الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                قال :

                                610 636 - حدثنا آدم : حدثنا ابن أبي ذئب : حدثنا الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ، وعليكم السكينة والوقار ، ولا تسرعوا ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ) .

                                التالي السابق


                                كان الزهري يروي هذا الحديث ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ويرويه - أيضا - عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .

                                وقد رواه جماعة من أصحابه عنه ، عن سعيد وحده . ورواه آخرون منهم ، عنه ، عن أبي سلمة وحده . وجمع بعضهم بينهما ، منهم : عبيد الله بن عمر .

                                وروي - أيضا - كذلك ، عن ابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ويونس بن يزيد .

                                قال الدارقطني : هو محفوظ ، كان الزهري ربما أفرده عن أحدهما ، وربما جمعه .

                                قلت : وقد خرجه البخاري في ( كتاب الجمعة ) من ( صحيحه ) هذا ، عن [ ص: 566 ] آدم ، عن ابن أبي ذئب بالجمع بينهما ، ومن طريق شعيب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة وحده .

                                وخرجه مسلم من رواية إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عنهما .

                                وخرجه أبو داود من طريق يونس كذلك .

                                وكلام الترمذي في ( جامعه ) يدل على أن الصحيح رواية من رواه عن الزهري عن سعيد وحده .

                                والصحيح : أنه صحيح عن الزهري ، عنهما ، وتصرف الشيخين في ( صحيحيهما ) يشهد لذلك .

                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ، ولا تسعوا ) أمر بالمشي ونهي عن الإسراع إلى الصلاة لمن سمع الإقامة ، وليس سماع الإقامة شرطا للنهي ، وإنما خرج مخرج الغالب ؛ لأن الغالب أن الاستعجال إنما يقع عند سماع الإقامة خوف فوت إدراك التكبيرة أو الركعة ، فهو كقوله تعالى : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة والرهن جائز في السفر وغيره .

                                وكذلك قوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا وقد ذكرنا أن التيمم يجوز عند عدم الماء في السفر والحضر .

                                وكذلك قوله تعالى : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ويجوز أن يدعوا إخوانا وموالي [ ص: 567 ] وإن علم آباؤهم ؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيد : ( أنت أخونا ومولانا ) مع علمه بأبيه .

                                وقد سبق حديث أبي قتادة ( إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة ) ، من غير اشتراط سماع الإقامة .

                                وقد أجمع العلماء على استحباب المشي بالسكينة إلى الصلاة ، وترك الإسراع والهرولة في المشي ، ولما في ذلك من كثرة الخطى إلى المساجد . وسيأتي أحاديث فضل المشي فيما بعد - إن شاء الله تعالى .

                                وهذا ما لم يخش فوات التكبيرة الأولى والركعة ، فإن خشي فواتها ، ورجا بالإسراع إدراكها ، فاختلفوا : هل يسرع حينئذ ، أم لا ؟ وفيه قولان .

                                أحدهما : أنه يسعى لإدراكهما .

                                وروي عن ابن مسعود ، أنه سعى لإدراك التكبيرة .

                                ونحوه عن ابن عمر ، والأسود ، وعبد الرحمن بن يزيد ، وسعيد بن جبير .

                                وعن أبي مجلز : الإسراع إذا خاف من فوت الركعة .

                                وقال إسحاق : لا بأس بالإسراع لإدراك التكبيرة .

                                ورخص فيه مالك .

                                وقال أحمد - في رواية مهنا - : ولا بأس إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى - أن يسرع شيئا ، ما لم يكن عجلة تقبح ؛ جاء عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يعجلون شيئا إذا تخوفوا فوت التكبيرة الأولى ، وطمعوا في إدراكها .

                                وبوب النسائي في ( سننه ) على ( الإسراع إلى الصلاة من غير سعي ) ، [ ص: 568 ] وخرج فيه حديث أبي رافع ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ذهب إلى بني عبد الأشهل ، يتحدث عندهم حتى ينحدر للمغرب . قال أبو رافع : فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يسرع إلى المغرب مررنا بالبقيع - وذكر الحديث .

                                وهذا إنما يدل على إسراع الإمام إذا خاف الإبطاء على الجماعة ، وقد قرب الوقت .

                                والقول الثاني : أنه لا يسرع بكل حال .

                                وروي عن أبي ذر ، وزيد بن ثابت ، وأنس بن مالك ، وأبي هريرة ، وعطاء ، وحكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء ، وهو قول الثوري .

                                ونقله ابن منصور وغيره عن أحمد ، وقال : العمل على حديث أبي هريرة .

                                وحديث أبي هريرة : دليل ظاهر على أنه لا يسرع لخوف فوت التكبيرة الأولى ، ولا الركعة ؛ فإنه قال : ( فإذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ، ولا تسرعوا ) ، فدل على أنه ينهى عن الإسراع مع خوف فوات التكبيرة أو الركعة .

                                وفي ( مسند الإمام أحمد ) من حديث أبي بكرة ، أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم راكع ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت نعلي أبي بكرة وهو يحفز ، يريد أن يدرك الركعة ، فلما انصرف قال : ( من الساعي ؟ ) قال أبو بكرة : أنا ، قال : ( زادك الله حرصا ، ولا تعد ) .

                                وفي إسناده من يجهل حاله .

                                وخرجه البخاري في ( كتاب القراءة خلف الإمام ) بإسناد آخر فيه ضعف - أيضا - عن أبي بكرة - بمعناه ، وفي حديثه : قال : إن أبا بكرة قال : يا رسول الله ، خشيت أن تفوتني ركعة معك ، فأسرعت المشي ، فقال له : ( زادك الله حرصا ، [ ص: 569 ] ولا تعد ، صل ما أدركت ، واقض ما سبقت ) .

                                ولو سمع الإقامة وهو مشتغل ببعض أسباب الصلاة كالوضوء والغسل أو غيرهما ، فقال عطاء : لا يعجل عن ذلك - يعني : أنه يتمه من غير استعجال .

                                وسيأتي حديث : ( لا تعجل عن عشائك ) في موضعه من الكتاب - إن شاء الله تعالى .

                                وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( عليكم السكينة والوقار ) ، هو بالرفع على أن الجملة مبتدأ وخبر ، ويروى بالنصب على الإغراء - : ذكره أبو موسى المديني .

                                وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ) ، هذه الرواية المشهورة عن الزهري ، التي رواها عنه عامة أصحابه الحفاظ .

                                ورواه ابن عيينة ، عن الزهري ، وقال في روايته : ( وما فاتكم فاقضوا ) .

                                خرج حديثه الإمام أحمد والنسائي .

                                وذكر أبو داود أن ابن عيينة تفرد بهذه اللفظة - يعني : عن الزهري .

                                وذكر البيهقي بإسناده ، عن مسلم ، أنه قال : أخطأ ابن عيينة في هذه اللفظة .

                                قلت : قد توبع عليها .

                                وخرجه الإمام أحمد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، وقال في حديثه : ( فاقضوا ) . قال معمر : ولم يذكر سجودا .

                                [ ص: 570 ] وكذا رواها بحر السقاء ، عن الزهري ، وقال في حديثه ( وليقض ما سبقه ) وبحر ، فيه ضعف .

                                ورواها - أيضا - بنحو رواية بحر : سليمان بن كثير ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .

                                خرجه البخاري في ( كتاب القراءة خلف الإمام ) .

                                ورويت لفظة ( القضاء ) من غير رواية الزهري :

                                وروى شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ائتوا [ الصلاة ] وعليكم السكينة ، فصلوا ما أدركتم ، واقضوا ما سبقكم ) .

                                خرجه أبو داود .

                                وخرجه الإمام أحمد من رواية عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه .

                                ورويت عن أبي هريرة من وجوه أخر :

                                فخرج مسلم طريق ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم ، ولكن ليمش ؛ وعليه بالسكينة والوقار ، صل ما أدركت ، واقض ما سبقك ) .

                                قال أبو داود : وكذا قال أبو رافع ، عن أبي هريرة .

                                [ ص: 571 ] وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث حميد ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا جاء أحدكم فليمش نحوا مما كان يمشي ، فليصل ما أدركه ، وليقض ما سبقه ) .

                                وخرج البزار من حديث سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن الزهري ، عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها ، إلا أنه يقضي ما فاته ) .

                                وهذا حديث آخر غير الذي قبله .

                                وبالجملة ، فرواية من روى ( فأتموا ) أكثر .

                                وقد استدل الإمام أحمد برواية من روى ( فاقضوا ) ، ورجحها .

                                قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله - يعني : أحمد - أرأيت قول من قال : يجعل من أدرك مع الإمام أول صلاته ، ومن قال : يجعله آخر صلاته ، أي شيء الفرق بينهما ؟ قال : من أجل القراءة فيما يقضي . قلت له : فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : على أي القولين يدل عندك ؟ قال : على أنه يقضي ما فاته ؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( صلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم ) .

                                وقال في رواية ابنه صالح : يروى عن أنس وأبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( صل ما أدركت واقض ما سبقك ) . قال : ويروي غيره على أنه قال : يقرأ فيما أدرك . وقال غيره : يقرأ فيما يقضي . قال ابن مسعود : ما أدركت من الصلاة فهو آخر صلاتك . انتهى .

                                وروى عبد الرزاق في ( كتابه ) ، عن معمر ، عن قتادة ، أن عليا قال : [ ص: 572 ] ما أدركت من الإمام فهو أول صلاتك ، واقض فيما سبقك به من القراءة . وأن ابن مسعود قال : اقرأ فيما فاتك .

                                وعن مالك ، عن نافع ، أن ابن عمر كان إذا فاته شيء من الصلاة مع الإمام التي يعلن فيها بالقراءة ، فإذا سلم الإمام قام عبد الله فقرأ لنفسه .

                                وروى الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، أن ابن عمر كان إذا سبق بالأوليين قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب وسورة .

                                قلت : أما القراءة فيما يقضي فمتفق عليها ؛ لأن حكم متابعة الإمام قد انقطعت عنه بسلام إمامه قبل فراغ صلاته ، فهو فيما بقي من الصلاة منفرد ، يقرأ كما يقرأ المنفرد بصلاته ، لا يقول أحد من العلماء : إنه لا يقرأ فيها لاستمرار حكم ائتمامه بالإمام .

                                ولكن من يقول من السلف : إن المصلي يقرأ في ركعتين ويسبح في ركعتين ، كما يقوله الكوفيون وغيرهم ، يقول : إذا أدرك الإمام في ركعتين من الرباعية أنه لا يقرأ معهم ؛ لأنهم لا يرون قراءة المأموم وراء إمامه بحال ، ويقولون : إذا قام يقضي ما فاته من الركعتين ، فإنه يقرأ ، ولا يجزئه أن يسبح ، فإنه قد صار منفردا في بقية صلاته ، فلا بد [ له ] من القراءة ، سواء فاته ركعة أو ركعتان ، فإن فاته ثلاث ركعات قرأ في ركعتين ، وله أن يسبح في الثالثة .

                                وهذا كله قول سفيان الثوري .

                                وحكى سفيان وأصحابه وابن عمر ، أنه إذا أدرك ركعتين مع الإمام لم يقرأ فيما أدركه معه ، وقرأ في الركعتين إذا قضاهما .

                                وعن علي : أن ما أدركه فهو أول صلاته ، فيقرأ فيه ما سبقه به الإمام من القراءة .

                                [ ص: 573 ] ظاهر هذا : أن عليا لم ير القراءة فيما يقضيه ، وأنهم أرادوا أنه لا يقرأ فيه ما زاد على الفاتحة .

                                وممن قال : يقرأ فيما يقضي : عبيدة السلماني ، وابن سيرين ، وأبو قلابة ، والنخعي .

                                وروى عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن جابر ، عن الشعبي : أن جندبا ومسروقا أدركا ركعة من المغرب ، فقرأ جندب ولم يقرأ مسروق خلف الإمام ، فلما سلم الإمام قاما يقضيان ، فجلس مسروق في الثانية والثالثة ، وقام جندب إلى الثالثة ولم يجلس ، فلما انصرفا أتيا ابن مسعود ، فقال : كل قد أصاب ، ونفعل كما فعل مسروق .

                                وعن معمر ، عن جعفر الجزري ، عن الحكم : أن جندبا ومسروقا أدركا ركعة من المغرب ، فقرأ أحدهما في الركعتين الأخريين ما فاته من القراءة ، ولم يقرأ الآخر في ركعة ، فسئل ابن مسعود ، فقال : كلاهما محسن ، وأنا أصنع كما صنع هذا الذي قرأ في الركعتين .

                                وأكثر العلماء على أنه يقرأ في ركعات الصلاة كلها ، يقرأ في الركعتين الأوليين بالحمد وسورة وفي الأخريين بالحمد وحدها .

                                وعلى هذا ؛ إذا أدرك المسبوق من الرباعية أو المغرب ركعتين ، يقرأ فيما يقضي من الركعتين بالحمد وحدها ، أو بالحمد وسورة ؟ على قولين ، أشهرهما أنه يقضي بالحمد وسورة .

                                وهذا هو المنصوص عن مالك ، والشافعي ، وأحمد .

                                [ ص: 574 ] ونص الشافعي على أن ما أدركه مع الإمام فهو أول صلاته .

                                وعن مالك في ذلك روايتان منصوصتان : أحدهما : هو أول صلاته . والثانية : هو آخرها .

                                وكذلك عن أحمد ، ولكن أكثر الروايات عنه ، أنه آخر صلاته .

                                وأما مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، فهو أن ما أدركه مع الإمام آخر صلاته ، وما يقضيه أولها .

                                وهو قول الحسن بن حي وسفيان الثوري .

                                وعلى قول هؤلاء لا إشكال في أنه يقرأ فيما يقضي [ بالحمد ] وسورة .

                                قال ابن المنذر : واختلفوا في الذي يدركه المأموم من صلاة الإمام .

                                فقالت طائفة : يجعله أول صلاته ، روي هذا القول عن عمر وعلي وأبي الدرداء ، ولا يثبت ذلك عنهم ، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وإسحاق والمزني .

                                وقالت طائفة : يجعل ما أدرك مع الإمام آخر صلاته ، كذلك قال ابن عمر . وبه قال مجاهد وابن سيرين ومالك والثوري والشافعي وأحمد .

                                قال ابن المنذر : وبالأول نقول . انتهى .

                                وأنكر ابن عبد البر نقل ابن المنذر ذلك عن مالك والشافعي والثوري [ ص: 575 ] وأحمد ، وقال : إنما أخذه من قولهم في القراءة [ في القضاء ] .

                                قال : وثبت عن ابن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز : ما أدركت فاجعله أول صلاتك .

                                قال : والذي يجيء على أصولهم - إن لم يثبت عنهم نص في ذلك - ما قاله المزني وإسحاق وداود وعبد العزيز بن الماجشون .

                                يعني : أنه يقرأ فيما يقضي بالحمد وحدها ؛ لأنه آخر صلاته .

                                قال : وهذا أطرد في القياس .

                                قال : فأما من يقول : ما أدركه فهو أول صلاته ، وما يقضيه آخرها ، ثم يقول : يقرأ فيه بالحمد وسورة ، فكيف يصح هذا على قوله ؟

                                وروى حرب الكرماني بإسناده عن مكحول ، قال : ما أدركت فاجعله أول صلاتك ، تقرأ في أولها بأم القرآن وسورة بينك وبين نفسك .

                                قلت : وهذا ظاهر في أنه لا يقرأ فيما يقضي بسورة مع الحمد .

                                وروى بإسناده - أيضا - عن بقية ، عن الزبيدي ، قال : يقرأ فيما يقضي بأم القرآن وسورة بقدر الذي فاته مع الإمام . قال : وأما الأوزاعي فكان يقول : يقرأ بأم القرآن . قال بقية : وبه نأخذ .

                                وروى - أيضا - بإسناده عن ثابت بن عجلان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك ، واقرأ فيه بفاتحة الكتاب وسورة .

                                وهذا يدل - أيضا - على أنه لا يقرأ فيما يقضي زيادة على الحمد .

                                [ ص: 576 ] وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة - مثل قول ابن عباس .

                                وقد اتفقت النصوص عن أحمد على أنه يقرأ فيما يقضي بالحمد وسورة .

                                واختلف قوله في مأخذ ذلك :

                                فنقل عنه هارون الحمال ، أن مأخذ ذلك أن ما أدركه آخر صلاته وما يقضيه أولها . قال : فقيل له : قد حكي عنك أنك قلت : يقرأ بفاتحة الكتاب ويجعل ما أدرك أول صلاته . فأنكر ذلك .

                                وهذا يحتمل أن يكون إنكاره للقول بأنه يقتصر على الحمد فيما يقضي تفريعا على ذلك ؛ فإن القول بأن ما أدركه أول صلاته مشهور عنه ، قد نقله عنه غير واحد ، فإن كان مراده الأول كان قوله بأن القراءة فيما يقضي بالحمد وسورة لا يختلف قوله فيه مع قوله : إن ما يقضيه أول صلاته أو آخرها ، وهذا هو المذهب عند أبي موسى وغيره من متقدمي الأصحاب .

                                وقد نقل عبد الله والأثرم وغيرهما أنه يقرأ فيما يقضي بالحمد وسورة ، مع قوله : آخر صلاته .

                                وإن كان مراده الثاني كان القول : يقرأ الحمد وسورة فيما يقضيه ، مبنيا على الاختلاف فيما يقضيه : هل هو أول صلاته ، أو آخرها .

                                وهذا هو قول القاضي أبي يعلى ومن بعده من أصحابنا .

                                [ ص: 577 ] وأنكر بعض المتأخرين منهم أن يصح القول بقراءة الحمد وسورة فيما يقضيه على كلا القولين ، إلا على قول من يرى استحباب القراءة بالحمد وسورة في كل ركعة من الصلاة كلها ، أو على أن من نسي قراءة السورة في الأوليين قرأها في الأخريين .

                                وهذا المأخذ الثاني لا يصح ؛ فإنه لا نسيان هاهنا .

                                وللمسألة مأخذان لم يذكرهما هذا القائل :

                                أحدهما : الاحتياط ، ونص عليه أحمد في رواية صالح وعبد الله وغيرهما ، قال : يكون جلوسه على أول صلاته وفي القراءة يحتاط فيقرأ فيما يقضي .

                                يعني : أنه إن أدرك ركعة من الرباعية تشهد عقيب قضاء ركعة ، فيجعل ما أدرك أول صلاته في الجلوس للتشهد ؛ ويقرأ في ركعتين فيما يقضي بالحمد وسورة احتياطا لقراءة السورة ؛ فإنها سنة مؤكدة ، فيحتاط لها ، ويأتي بها في الركعات كلها ؛ للاختلاف في أول صلاته وآخرها .

                                والمأخذ الثاني : أنه إذا أدرك مع الإمام ركعتين من الرباعية ، فإنه لا يتمكن من قراءة السورة مع الحمد معه غالبا ، فإذا صلى معه ركعتين قرأ فيهما بالحمد وحدها ، ثم قضى ركعتين ؛ فإنه ينبغي أن يقرأ فيهما سورة مع الفاتحة ؛ لئلا تخلو هذه الصلاة من قراءة سورة مع الفاتحة ، مع حصول الاختلاف في استحباب قراءة السورة فيما يقضيه ، فالاحتياط أن يقرأ فيما يقضي بالحمد وسورة .

                                أما لو كان قد قرأ فيما أدرك مع الإمام سورة مع الفاتحة ؛ فإنه لا يعيد السورة فيما يقضيه ، لا سيما عند من يقول : إن ما أدركه هو أول صلاته .

                                ولهذا قال قتادة : إذا أمكنك الإمام فاقرأ في الركعتين اللتين بقيتا سورة ، [ ص: 578 ] سورة ، تجعلهما أول صلاتك .

                                ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عنه .

                                ولم أجد لأحمد ولا لغيره من الأئمة نصا صريحا أنه يقرأ بالحمد وسورة فيما أدركه خلف الإمام ، ثم يعيد ذلك فيما يقضيه ، بل نص على أن من أدرك ركعة من الوتر وقضى ما فاته أنه لا يعيد القنوت .

                                وعلله أبو حفص البرمكي بأنه قد قنت مع الإمام فلا يعيد كما لو سجد معه للسهو . قال : ويحتمل أنه لم يعده لأنه أدرك آخر الصلاة .

                                ونص الشافعي على أن المسبوق بركعتين من الرباعية يقرأ فيما يقضي بالفاتحة وسورتين .

                                فاختلف أصحابه على طريقين :

                                أحدهما : أن في استحباب السورة له القولان في استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخريين ، وأن الشافعي إنما فرع نصه هذا على قوله باستحباب قراءة السورة في كل الركعات ، وهذا قاله أبو علي الطبري .

                                والطريق الثاني : قاله أبو إسحاق ، أنه يستحب للمسبوق قراءة السورة قولا واحدا ، وإن قيل : لا يستحب لغيره قراءة في الأخريين ؛ لأن المسبوق لم يقرأ السورة في الأوليين ، ولا أدرك قراءة الإمام السورة ، فاستحب له ؛ لئلا تخلو صلاته من سورتين .

                                وهذا الطريق هو الصحيح عندهم ، وعليه أكثر أصحابهم .

                                وأما الجهر بالقراءة في العشاء وثالثة المغرب ، فأكثرهم على أنه لا يجهر .

                                [ ص: 579 ] وحكوا في جهره قولين للشافعي .

                                ومنهم من قال : نص في ( الإملاء ) على أنه يجهر ؛ لأن الجهر فاته فيتدارك ، ونص في غيره على أنه لا يجهر ؛ لأن سنة آخر الصلاة الإسرار بالقراءة ، فلا تفوته . وبهذا يفرق بينه وبين السورة .

                                وصرح بعضهم بأنه لو كان الإمام بطيء القراءة فأمكن المسبوق أن يقرأ معه السورة فيما أدرك فقرأها ، لم يعدها في الأخريين ، إلا على قولهم : يقرأ بالسورة في الركعات كلها ، وهو حسن موافق لما ذكره .

                                وهاهنا مأخذ ثالث ؛ وقد صرح به غير واحد من السلف ، وقد روي عن علي ما يدل عليه ، وصرح به الترمذي وغيره ، وهو : أن من أدرك مع الإمام ركعتين فقد فاته معه ركعتان بسورتيهما ، فيشرع له قضاء ما فاته على وجهه .

                                لكن ؛ هل يقضيه فيما أدرك مع الإمام ، أو فيما يقضيه بعد قراءته .

                                فالمروي عن علي أنه يقضيه فيما أدركه مع الإمام ، وقال : هو أول صلاته .

                                وقال ابن مسعود وغيره : فيما يقضي لنفسه وحده منفردا .

                                فإما أن يكون مأخذهم أنه أول صلاته ، وإما أن يكون مأخذهم أن القضاء إنما يكون بعد مفارقة الإمام ما أدرك ، ويقضي ما سبق ، ولا يكون في حال متابعته ، وإن كان آخر صلاته .

                                وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين وأبي قلابة ، قالا : يصلي مع الإمام ما أدرك ، ويقضي ما سبق به مع الإمام من القراءة . مثل قول ابن مسعود .

                                وقال عمرو بن دينار : ما فاتك فاقضه كما فاتك .

                                [ ص: 580 ] وروى ابن لهيعة ، عن عبيد الله بن المغيرة ، عن جهم بن الأسود ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : اقرأ فيما تقضي بما قرأ به الإمام .

                                خرجه عبد الله ابن الإمام أحمد .

                                وروى الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : إنما القراءة في القضاء . قال : وقال لي سعيد بن جبير : تقرأ فيما تدرك .

                                والمروي عن أبي سعيد يدل على أنه يستحب أن يقرأ فيما يقضيه بالسورتين اللتين قرأ بهما الإمام ؛ لتكون قراءته لهما قضاء بما فاته مع الإمام حقيقة .

                                وأيضا ؛ فإن [ عامة ] الكوفيين لا يرون القراءة خلف الإمام ، وقد اختلفوا في القراءة هاهنا خلفه فيما أدركه ؛ لأنه قضاء للقراءة الثانية ، فرأى القراءة علي وسعيد بن جبير ، ولم يره ابن مسعود وعلقمة والنخعي والأكثرون منهم .

                                وأما إذا أدرك ركعة من الرباعية أو المغرب ، فإنه يجلس للتشهد عقب قضاء ركعة ، كما قاله ابن مسعود وعلقمة ، وقاله سعيد بن المسيب . وهو المشهور عن أحمد .

                                وأخذ أحمد في هذه المسألة بما روي عن ابن مسعود ، وفي الأولى بما روي عن ابن عمر ، وقاله ابن مسعود - أيضا .

                                ومن أصحابنا من بنى هذا على قول أحمد : إن ما يقضيه آخر صلاته . قال : فإن قلنا : هو أول صلاته ، تشهد عقب قضاء ركعتين .

                                وقال الأكثرون : بل في المسألة روايتان غير مبنيتين على هذا الأصل .

                                وهذا هو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد صريحا ؛ فإنه أخذ في القراءة [ ص: 581 ] بقول ابن عمر ، وفي الجلوس بقول ابن مسعود ، وجمع بينهما . وابن مسعود مع قوله بهذا ، فإنه قد قال : ما أدركه فهو آخر صلاته ، كما سبق عنه .

                                وزعم صاحب ( المغني ) من أصحابنا أن ذلك كله جائز .

                                ويشكل عليه : أن أحمد نص في رواية مهنا على أنه إذا تشهد عقب ركعتين سجد للسهو .

                                وكلام ابن مسعود يدل على جواز الأمرين كما سبق عنه .

                                وقد تبين بهذا : أن أكثر العلماء ليس لهم في هذه المسألة قول مطرد .

                                ولا خلاف أن التشهد الآخر في حق المسبوق هو الذي في آخر صلاته ، الذي يسلم عقيبه ، فأما التشهد الأول ، فإن وقع عقيب ركعتين من صلاة المسبوق ، فإنه يتشهد فيه معه .

                                واختلفوا : هل يتم التشهد مع الإمام بالدعاء أم ينتهي إلى قوله : ( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) ، ثم يردده ؟ على قولين .

                                والثاني : قول الحسن وأحمد ، والأول : ظاهر كلام عطاء .

                                فإن كان تشهد الإمام في موضع وتر من صلاة المأموم ، فإنه يتابعه في جلوسه بغير خلاف .

                                وهل يتشهد معه فيه ، أم لا ؟ على قولين :

                                أحدهما : يتشهد معه ، وهو قول الحسن وابن المسيب وعطاء ونافع والزهري والثوري .

                                وأحمد ، قال : أحب إلي أن يتشهد .

                                والثاني : لا يتشهد ، وهو قول النخعي ومكحول وعمرو بن دينار ، وحكاه [ ص: 582 ] ابن المنذر عن الحسن - أيضا .

                                وقال النخعي : يسبح - يعني : بدل التشهد .

                                وقال الأوزاعي : يكتفي بالتسبيح .

                                وأكثر العلماء على أنه لا سجود عليه للسهو لزيادة هذا الجلوس متابعة للإمام ، وحكي عن ابن عمر أنه كان يسجد كذلك للسهو . وعن أبي سعيد الخدري وعن عطاء وطاوس ومجاهد ، وهو قول الحسن .

                                وروي عن عطاء ، عن أبي سعيد وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وابن الزبير ، أنهم كانوا يسجدون سجدتي السهو إذا أدرك الإمام في وتر .

                                قال الإمام أحمد : لم يسمعه عطاء منهم ، بينه وبينهم رجل .

                                يعني : أن في الإسناد مجهولا .

                                والصحيح : قول الجمهور .

                                وفي ( صحيح مسلم ) عن المغيرة ، أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تبوكا ، فتبرز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوضأ ، وصب عليه المغيرة ، ثم أقبل . قال المغيرة : وأقبلت حتى نجد الناس قدموا عبد الرحمن بن عوف ، فصلى بهم ، فأدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة ، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم صلاته ، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته أقبل عليهم ، ثم قال : ( أحسنتم ) - أو ( أصبتم ) - يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها . ولم يذكر المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد للسهو .

                                وخرجه أبو داود من وجه آخر عن المغيرة ، وفيه : فلما سلم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى الركعة التي سبق بها ، ولم يزد عليها شيئا .

                                [ ص: 583 ] وخرجه البخاري في ( القراءة خلف الإمام ) والطبراني والبيهقي من وجه آخر عن المغيرة ، وفيه : فصلينا ما أدركنا ، وقضينا ما سبقنا .

                                وقد روى معمر : ليصل ما أدرك ، وليقض ما سبق . قال معمر : ولم يذكر سجودا .

                                يعني : أنه لو كان عليه سجود في بعض الأحوال لما أخر بيانه ؛ لأنه وقت حاجة . وكذلك استدل به كثير من الأئمة بعده ، منهم الإمام أحمد والشافعي .

                                وفي حديث المغيرة : أن المسبوق إنما يقوم إذا سلم الإمام ، ولا يقوم حتى يسلم إمامه التسليمتين معا ، نص عليه سفيان والشافعي وأحمد ؛ لأن التسليمة الثانية مختلف في وجوبها ، [ فإذا ] لم يأت بها الإمام لم يخرج من صلاته بيقين .

                                قالت طائفة : ويستحب أن لا يقوم حتى ينحرف الإمام ، لعله أن يذكر سجود سهو ، إلا أن يطول ذلك فيقوم ويدعه ، وهذا قول عطاء والشعبي وأحمد .

                                وكان ابن عمر إذا سلم الإمام يقضي ما سبق به ، وإن لم يقم الإمام .

                                وقال أصحاب الشافعي : إن مكث المسبوق بعد سلام إمامه جالسا ، وطال جلوسه ، فإن كان موضع تشهده الأول جاز ، ولم تبطل صلاته ؛ لأنه محسوب من صلاته ، لكنه يكره له تطويله ، وإن لم يكن في موضع تشهده لم يجز أن يجلس بعد تسليم إمامه ؛ لأن جلوسه كان للمتابعة وقد زالت ، فإن فعل عالما بطلت صلاته ، وإن كان ساهيا لم تبطل ، ويسجد للسهو .

                                [ ص: 584 ] ولو سبق جماعة ببعض الصلاة ، ثم قاموا بعد سلام الإمام ، فهل لهم أن يقلوا جماعة يؤمهم أحدهم ؟ فيه قولان :

                                أحدهما : نعم ، وهو قول عطاء وابن سابط .

                                والثاني : لا ، وهو قول الحسن .

                                وعن أحمد فيه روايتان ، وللشافعية وجهان .

                                ومأخذهما : هل يجوز الانتقال من الائتمام إلى نية الإمام ؟

                                وأما مأخذ الحسن ، فالظاهر أنه كراهة إعادة الجماعة في مسجد مرتين .

                                قال القاضي من أصحابنا والشافعية : ولو كان ذلك في الجمعة لم يجز ؛ لأن الجمعة لا تقام في مسجد واحد مرتين في يوم .

                                وقال أبو [ علي ] الحسن بن البناء : في هذا نظر ؛ لأن الجمعة تقام عندنا في مواضع للحاجة ، وإن سبق بعضها بعضا .



                                الخدمات العلمية