الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              وقال علماؤنا : هذه الآية وعد حق وقول صدق ، يدل ذلك على صحة إمامة الخلفاء الأربعة ; لأنه لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا ، فأولئك مقطوع بإمامتهم ، متفق عليهم . وصدق وعد الله فيهم ، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم ; واستقر الأمر لهم ، وقاموا بسياسة المسلمين ، وذبوا عن حوزة الدين ، فنفذ الوعد فيهم ، وصدق الكلام فيهم ، وإذا لم يكن هذا الوعد بهم ينجز ، وفيهم نفذ ، وعليهم ورد ففيمن يكون إذن ؟ وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا ، ولا يكون فيما بعده . قام أبو بكر بدعوة الحق ، واتفاق الخلق ، وواضح الحجة ، وبرهان الدين ، وأدلة اليقين ، فبايعه [ ص: 410 ] الصحابة ، ثم استخلف عمر فلزمت الخلافة ، ووجبت النيابة ، وتعين السمع والطاعة ، ثم جعلها عمر شورى ، فصارت لعثمان بالنظر الصحيح ، والتبجيل الصريح ، والمساق الفسيح ; جعل الثلاثة أمرهم إلى ثلاثة ، ثم أخرج عبد الرحمن نفسه بشرط أن يكون إلى من اختاره من الرجلين ، فاختار عثمان ، وما عدل عن الخيار ، وقدمه وحقه التقديم على علي .

                                                                                                                                                                                                              ثم قتل عثمان مظلوما في نفسه ، مظلوما جميع الخلق فيه ، فلم يبق إلا علي أخذا بالأفضل فالأفضل ، وانتقالا من الأول إلى الأول ، فلا إشكال لمن جنف عن المحال أن التنزيل على هؤلاء الأربعة وعد الله في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                              ثم كملت لحال أبي بكر فاتحة وخاتمة .

                                                                                                                                                                                                              ثم كملت لعمر ، وكسر الباب ، فاختلط الخشار باللباب ، وانجرت الحال مع عثمان واضحة للعقلاء ، معترضا عليها من الحمقى ، ثم نفذ القدر بقتله إيثارا للخلق منه على نفسه وأهله ، ثم قام علي أحسن قيام لو ساعده النقض والإبرام ، ولكنه وجد الأمور نشرا ، وما رام رتق خصم إلا انفتق عليه خصم ، ولا حاول طي منتشر إلا عارضه عليه أشر ، ونسبت إليه أمور هو منها بريء براءة الشمس من الدنس ، والماء من القبس ، وطالبه الأجل حتى غلبه ، فانقطعت الخلافة ، وصارت الدنيا ملكا تارة لمن غلب ، وأخرى لمن خلب ، حتى انتهى الوعد الصادق ابتداؤه وانتهاؤه .

                                                                                                                                                                                                              أما الابتداء فهذه الآية ، وأما الانتهاء فبحديث سفينة قال سعيد بن حمدان عن سفينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء } . قال سعيد : قال لي سفينة : أمسك عليك ، أبو بكر سنتين ، وعمر عشرا ، وعثمان اثنتي عشرة ، وعلي كذا . قال سعيد : قلت لسفينة : إن هؤلاء يزعمون أن عليا لم يكن خليفة . قال : كذبت [ ص: 411 ] استاءه بنو الزرقاء يعني بني مروان زاد في رواية : اعدد ; أبو بكر كذا ، وعمر كذا ، وعثمان كذا ، وعلي كذا ، والحسن ستة أشهر ، فهؤلاء ثلاثون سنة .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى الترمذي وغيره { أن رجلا قام إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية ، فقال له : يا مسود وجوه المؤمنين . فقال : لا بأس ، رحمك الله ، فإن النبي أري بني أمية على منبره فساءه ذلك ، فنزلت : { إنا أعطيناك الكوثر } . ونزلت : { إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر } . }

                                                                                                                                                                                                              يملكها بعدك بنو أمية يا محمد .

                                                                                                                                                                                                              قال القاسم راوي الحديث : فعددناها فإذا هي ألف شهر ، لا تزيد ولا تنقص .

                                                                                                                                                                                                              وفي الحديث الصحيح { أن النبي أجلس الحسن في حجره على المنبر ، وقال : إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين } . المسألة الثالثة :

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : هذا الوعد يصح لكم في أبي بكر وحده ، فأما عمر فأي أمن معه ، وقد قتل غيلة . وعثمان قد قتل غلبة ، وعلي قد نوزع بالجنبة والجلبة .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : هذا كلام جاهل غبي أو متهاون ، يكن على نفاق خفي ، أما عمر وعثمان فجاءهما أجلهما ، وماتا ميتتهما التي كتب الله لهما ، وليس في ضمن الأمن السلامة من الموت بأي وجه وقع .

                                                                                                                                                                                                              وأما علي فلم يكن نزاله في الحرب مذهبا للأمن ، فليس من شرط الأمن رفع الحرب ، إنما من شرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره ، وسلامته عن الغلبة المشحونة بالذلة ، كما كان أصحاب النبي بمكة ، فأما بعدما صاروا إلى المدينة فقد آلوا إلى الأمن والعزة .

                                                                                                                                                                                                              في الصحيح عن { خباب بن الأرت قال شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له [ ص: 412 ] في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا ؟ قال : كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض ، فيجعل فيه فيجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه ، فيشق باثنين ، وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشطه بأمشاط الحديد ما دون لحم من عظم وعصب ، وما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه . ولكنكم تستعجلون } .

                                                                                                                                                                                                              وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين ، وكانوا مطلوبين فعادوا طالبين ، وهذا نهاية الأمن والعز . المسألة الرابعة :

                                                                                                                                                                                                              قال قوم : إن هذا وعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام ، كما قال صلى الله عليه وسلم : { زويت لي الأرض ، فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها } .

                                                                                                                                                                                                              قلنا لهم : هذا وعد عام في النبوة والخلافة ، وإقامة الدعوة ، وعموم الشريعة ، بنفاذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حال ، حتى في المفتين والقضاة والأئمة ; وليس للخلاف محل تنفذ فيه هذه الموعدة الكريمة إلا من تقدم من الخلفاء الأربعة .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية