهما حتى صلى العصر ، فلما فرغ ركعهما في بيتي ، فما تركهما حتى مات .

                                قال عبد الله بن أبي قيس : فسألت أبا هريرة عنه ؟ فقال : قد كنا نفعله ، ثم تركناه .

                                فخالف معاوية بن صالح محمد بن زياد ويزيد بن خمير ، وقولهما أولى .

                                وقد روي عن عائشة ، أنها ردت الأمر إلى أم سلمة في ذلك ، وقد سبق حديث كريب عنها - وهو أصح روايات الباب كما ذكره الدارقطني - وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، أن عائشة قالت : أخبرتني أم سلمة ، وحديث أبي سلمة ، عن عائشة وأم سلمة .

                                وخرج الإمام أحمد من رواية يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : دخلت أنا وابن عباس على معاوية ، فذكر الركعتين بعد العصر ، فجاء ابن الزبير ، فقال : حدثتني عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 301 ] فأرسل إلى عائشة ، فقالت : ذاك ما أخبرته أم سلمة ، فدخلنا على أم سلمة ، فأخبرناها ما قالت عائشة ، فقالت : يرحمها الله ، أولم أخبرها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عنهما ؟

                                وفي رواية بهذا الإسناد : أن عائشة قالت : لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن حدثتني أم سلمة ، فسألناها ، فذكرت القصة ، ثم قالت : ولقد حدثتها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما .

                                ورواه حنظلة السدوسي ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : صلى بنا معاوية العصر ، فأرسل إلى ميمونة رجلا ، ثم أتبعه رجلا آخر ، فقالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجهز بعثا ، ولم يكن عنده ظهر ، فجاءه ظهر من ظهر الصدقة ، فجعل يقسمه بينهم ، فحبسوه حتى أرهق العصر ، وكان يصلي قبل العصر ركعتين ، أو ما شاء الله ، فصلى العصر ثم رجع ، فصلى ما كان يصلي قبلها ، وكان إذا صلى صلاة ، أو فعل شيئا يحب أن يداوم عليه .

                                خرجه الإمام أحمد .

                                وفي رواية له بهذا الإسناد : أن معاوية أرسل إلى عائشة ، فأجابته بذلك .

                                وكلاهما وهم . والله أعلم .

                                ورواية يزيد بن أبي زياد له ، عن عبد الله بن الحارث ، عن [ أم ] سلمة أصح .

                                وحنظلة هذا ، قال الإمام أحمد : منكر الحديث . وضعفه ابن معين والنسائي .

                                [ ص: 302 ] وقد روي عن عائشة ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي بعد العصر شيئا .

                                ففي ( صحيح مسلم ) عن عبد الله بن شقيق ، قال : سألت عائشة عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تطوعه ؟ فقالت : كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا ، ثم يخرج فيصلي بالناس ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، وكان يصلي بالناس المغرب ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، ويصلي بالناس العشاء ، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين ، وكان يصلي بالليل تسع ركعات فيهن الوتر ، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين .

                                فهذا يدل على أنه لم يكن يصلي بعد العصر شيئا في بيتها ؛ لأنه لو كان ذلك لذكرته كما ذكرت صلاته في بيتها بعد الظهر والمغرب والعشاء .

                                وقد خرجه الإمام أحمد ، وزاد فيه : ( وركعتين قبل العصر ) . ولم يذكر بعدها شيئا .

                                وروى سعد بن أوس : حدثني مصدع أبو يحيى ، قال : حدثتني عائشة - وبيني وبينها ستر - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة إلا أتبعها ركعتين ، غير الغداة وصلاة العصر ؛ فإنه كان يجعل الركعتين قبلهما .

                                خرجه بقي بن مخلد .

                                فقد تبين بهذا كله أن حديث عائشة كثير الاختلاف والاضطراب ، وقد رده بذلك جماعة ، منهم : الترمذي والأثرم وغيرهما .

                                ومع اضطرابه واختلافه فتقدم الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا اختلاف فيها ولا اضطراب في النهي عن الصلاة بعد العصر عليه .

                                [ ص: 303 ] وعلى تقدير معارضته لتلك الأحاديث ، فللعلماء في الجمع بينهما مسالك :

                                المسلك الأول :

                                أن حديث عائشة يدل على التطوع المداوم عليه قبل الفريضة وبعدها ، إذا فات شيء منه فإنه يجوز قضاؤه بعد العصر .

                                وقد روي هذا المعنى عن زيد بن ثابت وابن عباس ، وإليه ذهب الشافعي والبخاري والترمذي وغيرهم .

                                ورجح أكثرهم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يداوم على ذلك ، كما في حديث أم سلمة ، وقد تبين أن عائشة رجعت إليها في ذلك .

                                وعلى تقدير أن يكون داوم عليها فقد كان صلى الله عليه وسلم يحافظ على نوافله كما يحافظ على فرائضه ، ويقضي ما فاته منها ، كما روي عنه أنه كان يقضي ما فاته من الصيام في الأشهر في شعبان - كما كانت عائشة تقضي ما فاتها من رمضان - حتى لا يأتي رمضان آخر وقد فاته شيء من نوافله في العام الماضي ؛ فلما صلى يوما ركعتين بعد العصر قضاء لما فاته من النوافل كان ذلك سببا مجوزا لمداومته على مثل ذلك .

                                وفي هذا نظر ؛ فإنه لما فاته صلاة الصبح بالنوم ، وقضاها نهارا لم يداوم على مثل تلك الصلاة كل يوم ، وكذلك لما قضى صلاة العصر يوم الخندق .

                                واختلف الشافعية فيمن قضى شيئا من التطور في وقت النهي : هل له المداومة ؟ على وجهين لهم ، أصحهما : أنه لا يجوز المداومة .

                                ورجح الأكثرون : أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يداوم على هذه الصلاة .

                                كما روى ابن لهيعة ، عن عبد الله بن هبيرة ، قال : سمعت قبيصة بن ذؤيب ، أن عائشة أخبرت آل الزبير ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى عندها ركعتين بعد العصر ، فكانوا يصلونها . [ ص: 304 ] قال قبيصة : فقال زيد بن ثابت : يغفر الله لعائشة ، نحن أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عائشة ، إنما كان كذلك لأن أناسا من الأعراب أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهجير ، فقعدوا يسألونه ويفتيهم حتى صلى الظهر ، ولم يصل ركعتين ، ثم قعد يفتيهم حتى صلى العصر ، فانصرف إلى بيته ، فذكر أنه لم يصل بعد الظهر شيئا ، فصلاهما بعد العصر ، يغفر الله لعائشة ، نحن أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عائشة ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد العصر .

                                وروى عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إنما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعتين بعد العصر ؛ لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر ، فصلاهما بعد العصر ، ثم لم يعد لهما .

                                خرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن ، وابن حبان في ( صحيحه ) .

                                والمسلك الثاني :

                                أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصا بإباحة الصلاة بعد العصر ، أو في أوقات النهي مطلقا ، وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحابنا كابن بطة ، ومن الشافعية وغيرهم .

                                وروى إسحاق بن راهويه في ( مسنده ) عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : رأيت عبد الله بن الزبير يصلي ركعتين بعد العصر ، فقلت : ما هذا ؟ قال : أخبرتني عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي ركعتين بعد العصر في بيتي ، قال : فأتيت عائشة ، فسألتها ، فقالت : صدق ، فقلت لها : فأشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ) ، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ما أمر ، ونحن نفعل ما أمرنا .

                                [ ص: 305 ] أبو هارون ، ضعيف الحديث .

                                ولهذا المعنى قال طائفة من العلماء : إنه إذا تعارض نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله أخذنا بنهيه؛ لاحتمال أن يكون فعله خاصا به ، كما في نهيه عن نكاح المحرم مع أنه نكح وهو محرم ، إن ثبت ذلك ، وكما كان يواصل في صيامه ، ونهى عن الوصال .

                                ويعضد هذا : ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أنقضيهما إذا فاتتا ؟ قال : ( لا ) .

                                فروى حماد بن سلمة ، عن الأزرق بن قيس ، عن ذكوان ، عن أم سلمة ، قالت : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر ، ثم دخل بيتي فصلى ركعتين ، فقلت : يا رسول الله ، صليت صلاة لم تكن تصليها ؟ فقال : ( قدم علي مال فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر ، فصليتهما الآن ) . فقلت : يا رسول الله ، أفنقضيهما إذا فاتتا ؟ قال ( لا ) .

                                خرجه الإمام أحمد وابن حبان في ( صحيحه ) .

                                وإسناده جيد .

                                قال الدارقطني : وروي عن ذكوان ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وعن ذكوان ، عن عائشة ، عن أم سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وقد ضعفه البيهقي بغير حجة في ( كتاب المعرفة ) .

                                وخرجه في ( كتاب السنن ) من رواية ذكوان ، عن عائشة ، قالت : حدثتني أم سلمة - فذكرت الحديث .

                                [ ص: 306 ] ورجح الأثرم والبيهقي : من رواه عن حماد ، عن الأزرق ، عن ذكوان ، عن عائشة ، عن أم سلمة .

                                وهذا مما يستدل به على أن عائشة إنما تلقت هذا الحديث عن أم سلمة .

                                وخرج أبو داود من رواية ابن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن ذكوان مولى عائشة ، أنها حدثته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر ، وينهى عنها .

                                وهذا يدل على أن عائشة روت اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصلاة .

                                وروي عنها من وجه آخر ، من رواية عبيدة بن معتب ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها بعد العصر فصلى ركعتين . فقلت : يا رسول الله ، أحدث الناس ؟ قال : " لا ، إن بلالا عجل الإقامة فلم نصل الركعتين قبل العصر ، فأنا أقضيهما الآن " . قلت : يا رسول الله ، أفنقضيهما إذا فاتتا ؟ قال : " لا " .

                                قال الدارقطني في " العلل " : لا أعلم أتى بهذا اللفظ غير عبيدة بن معتب ، وهو ضعيف .

                                قلت : رواية ذكوان تعضده وتشهد له .

                                وقد روي عن أم سلمة من وجه آخر : خرجه ابن بطة في مصنف له في مسألة الصلاة أوقات النهي ، من حديث ابن فضيل ، عن أبيه : حدثنا ابن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أم سلمة ، أنه سمعها ذكرت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ركعتين ، بينهما ركعتين بعد العصر ، لم تره صلى قبلها ولا بعدها مثلها ، وأنه أعلمها أنها ركعتان كان يصليهما قبل العصر ، فصلاهما بعد العصر . قال : فقلت له : أفنصليهما إذا فاتتا ؟ قال : " لا " .

                                [ ص: 307 ] المسلك الثالث :

                                النسخ ، وأهل هذا المسلك فرقتان :

                                منهم : من يدعي أن أحاديث النهي ناسخة للرخصة ؛ لأن النهي إنما يكون عن شيء تقدم فعله ، ولا يكون عن شيء لم يفعل بعد ، وهذا سلكه ابن بطة من أصحابنا وغيره ، وفيه بعد .

                                ومنهم : من يدعي أن أحاديث الرخصة ناسخة للنهي ، وهذا محكي عن داود .

                                وفي حديث أم سلمة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد العصر بعد نهيه عن ذلك [ . . . ] .

                                ومن الناس من يحكي عن داود أن النهي عن الصلاة في جميع الأوقات انتسخ بالصلاة بعد العصر .

                                وهذا بعيد على أصول داود .

                                ومنهم من حكى عنه أنه خص النسخ بالنهي عن الصلاة بعد العصر .

                                وهذا أشبه ، وقد حكي مثله رواية عن أحمد .

                                وأكثر العلماء على أنه ليس في ذلك ناسخ ولا منسوخ ، وهو الصحيح .

                                وقد روى جماعة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه لم يكن يصلي بعد العصر شيئا .

                                فروى أبو إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على إثر كل صلاة مكتوبة ركعتين ، إلا الفجر والعصر .

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في " صحيحه " .

                                [ ص: 308 ] وعاصم ، وثقه جماعة من الأئمة .

                                وروى زهير بن محمد ، عن يزيد بن خصيفة ، عن سلمة بن الأكوع ، قال : كنت أسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فما رأيته صلى بعد العصر ولا بعد الصبح قط .

                                خرجه الإمام أحمد .

                                وذكره الترمذي في ( علله ) ، وقال : سألت عنه محمدا - يعني : البخاري - فقال : لا أعرف ليزيد بن خصيفة سماعا من سلمة بن الأكوع . قال : ولم نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه .

                                كذا قال .

                                وقد خرجه من طريق سعيد بن أبي الربيع : حدثنا سعيد بن سلمة : ثنا يزيد بن خصيفة ، عن ابن سلمة بن الأكوع ، عن أبيه سلمة - فذكره - فأدخل بينهما : ( ابن سلمة ) ، لكنه لم يسمه .

                                وقد خرج البخاري فيما سبق حديث معاوية ، أنه قال : إنكم لتصلون صلاة ، لقد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رأيناه يصليها ، ولقد نهى عنها - يعني : الركعتين بعد العصر .

                                وقد ذكرنا فيما سبق عن عائشة حديثا في هذا المعنى - أيضا - وأنها قالت : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة إلا أتبعها ركعتين ، غير الغداة وصلاة العصر ؛ فإنه كان يجعل الركعتين قبلهما .

                                يستأنس لدعوى النسخ : بقول أبي هريرة : قد كنا نفعله - يعني : الصلاة بعد العصر - ثم تركناه .

                                [ ص: 309 ] خرجه الإمام أحمد من طريق معاوية بن صالح ، عن عبد الله بن أبي قيس ، أنه سأل عائشة عن الركعتين بعد العصر - فذكر حديثها .

                                قال عبد الله بن أبي قيس : وسألت أبا هريرة عنه ؟ فقال : قد كنا نفعله ، ثم تركناه .

                                ويحتمل عندي : أن يجمع بين أحاديث عائشة المختلفة في هذا الباب بوجه آخر غير ما تقدم ، وهو :

                                مسلك رابع :

                                لم نجد أحدا سبق إليه ، وهو محتمل :

                                فنقول : يمكن أن تكون عائشة - رضي الله عنها - لما بلغها عن عمر وغيره من الصحابة النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، ظنت أنهم ينهون عن الصلاة بمجرد دخول وقت العصر ، كما قال ذلك كثير من العلماء أو أكثرهم في النهي عن الصلاة بعد الفجر ، أن النهي يدخل بطلوع الفجر كما سبق ذكره .

                                وكانت عائشة عندها علم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يصلي قبل صلاة العصر ركعتين في بيتها ، وكان عندها رواية عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيتها مرة ركعتين بعد العصر ، فكانت ترد بذلك كله قول من نهى عن الصلاة بعد العصر .

                                فإذا وقع التحقيق معها في الصلاة بعد صلاة العصر كما أرسل إليها معاوية يسألها عن ذلك تقول : لا أدري ، وتحيل على أم سلمة ؛ لأن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة العصر لم تره عائشة ، إنما أخبرتها به أم سلمة ، وإنما رأت عائشة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها ؛ وذلك بعد دخول وقت العصر وقبل صلاة العصر ، مع أنها كانت - أحيانا - تروي حديث أم سلمة وترسله ، ولا تسمي من حدثها به .

                                وهذا وجه حسن يجمع بين عامة اختلاف الأحاديث في هذا الباب ، إلا أنه [ ص: 310 ] يشكل عليه أحاديث :

                                منها : رواية يحيى بن قيس : أخبرني عطاء : أخبرتني عائشة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل عليها بعد صلاة العصر إلا صلى ركعتين .

                                خرجه الإمام أحمد عن محمد بن بكر البرساني ، عن يحيى ، به .

                                ورواه أحمد بن المقدام وغيره ، عن محمد بن بكر ، ولم يذكروا لفظة : ( صلاة ) .

                                ولعل هذه اللفظة رواها محمد بن بكر بما فهمه من المعنى ، فكان تارة يذكرها ، وتارة لا يذكرها ، فإن المتبادر عند إطلاق الصلاة بعد العصر الصلاة بعد صلاة العصر ، لا بعد وقت العصر ، مع احتمال إرادة المعنى الثاني .

                                وقد روي عن عائشة - أيضا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع ركعتين بعد الصبح .

                                وقد خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ .

                                والمراد : بعد وقت الصبح ، لا بعد صلاته ، بغير إشكال .

                                ومنها : ما روى خلاد بن يحيى : ثنا عبد الواحد بن أيمن : حدثني أبي ، قال : دخلت على عائشة ، فسألتها عن ركعتين بعد العصر ؟ فقالت : والذي ذهب بنفسه ، ما تركهما حتى لقي الله . فقال : يا أم المؤمنين ، فإن عمر كان ينهى عنها ويشدد فيها ؟ قالت : صدقت ، كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس العصر ، فإذا فرغ دخل بيوت نسائه فصلاهما ؛ لئلا يروه فيجعلوها سنة ، وكان يحب ما خف على أمته .

                                [ ص: 311 ] وهذا تصريح بأنه كان يصليهما بعد صلاة العصر .

                                ويعضده - أيضا - : رواية الأسود ومسروق ، عن عائشة ، قالت : ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين .

                                وقد خرجه البخاري فيما سبق .

                                وقد روي - أيضا - بنحو هذا اللفظ ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : ما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر إلا صلى ركعتين عندي .

                                وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل على عائشة بعد صلاة العصر ، كما في حديث هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من العصر ودخل على نسائه فيدنو من إحداهن - وذكرت قصة حفصة والعسل .

                                وقد خرجه البخاري في ( النكاح ) .

                                ويجاب عن ذلك كله : بأن رواية خلاد بن يحيى قد خالفه فيها أبو نعيم ، ولم يذكر ما ذكره خلاد .

                                وقد خرج البخاري حديث أبي نعيم كما سبق دون حديث خلاد .

                                وقد دل على أنه غير محفوظ : أن فيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل بيوت نسائه فيصليها .

                                وقد صح عن أم سلمة كما تقدم أنها قالت : لم أره صلاها إلا يوما واحدا ، وذكرت سبب ذلك .

                                وأما دخوله - صلى الله عليه وسلم - على نسائه بعد العصر ، فذاك كان يفعله دائما أو غالبا ، وعائشة إنما أخبرت عما رأته يفعله في يومها المختص بها .

                                [ ص: 312 ] يدل على ذلك : ما خرجه مسلم في ( صحيحه ) من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ومسروق ، قالا : نشهد على عائشة أنها قالت : ما كان يومه الذي كان يكون عندي إلا صلاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي - تعني : الركعتين بعد العصر .

                                فتبين بهذا أنها أرادت يومها المختص بها الذي كان يكون مكثه عندها في بيتها ، فكان يتوضأ عندها للعصر ويصلي ركعتين ، ثم يخرج للصلاة ، وربما كان يدخل بيتها في وقت العصر كذلك .

                                فدل هذا : على أن مرادها : أنه كان يصلي ركعتين بعد دخول وقت العصر ، ولكن كان ذلك قبل صلاة العصر ، وكانت تظن أن هذا يرد قول عمر ومن وافقه بالنهي عن الصلاة بعد العصر ، وإنما كان مراد عمر وغيره من الصحابة : النهي عن الصلاة بعد صلاة العصر .

                                ولاشتباه الأمر في هذا على كثير من الناس كان كثير من الرواة يروي حديث عائشة بالمعنى الذي يفهمه منه ، ولا يفرق بين وقت العصر وفعل العصر ، فوقع في ذلك اضطراب في ألفاظ الروايات .

                                وقد ظهر بهذا أنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى ركعتين بعد صلاة العصر ، إلا يوم صلاهما في بيت أم سلمة ، وكانت عائشة ترويه عنها - أحيانا - كما في حديث ذكوان عنها ، وأحيانا ترسله ، كما في حديث أم سلمة عنها .

                                وفي رواية ابن أبي لبيد ، عن أبي سلمة ، أن عائشة لما أرسل إليها معاوية يسألها عن ذلك ، قالت : ( لا علم لي ) - تشير إلى أنها ليس عندها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء سمعته منه أو رأته يفعله - ( ولكن سلوا أم سلمة ) - تشير إلى أنها هي التي أخبرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها رأته يفعل ذلك .

                                وفي رواية محمد بن أبي حرملة ، عن عائشة ، أنها حدثت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 313 ] بمثل حديث أم سلمة ، فإن كان هذا محفوظا فقد أرسلت الحديثين عنها ، ويحتمل أن تكون أخبرت عما رأته ، وأن يكون مرادها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين قبل وقت العصر - تعني : بعد الظهر - فشغل عنهما أو نسيهما ، ثم صلاهما بعد العصر - تعني : بعد وقت العصر ، قبل صلاة العصر - ، ثم أثبتهما من حينئذ ، فداوم عليهما قبل صلاة العصر وبعد دخول وقت صلاة العصر .

                                ورواية ابن أبي لبيد أشبه من رواية ابن أبي حرملة ، وكل منهما ثقة مخرج له في ( الصحيحين ) .

                                وقال البيهقي في حديث ابن أبي لبيد : إنه حديث صحيح .

                                وإنما رجح ابن عبد البر رواية ابن أبي حرملة على رواية ابن أبي لبيد لموافقته في الظاهر لما فهمه من سائر الرواة عن عائشة في الصلاة بعد العصر ، وقد بينا الفرق بينهما .

                                فإن قيل : فقد فرقت عائشة بين ركعتي الفجر والعصر ، فقالت : ( لم يكن يدع ركعتين قبل الفجر ، وركعتين بعد العصر ) ، كما في حديث الأسود وغيره ، عنها كما سبق ، ولو أرادت الوقت دون الفعل لسوت بينهما ، وقالت : بعد الفجر وبعد العصر .

                                فالجواب عنه من وجهين :

                                أحدهما : أنه روي عنها أنها قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدع ركعتين بعد الصبح . وقد خرجه الإمام أحمد من رواية ابن المنتشر ، عنها .

                                فهذا كقولنا : لا يدع ركعتين بعد العصر سواء .

                                [ ص: 314 ] والثاني : أن ركعتي الفجر لم يكن فيها اختلاف بين الصحابة أنها قبل الصلاة ، ولم يكن أحد منهم يصلي بعد الصبح تطوعا ، ولا نقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فلذلك كانت أحيانا تقول : كان يصلي قبل الفجر ، وأحيانا تقول : بعد الصبح ؛ لأن المعنى مفهوم .

                                وأما الركعتان بعد العصر ، فهما اللتان وقع فيهما الاختلاف بين الصحابة ، وكان كثير منهم يصليهما ، وكان ابن الزبير قد أشاعهما بعد موت عمر ، وكان عمر في خلافته ينهى عنهما ، ويعاقب عليهما ، وكانت عائشة تخالفه في ذلك ، وكانت تروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عندها بعد العصر ؛ لترد على من قال : لا يصلى بعد العصر .

                                ولكن ليس في روايتها ما يرد عليهم ؛ لأنهم إنما نهوا عن الصلاة بعد صلاة العصر ، وهي كان عندها علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بعد دخول وقت العصر . ولعل عمر كان ينهى عن الصلاة بعد دخول وقت العصر ، كما نهى ابنه وغيره عن الصلاة بعد طلوع الفجر سوى ركعتي الفجر ، وكانت عائشة تنكر ذلك لكنها كانت تسوي بين حكم ما قبل الصلاة وبعدها في الرخصة في الصلاة .

                                فتبين بهذا كله : أنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى ركعتين بعد صلاة العصر ، سوى ما روته عنه أم سلمة وحدها .

                                فإن قيل : فقد سبق عن زيد بن خالد وتميم الداري ، أنهما رويا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ أنه ] صلاهما .

                                [ ص: 315 ] قيل : ليس إسناد واحد منهما مما يحتج به ؛ لأن حديث تميم منقطع الإسناد ، وحديث زيد بن خالد فيه مجهولان ، ولعل مرادهما : الصلاة بعد وقت العصر ، قبل صلاة العصر - أيضا .

                                ولعل كثيرا ممن نقل عنه من الصحابة الصلاة بعد العصر أرادوا ذلك - أيضا - ، ومع هذا فلا يقطع عليهم أنهم أرادوا الصلاة بعد صلاة العصر .

                                وقد رويت الصلاة بعد العصر عن أبي موسى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية أبي دارس النصري : حدثنا أبو بكر بن أبي موسى ، عن أبيه ، أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين ، ويحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بعد العصر في منزل عائشة .

                                خرجه بقي بن مخلد .

                                وخرجه الإمام أحمد مختصرا ، ولفظه : عن أبي موسى ، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين بعد العصر .

                                وهذا - أيضا - يحتمل أنه رآه يصلي بعد دخول وقت العصر .

                                وأبو دارس ، اسمه : إسماعيل بن دارس ، قال ابن المديني : هو مجهول لا أعرفه .

                                وقال ابن معين : ضعيف الحديث . وقال مرة : ما به بأس إنما روى حديثا واحدا . وقال أبو حاتم : ليس بالمعروف .

                                ويقال فيه - أيضا - : أبو دراس ، وقد فرق بينهما ابن أبي حاتم ، وهو واحد .

                                [ ص: 316 ] وله طريق آخر من رواية يحيى بن عاصم صاحب أبي عاصم : حدثنا محمد بن حمران بن عبد الله : حدثني شعيب بن سالم ، عن جعفر بن أبي موسى ، عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر ركعتين ، وكان أبو موسى يصليهما .

                                خرجه الطبراني في ( الأوسط ) .

                                وهذا الإسناد مجهول لا يعرف .

                                وروى محمد بن عبيد الله الكوفي ، عن [ أبي ] إسحاق ، عن البراء ، قال : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة غزوة ، فما رأيته تاركا ركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعد العصر .

                                غريب منكر ، والكوفي ، لعله : العرزمي ، وهو متروك ، وإلا فهو مجهول .

                                فهذه أحاديث الصلاة بعد العصر وما فيها .

                                ويمكن أن نسلك في حديث عائشة مسلكا آخر ، وهو : أن صلاة الركعتين للداخل إلى منزله حسن مندوب إليه ، وقد ورد في فضله أحاديث في أسانيدها نظر .

                                فخرج البزار في الأمر به ، وأنه يمنع مدخل السوء - حديثا عن أبي هريرة مرفوعا ، في إسناده ضعف .

                                [ ص: 317 ] وروى الأوزاعي ، عن عثمان بن أبي سودة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( صلاة الأوابين - أو قال : صلاة الأبرار - ركعتان إذا دخلت بيتك ، وركعتان إذا خرجت منه ) .

                                وهذا مرسل .

                                ويروى عن هشام بن عروة ، عن عائشة ، قالت : ما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتي قط إلا صلى ركعتين .

                                قال أبو بكر الأثرم : هو خطأ .

                                كأنه يشير إلى أنه مختصر من حديث الصلاة بعد العصر .

                                وممن روي عنه أنه كان يصلي إذا دخل بيته وإذا خرج منه : عبد الله بن رواحة ، وثابت البناني .

                                وإذا كانت هذه صلاة مستحبة فلا يبعد أن تلتحق بذوات الأسباب فيها ، كتحية المسجد ونحوها ، وفي هذا نظر . والله أعلم .

                                ومقصود البخاري بهذا الباب : أنه يجوز قضاء الفوائت من النوافل الراتبة فيما بعد العصر ، كما يقوله الشافعي .

                                وقد احتج الشافعي - أيضا - لذلك : بما روى سعد بن سعيد الأنصاري ، قال : حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، عن قيس بن عمرو ، قال : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( صلاة الصبح ركعتان ) ، فقال : إني لم [ أكن ] صليت الركعتين اللتين قبلها ، فصليتهما الآن ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                [ ص: 318 ] خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم .

                                وقال الترمذي : إسناده ليس بمتصل ؛ محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس . ورواه بعضهم عن سعد ، عن محمد ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج فرأى قيسا .

                                وذكر أبو داود أن يحيى بن سعيد وأخاه عبد ربه روياه - مرسلا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج فرأى قيسا يصلي .

                                وقيس جدهما - هو أخوهما .

                                وقد روى الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبيه ، عن جده ، أنه جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي - فذكره .

                                خرجه ابن حبان في ( صحيحه ) والدارقطني والحاكم .

                                وزعم أنه صحيح ، وليس كذلك .

                                قال ابن أبي خيثمة : ذكر عن أبيه ، أنه قال : يقال : إن سعيدا لم يسمع من أبيه قيس شيئا .

                                فهو - أيضا - مرسل .

                                وقد ضعف أحمد هذا الحديث ، وقال : ليس بصحيح .

                                وقد رواه عبد الملك بن أبي سليمان ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل .

                                [ ص: 319 ] وذكر أبو داود والترمذي : أن ابن عيينة قال : سمع هذا الحديث عطاء من سعد بن سعيد .

                                فعاد الحديث إلى حديث سعيد المتقدم .

                                وقد رواه الضعفاء ، فأسندوه عن عطاء ، وإسناده ووصله وهم .

                                فرواه أيوب بن سويد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن قيس .

                                وأيوب ضعيف ، وهم في إسناده له عن قيس .

                                ورواه سعيد بن راشد السماك ، عن عطاء ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وسعيد هذا ضعيف .

                                ورواه محمد بن سليمان بن أبي داود الحراني ، عن أبيه ، عن عطاء ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                ومحمد بن سليمان ، يقال له : البومة ، ضعيف .

                                والصحيح عن عطاء : المرسل - : قاله أبو حاتم والدارقطني وغيرهما .

                                وممن ذهب إلى هذا الحديث ورخص في صلاة ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس : عطاء وطاوس وابن جريج ، والشافعي - فيما نقله عنه المزني .

                                وهو رواية عن أحمد ، واختارها صاحب ( المغني ) ، وقصر الجواز على قضاء ركعتي الفجر بعدها ، وقضاء السنن الراتبة بعد العصر ، وقضاء الوتر بعد طلوع الفجر ، لورود النص بذلك .

                                وقد نص أحمد في رواية ابن منصور على جواز قضاء السنن الفائتة بعد العصر ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وفي رواية المروذي على قضاء الوتر بعد طلوع الفجر .

                                [ ص: 320 ] واختلفت الرواية عنه في قضاء سنة الفجر بعد الصلاة . والمشهور عند أكثر أصحابنا : أن الحكم يتعدى إلى قضاء جميع السنن والرواتب في جميع أوقات النهي ، وفعل جميع ذوات الأسباب فيها ، كصلاة الكسوف وتحية المسجد ، وحكوا في جواز ذلك كله روايتين عن أحمد في جميع أوقات النهي .

                                ولو قيل : إن الخلاف مختص بالوقتين الطويلين دون الأوقات الثلاثة الضيقة لكان أقرب .

                                ولا يعرف لأحمد نص بجواز شيء من ذلك في الأوقات الضيقة .

                                هذا ، والتفريق هو قول إسحاق بن راهويه ، وهو متوجه .

                                والمشهور عن أحمد : أن ذلك لا يفعل في أوقات النهي ، وأن سنة الفجر إنما تقضى بعد طلوع الشمس .

                                حتى نقل عبد الله بن أحمد ، أنه سأل أباه ، فقال له : حكي عنك أنك تقول : يصليهما إذا فرغ من الصلاة ؟ فقال : ما قلت هذا قط .

                                ولابن بطة في ذلك مصنف مفرد في منع ذلك ، وهو اختيار الخرقي وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى .

                                وحكي جوازه عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا ، ورجحه طائفة من المتأخرين منهم .

                                وقال ابن أبي موسى : الأظهر عنه أنه لا يفعل شيئا من ذلك في وقت النهي ، لكنه استثنى من ذلك قضاء قيام الليل والوتر بعد طلوع الفجر .

                                وروى نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان إذا فاتته ركعتا الفجر قضاهما من الضحى .

                                [ ص: 321 ] وروى عنه عطية ، أنه قضاها بعد الصلاة .

                                ورواية نافع أصح عند أحمد وغيره .

                                وممن قال : يقضيها بعد طلوع الشمس : القاسم بن محمد والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأبو ثور ، ونقله البويطي عن الشافعي .

                                وروى عمرو بن عاصم ، عن همام ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما إذا طلعت الشمس ) .

                                خرجه الترمذي وابن حبان في ( صحيحه ) والحاكم .

                                وقال : صحيح على شرطهما .

                                وروى مروان بن معاوية ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس .

                                قال أبو حاتم الرازي : هذا اللفظ اختصره من حديث نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الفجر ، وأنه استيقظ بعد أن طلعت الشمس ، فصلى ركعتي الفجر ، ثم صلى الفجر ، فقد قضى السنة والفريضة معها بعد طلوع الشمس .

                                ويدل على ذلك : أن ابن ماجه خرج الحديث ، ولفظه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن ركعتي الفجر ، فقضاهما بعدما طلعت [ الشمس ] .

                                وخرج ابن بطة من رواية أبي عامر الخزاز ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، قال : صليت الفجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقمت أصلي الركعتين ، فجذبني النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقال : ( أتصلي الفجر أربعا ؟ ) .

                                [ ص: 322 ] واستدل به على منع القضاء بعد الصلاة .

                                وقد خرجه الإمام أحمد وابن حبان في ( صحيحه ) والحاكم ، وعندهم : أنه قام ليصلي الركعتين بعد إقامة الصلاة .

                                وهو الصحيح .

                                ومما يدل على منع قضاء السنن بعد صلاة الفجر والعصر : أن هاتين الصلاتين يعقبهما وقت نهي عن الصلاة ، فلذلك لم تشرع بعدهما صلاة لهما كالظهر والمغرب والعشاء ، فإذا منع من الصلاة بعدهما في وقتهما لأجلهما ، ولم يكن لهما سنة راتبة بعدهما كذلك ، فلأن يمنع من صلاة سنة غيرهما بعدهما في وقت النهي مع فوات وقت الصلاة أولى وأحرى .

                                وهذا بخلاف قضاء الفرائض في هذه الأوقات ، فإنه لما جاز فعل الفرض الحاضر فيهما ولو في وقت الكراهة جاز قضاء غيرهما من الفرائض - أيضا .

                                فتبين بهذا : أن القضاء تابع للأداء ، فحيث جاز أداء الفرض جاز قضاؤه ، وحيث منع أداء النفل منع من قضائه ، بل القضاء أولى بالمنع من الأداء .

                                ولهذا كان ما بعد طلوع الفجر إلى صلاة الوقت وقتا لأداء سنتها الراتبة ، وليس وقتا لقضاء شيء من النوافل كما عند كثير من العلماء .

                                ومنهم من رخص في قضاء الوتر وقيام الليل فيه - كما سبق - إلحاقا للقضاء بالأداء .



                                الخدمات العلمية