الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء قال أبو بكر : قد اقتضت هذه الآية أن يكون شهود الزنا أربعة ، كما أوجب قوله : واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم قبول شهادة العدد المذكور فيه وامتناع جواز الاقتصار على أقل منه . وقال تعالى في سياق التلاوة عند ذكر أصحاب الإفك : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فجعل عدد الشهود المبرئ للقاذف من الحد أربعة وحكم بكذبه عند عجزه عن إقامة أربعة شهداء ، وقد بين تعالى عدد شهود الزنا في قوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم الآية ، وأعاد ذكر الشهود الأربعة عند القذف إعلاما لنا أن القاذف لا تبرئه من الجلد إلا شهادة أربعة .

واختلف الفقهاء في القاذف إذا جاء بأربعة شهداء فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا ، فقال أصحابنا وعثمان البتي والليث بن سعد : ( لا حد على الشهود وإن كانوا فساقا ) .

وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف في رجل قذف رجلا بالزنا ثم جاء بأربعة فساق يشهدون أنه زان : ( إنه يحد القاذف ويدرأ عن الشهود ) .

وقال زفر : ( يدرأ عن القاذف وعن الشهود ) . وقال مالك وعبيد الله بن الحسن : ( يحد الشهود ) .

قال أبو بكر : ولم يختلف أصحابنا لو جاء بأربعة كفار أو محدودين في قذف أو عبيد أو عميان أن القاذف والشهود جميعا يحدون للقذف ، فأما إذا [ ص: 128 ] كانوا فساقا فإن ظاهر قوله : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء قد تناولهم ؛ إذ لم يشرط في سقوط الحد عن القاذف العدول دون الفساق ، فوجب بمقتضى الآية زوال الحد عن القاذف ؛ إذ جعل شرط وجوب الحد أن لا يأتي بأربعة شهداء وهو قد أتى بأربعة شهداء ؛ إذ كان الشهداء اسما لمن أقام الشهادة .

فإن قيل : يلزمك مثله في الكفار والمحدودين في القذف ونحوهم .

قيل له : قد اقتضى الظاهر ذلك ، وإنما خصصناه بدلالة . وأيضا فإن الفساق إنما ردت شهادتهم للتهمة وكان ذلك شبهة في ردها ، فغير جائز إيجاب الحد عليهم بالشبهة التي ردت من أجلها شهادتهم ، ووجب سقوط الحد عن القاذف أيضا بهذه الشهادة كما أسقطناها عنهم ؛ إذ كان سبيل الشبهة أن يسقط بها الحد ولا يجب بها الحد ، وأما المحدود في القذف والكافر والعبد والأعمى فلم نرد شهادتهم للتهمة ولا لشبهة فيها وإنما رددناها لمعان متيقنة فيهم تبطل الشهادة ، وهي الحد والكفر والرق والعمى فلذلك حددناهم ولم يكن لشهادتهم تأثير في إسقاط الحد عنهم وعن القاذف ، ووجه آخر ، وهو أن الفساق من أهل الشهادة ، وإنما رددناها اجتهادا ، وقد يسوغ الاجتهاد لغيرنا في قبول شهادتهم إذا كان ما نحكم نحن بأنه فسق يوجب رد الشهادة قد يجوز أن يراه غيرنا غير مانع من قبول الشهادة ، فلما كان كذلك لم يكن لنا إيجاب الحد على الشهود ولا على القاذف بالاجتهاد ، وأما الحد في القذف والكفر ونظائرهما فليس طريق إثباتها الاجتهاد بل الحقيقة ؛ فلذلك جاز أن يحدوا ولم يكن لشهادتهم تأثير في إسقاط الحد عن القاذف .

وأيضا فإن الفاسق غير محكوم ببطلان شهادته إذ الفسق ليس بمعنى يحكم به الحاكم ولا يسمع عليه البينات ، فلما لم يحكم ببطلان شهادتهم ولا كان الفسق مما تقوم به البينات ويحكم به الحاكم لم يجز الحكم ببطلان شهادتهم في إيجاب الحد عليهم ، ولما كان حد القذف والكفر والرق والعمى مما يقع الحكم به وتقوم عليه البينات كان محكوما ببطلان شهادتهم وخرجوا بذلك من أن يكونوا من أهل الشهادة فوجب أن يحدوا لوقوع الحكم بالسبب الموجب لخروجهم من أن يكونوا من أهل الشهادة . وأيضا فإن الفسق من الشاهد غير متيقن في حال الشهادة ، إذ جائز أن يكون عدلا بتوبته في الحال فيما بينه وبين الله ، وأما الكفر والحد والعمى والرق فقد علمنا أنه غير زائل وهو المانع له من كونه شاهدا ، فلذلك اختلفا .

فإن قيل جائز أن يكون الكافر قد أسلم أيضا فيما بينه وبين الله قيل له : لا يكون مسلما باعتقاده الإسلام دون إظهاره في الموضع الذي يمكنه [ ص: 129 ] إظهاره ، فإذا لم يظهره فهو باق على كفره ، فقول زفر في هذه المسألة أظهر لأنه إن جاز أن يكون فسق الشهود غير مخرج لهم من أن يكونوا من أهل الشهادة في باب سقوط الحد عنهم فكذلك حكمهم في سقوطه عن القاذف .

قال أبو بكر اختلف الفقهاء في شهود الزنا إذا جاءوا متفرقين ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح : ( يحدون ) وقال عثمان البتي والشافعي : ( لا يحدون وتقبل شهادتهم ) ، ثم قال الشافعي : ( إذا كان الزنا واحدا ) قال أبو بكر : لما شهد الأول وحده كان قاذفا بظاهر قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاقتضى أن يكون الأربعة غيره ؛ إذ غير جائز أن يكون المعقول منه دخوله في الأربعة ؛ لأنه لا يقال ائت بنفسك بعد الشهادة أو القذف كما لا يجوز أن يقال ائت بأربعة سواك ؛ ولأنهم لم يختلفوا أنه إذا قال لها أنت زانية أنه مكلف لأن يأتي بأربعة غيره يشهدون بالزنا وليس هو منهم ، فكذلك قوله أشهد أنك زانية .

وإذا كان كذلك فقد اقتضى ظاهر الآية إيجاب الحد على كل قاذف سواء كان قذفه بلفظ الشهادة أو بغير لفظ الشهادة ، فلما كان ذلك حكم الأول كان كذلك حكم الثاني والثالث والرابع ؛ إذ كان كل واحد منهم قاذف محصنة قد أوجب الله عليه الحد ولم يبرئه منه إلا بشهادة أربعة غيره ، فإن قيل : إنما أوجب الله عليه الحد إذا كان قاذفا ولم يجئ مجيء الشهادة ، فأما إذا جاء مجيء الشهادة بأن يقول : ( أشهد أن فلانا زنى ) فليس هذا بقاذف قيل له : قذفه إياها بلفظ الشهادة لا يخرجه من حكم القاذفين .

ألا ترى أنه لو لم يشهد معه غيره لكان قاذفا وكان الحد له لازما ؟ فلما كان كذلك علمنا أن إيراده القذف بلفظ الشهادة لا يخرجه من أن يكون قاذفا بعد أن يكون وحده وأيضا فقد تناوله عموم قوله : والذين يرمون المحصنات إذ كان راميا ، وإنما ينفصل حكم الرامي من حكم الشاهد إذا جاء أربعة مجتمعين وهم العدد المشروط في قبول الشهادة ، فلا يكونون مكلفين لأن يأتوا بغيرهم ، فأما من دون الأربعة إذا جاءوا قاذفين بلفظ الشهادة أو بغير لفظها فإنهم قذفة ؛ إذ هم مكلفون للإتيان بغيرهم في صحة قذفهم .

فإن قيل : قد روي أن نافع بن الحارث كتب إلى عمر رضي الله عنه : أن أربعة جاءوا يشهدون على رجل وامرأة بالزنا ، فشهد ثلاثة أنهم رأوا كالميل في المكحلة ولم يشهد الرابع بمثل ذلك ، فكتب إليه عمر : إن شهد الرابع على مثل ما شهد عليه الثلاثة فاجلدهما وإن كانا محصنين فارجمهما ، وإن لم يشهد إلا بما كتبت به إلي فاجلد الثلاثة وخل [ ص: 130 ] سبيل الرجل والمرأة ، وهذا يدل على أنه لو شهد مع الثلاثة آخر أنهم لا يحدون وقبلت شهادتهم مع كون الثلاثة بديا منفردين .

قيل له : ليس في ذلك دلالة على ما ذكرت ؛ وذلك لأن الرجل الذي لم يشهد بما شهد به الآخرون لم ينفرد عنهم بل جاءوا مجتمعين مجيء الشهادة وجائز أن يكون الجميع شهدوا بالزنا فلما استثبتوا بالرجل أن يصرح بما صرح به الثلاثة فأمر عمر بأن يوقف الرجل ، فإن أتى بالتفسير على ما أتى به القوم حد المشهود عليهما ، وإن هو لم يأت بالتفسير أبطل شهادته وجعل الثلاثة منفردين فحدهم ، ولم يقل عمر إن جاء رابع فشهد معهم فاقبل شهادتهم فيكون قابلا لشهادة الثلاثة المنفردين مع واحد جاء بعدهم ؛ وقد جلد أبا بكرة وأصحابه لما نكل زياد عن الشهادة ولم يقل لهم ائتوا بشاهد آخر يشهد بمثل شهادتكم ، وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكره عليه أحد منهم ، ولو كان قبول شهادة شاهد واحد منهم لو شهد معهم جائزا لوقف الأمر واستثبتهم وقال هل يشهد بمثل شهادتكم شاهد آخر ؟ وإذ لم يقل ذلك ولم يوقف أمرهم بما عزم عليه من حدهم دل على أنهم قد صاروا قذفة قد لزمهم الحد وأنه لم يكن يبرئهم من الحد إلا شهادة أربعة آخرين .

فإن قيل : فهو لم يقل لهم هل معكم أربعة يشهدون بمثل شهادتكم ولم يوقف أمر الحد عليهم لجواز ذلك ، فكذلك في الشاهد الواحد لو شهد بمثل شهادتهم .

قيل له : لأنه لم يكن يخفى عليهم أنهم لو جاءوا بأربعة آخرين يشهدون لهم بذلك لكانت شهادتهم مقبولة وكان الحد عنهم زائلا ، فلو كانوا قد علموا أن هناك شهودا أربعة يشهدون بذلك لسألوه التوقيف ، فلذلك لم يحتج أن يعلمهم ذلك ؛ وأما الشاهد الواحد لو شهد معهم فإنه جائز أن يخفى حكمه عليهم في جواز شهادته معهم أو بطلانها ، فلو كان ذلك مقبولا لوقفهم عليه وأعلمهم إياه حتى يأتوا به إن كان

التالي السابق


الخدمات العلمية