الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث الرابع :

                                قال :

                                607 633 - ثنا إسحاق : أبنا جعفر بن عون : ثنا أبو العميس ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح ، فجاءه بلال فآذنه بالصلاة ، ثم خرج بلال بالعنزة حتى ركزها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح ، وأقام الصلاة .

                                التالي السابق


                                في هذه الرواية : التصريح بالإقامة دون الأذان ، وكان ذلك بالأبطح في حجة الوداع .

                                وقد خرج البخاري فيه ذكر الأذان في الباب الآتي ، ولكن اختصره ، وسنذكره بتمامه فيه - إن شاء الله تعالى .

                                وفي هذا الحديث : أن بلالا آذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة ، وخرج بين يديه بالعنزة ، وأقام الصلاة ، وهذا موافق لحديث عائشة المتقدم الذي خرجه البخاري في ( باب : انتظار الإقامة ) .

                                وقد دلت هذه الأحاديث على مشروعية الأذان في السفر لجميع الصلوات ، فإن منها ما فيه الأذان في السفر ليلا كحديث ابن عمر ، ومنها ما فيه الأذان في السفر نهارا كحديث أبي جحيفة ، فإن فيه الأذان للظهر والعصر بالأبطح ، وحديث أبي ذر ، فإن فيه الأذان للظهر ، وحديث مالك بن الحويرث يعم سائر الصلوات ، وأحاديث الأذان بعرفة تدل على الأذان للجمع بين الظهر والعصر ، وأحاديث الأذان بالمزدلفة تدل على الأذان للجمع بين المغرب والعشاء ، وقد اختلفت الروايات في ذلك ، وتذكر في موضعها - إن شاء الله .

                                وقد تقدم حديث الأذان للصلاة في السفر بعد فوات وقتها . وفي حديث أبي محذورة أنهم سمعوا الأذان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قفل من حنين راجعا .

                                [ ص: 545 ] وقد اختلف العلماء في الأذان في السفر :

                                فذهب كثير منهم إلى أنه مشروع للصلوات كلها .

                                \155 قال ابن سيرين : كانوا يؤمرون أن يؤذنوا ويقيموا ويؤمهم أقرؤهم \155 .

                                خرجه الأثرم .

                                وهو قول أبي حنيفة والشافعي .

                                ونقل ابن منصور ، عن أحمد وإسحاق ، أنه يؤذن ويقام في السفر لكل صلاة ، واحتجا بحديث مالك بن الحويرث .

                                ولكن أكثر أصحابنا على أن الأذان والإقامة سنة في السفر ، ليس بفرض كفاية ، بل سنة بخلاف الحضر .

                                ومن متأخريهم من سوى في الوجوب بين السفر والحضر ، والواحد والجماعة ، وهو قول داود .

                                وقال ابن المنذر : هو فرض في حق الجماعة في الحضر والسفر .

                                وظاهر تبويب البخاري يدل على أنه يرى الأذان إنما يشرع في السفر للجماعة ، دون المنفرد .

                                \155 قال مجاهد : إن نسي الإقامة في السفر أعاد \155 .

                                وهذا يدل على أنه رآها شرطا في حق المسافر وغيره .

                                وقالت طائفة : لا يؤذن إلا للفجر خاصة ، بل يقيم لكل صلاة .

                                روي هذا عن ابن عمر .

                                وروي عنه مرفوعا .

                                خرجه الحاكم .

                                وفي إسناده ضعف واضطراب .

                                [ ص: 546 ] قال البيهقي : رفعه وهم فاحش ، ولا يصح رفعه .

                                وروي عن ابن سيرين مثل قول ابن عمر .

                                ونقله حرب ، عن إسحاق .

                                ونقل الميموني ، عن أحمد ، قال في المسافر في الفجر خاصة يؤذن ويقيم ، وفي غير الفجر يقيم - إن شاء الله .

                                ونقل ابن منصور ، عن إسحاق : لا بد للمسافر أن يقيم بخلاف الحاضر ؛ لأن الحاضر يكتفي بأذان غيره وإقامته .

                                واختلفت الرواية عن مالك :

                                فنقل عنه ابن القاسم : الأذان إنما هو في المصر للجماعة في المساجد .

                                وروى أشهب ، عن مالك : إن ترك المسافر الأذان عمدا فعليه إعادة الصلاة .

                                ذكره ابن جرير ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عنه .

                                وقال الحسن والقاسم بن محمد : تجزئه إقامة في السفر .

                                وقالت طائفة : هو بالخيار ، إن شاء أذن ، وإن شاء أقام في السفر .

                                روي عن علي وعروة بن الزبير ، وبه قال سفيان .

                                وكان ابن عمر يقول : إنما الأذان للإمام الذي يجتمع إليه الناس .

                                رواه مالك عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان لا يزيد على الإقامة في السفر في الصلاة إلا في الصبح ؛ فإنه كان يؤذن فيها ويقيم ، ويقول : إنما الأذان للإمام الذي يجتمع إليه الناس .

                                وقال أبو الزبير ، سألت ابن عمر : أؤذن في السفر ؟ قال : لمن يؤذن ؟ للفأر ؟ !

                                [ ص: 547 ] وأما الذين رأوا الأذان في السفر ، فقالوا : الأذان للإعلام بالوقت ، وهذا مشروع في الحضر والسفر .

                                وأما إن كان المصلي منفردا وحده في قرية ، فقد ورد في فضل أذانه وإقامته غير حديث :

                                روى سليمان التميمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان ، قال : لا يكون رجل بأرض [ قي ] ، فتوضأ إن وجد ماء وإلا تيمم ، فينادي بالصلاة ثم يقيمها إلا أم من جنود الله ما لا يرى طرفاه - أو قال : طرفه .

                                ورواه القاسم بن غصن - وفيه ضعف - عن داود بن أبي هند ، عن أبي عثمان ، عن سلمان - مرفوعا .

                                ولا يصح ، والصحيح موقوف - : قاله البيهقي .

                                وروى مالك ، عن يحيى بن سعيد ، \155 عن سعيد بن المسيب ، أنه كان يقول : من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك ، وعن شماله ملك ، فإن أذن وأقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال \155 .

                                وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على استحباب الأذان للمنفرد في السفر :

                                فخرج مسلم من رواية حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر ، وكان يستمع الأذان ، فإن سمع أذانا أمسك ، وإلا أغار ، فسمع رجلا يقول : الله أكبر الله أكبر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 548 ] " على الفطرة " ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خرجت من النار " ، فنظروا فإذا هو راعي معزى .

                                وخرج الإمام أحمد من حديث ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه ، وفيه : فابتدرناه ، فإذا هو صاحب ماشية ، فأدركته الصلاة ، فنادى بها .

                                وخرج - أيضا - بمعناه من حديث معاذ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يعجب ربك من راعي غنم ، في شظية بجبل يؤذن للصلاة ويصلي ، فيقول عز وجل : انظروا إلى عبدي هذا ، يؤذن ويقيم ويصلي ، يخاف مني ، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة " .

                                واستدل النسائي للإقامة في حق المنفرد بحديث خرجه من رواية رفاعة بن رافع ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء في صلاته : " إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد ، ثم كبر " - وذكر له صفة بقية الصلاة ، وقال في آخر ذلك : " فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك ، وإن أنقصت منه شيئا انتقص من صلاتك ، ولم تذهب كلها " .

                                وإن صلى وحده في مصر ، فإن شاء أذن وأقام ، وإن شاء أجزأه أذان أهل المصر ، واكتفى بالإقامة - : نص عليه أحمد .

                                وممن قال : يكفيه الإقامة : سعيد ، وميمون بن مهران ، والزهري ، ومالك ، والأوزاعي .

                                وقد تقدم عن إسحاق : أن الحاضر إن شاء صلى بغير أذان ولا إقامة ، [ ص: 549 ] والمسافر لا بد له أن يقيم .

                                وأما الشافعي ، فنص على أن المنفرد يؤذن ويقيم .

                                وخرج له أصحابه قولا آخر : أنه لا يؤذن ويكتفي بالإقامة .

                                ومن أصحابه من قال : إن بلغه أذان غيره لم يؤذن ، [ وإلا أذن ] .

                                وحكى ابن المنذر ، عن الكوفيين ، أن له أن يصلي في المصر وحده بغير أذان ولا إقامة ، منهم : الشعبي والأسود وأبو مجلز والنخعي .

                                وحكى مثله عن مجاهد وعكرمة .

                                وعن أبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور : يجزئه أذان أهل المصر .

                                وعن ابن سيرين والنخعي : تجزئه الإقامة ، إلا في الفجر ؛ فإنه يؤذن ويقيم .

                                وحكى ابن عبد البر ، عن أبي حنيفة وأصحابه : أن المسافر يكره له أن يصلي بغير أذان وإقامة ، وأما الحاضر إذا صلى وحده فيستحب أن يؤذن ويقيم ، وإن اكتفى بأذان أهل المصر وإقامتهم أجزأه .

                                قلت : وقال سفيان : إن سمع إقامة أهل المصر فاكتفى بها أجزأه ، فلم يكتف بالإقامة حتى يسمعها .

                                وروي عن علقمة ، قال : صلى ابن مسعود بي وبالأسود بغير أذان ولا إقامة ، وربما قال : يجزئنا أذان الحي وإقامتهم .

                                خرجه البيهقي .

                                وخرج - أيضا - بإسناد ضعيف جدا ، عن ابن عمر ، أنه كان يقول : من [ ص: 550 ] صلى في مسجد قد أقيمت فيه الصلاة أجزأته إقامتهم .

                                ثم قال : وبه قال الحسن والشعبي والنخعي .

                                قال : وقال الشافعي : لم أعلم مخالفا أنه إذا جاء المسجد وقد خرج الإمام من الصلاة كان له أن يصلي بلا أذان ولا إقامة .

                                قال البيهقي : وكان عطاء يقول : يقيم لنفسه .

                                ثم روى بإسناد صحيح ، عن أبي عثمان ، قال : جاءنا أنس بن مالك وقد صلينا الفجر ، فأذن وأقام ، ثم صلى الفجر لأصحابه .

                                قال : ورويناه عن سلمة بن الأكوع في الأذان والإقامة ، ثم عن ابن المسيب والزهري .

                                وروى من طريق الشافعي : حدثنا إبراهيم بن محمد : أخبرني عمارة بن غزية ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، قال : سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يؤذن للمغرب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما قال ، فانتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال : قد قامت الصلاة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( انزلوا فصلوا المغرب بإقامة هذا العبد الأسود ) .

                                وهذا ضعيف ، إبراهيم ، هو ابن أبي يحيى ، تركوا حديثه .

                                وروى وكيع في ( كتابه ) عن دلهم بن صالح ، عن عون بن عبد الله ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر ، فسمع إقامة مؤذن ، فصلى بأصحابه بإقامته .

                                وهو مرسل - أيضا .

                                وقال أكثر أصحابنا : من صلى في مسجد قد صلي فيه بغير أذان ولا إقامة فلا بأس .

                                ومن متأخريهم من قال : لا يسقط وجوب الأذان إلا عمن صلى مع [ ص: 551 ] المؤذن ، ولا يسقط عمن لم يصل معه وإن سمعه ، سواء كان واحدا أو جماعة في المسجد الذي صلي فيه بأذان أو غيره .

                                وهذا شذوذ لا يعول عليه .

                                وهو خلاف نص أحمد : أن المصلي وحده في مصر يجزئه أذان المصر .

                                ونص الإمام أحمد في رواية جعفر بن محمد على أنه لا يترك الأذان في المسجد .

                                وظاهره : يدل على أن الأذان واجب في مساجد الجماعات .

                                وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر : الواجب في المصر أذان واحد ، وما زاد عليه في المساجد فهو سنة .

                                ولم يفرق بين أن يكون أهل المصر يبلغهم ذلك الأذان ، أو لا .

                                وقال المتأخرون من أصحابنا : الواجب من الأذان في المصر ما حصل به الإعلام في أقطاره ونواحيه غالبا ، فلا يجزئ فيه أذان واحد إذا كان لا يبلغ أقطاره .

                                وأما ما بوب عليه البخاري من قول المؤذن في الأذان في الليلة المطيرة أو الباردة : ( الصلاة في الرحال ) ، فحديث ابن عمر يدل على أنه يقول بعد فراغ أذانه .

                                وقد تقدم في ( باب : الكلام في الأذان ) : حديث ابن عباس في قولها في الحضر في أثناء الأذان قبل فراغه ، وسبق الكلام عليه .



                                الخدمات العلمية