الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الأيام المعلومات

قال الله عز وجل : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ ص: 67 ] فروي عن علي وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها شئت ، قال ابن عمر : " المعلومات أيام النحر والمعدودات أيام التشريق " . وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران عن بشر بن الوليد الكندي القاضي قال : كتب أبو العباس الطوسي إلى أبي يوسف يسأله عن الأيام المعلومات ، فأملى علي أبو يوسف جواب كتابه : اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، فروي عن علي وابن عمر أنها أيام النحر ، وإلى ذلك أذهب ؛ لأنه قال : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وذلك في أيام النحر ، وعن ابن عباس والحسن وإبراهيم أن المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق ، وروى معمر عن قتادة مثل ذلك ، وروى ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قوله تعالى : واذكروا الله في أيام معدودات يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، وذكر أبو الحسن الكرخي أن أحمد القاري روى عن أبي حنيفة أن المعلومات العشر ، وعن محمد أنها أيام النحر الثلاثة يوم الأضحى ويومان بعده ، وذكر الطحاوي أن من قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق ، والذي رواه أبو الحسن عنهم أصح .

وقد قيل إنه إنما قيل لأيام التشريق معدودات ؛ لأنها قليلة ، كما قال تعالى : وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وأنه سماها معدودة لقلتها . وقيل لأيام العشر معلومات حثا على علمها وحسابها من أجل أن وقت الحج في آخرها ، فكأنه أمرنا بمعرفة أول الشهر وطلب الهلال فيه حتى نعد عشرة ويكون آخرهن يوم النحر . ويحتج لأبي حنيفة بذلك في أن تكبير التشريق مقصور على أيام العشر مفعول في يوم عرفة ويوم النحر وهما من أيام العشر .

فإن قيل : لما قال : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام دل على أن المراد أيام النحر كما روي عن علي . قيل له : يحتمل أن يريد لما رزقهم من بهيمة الأنعام ، كما قال : لتكبروا الله على ما هداكم ومعناه : لما هداكم ، وكما تقول : اشكر الله على نعمه ، ومعناه : لنعمه . وأيضا فيحتمل أن يريد به يوم النحر ويكون قوله تعالى : على ما رزقهم يريد به يوم النحر وبتكرار السنين عليه تصير أياما . وهذه الآية تدل على أن ذبح سائر الهدايا في أيام النحر أفضل منه في غيرها وإن كانت من تطوع أو جزاء صيد أو غيره . واختلف أهل العلم في أيام النحر ، فقال أصحابنا والثوري : " هو يوم النحر ويومان بعده " . وقال الشافعي : " ثلاثة أيام بعده وهي أيام التشريق " . قال أبو بكر : وروي نحو قولنا عن علي وابن عباس وابن عمر وأنس [ ص: 68 ] بن مالك وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب . وروي مثل قول الشافعي عن الحسن وعطاء . وروي عن إبراهيم النخعي أن النحر يومان . وقال ابن سيرين : " النحر يوم واحد " .

وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وسليمان بن يسار قالا : " الأضحى إلى هلال المحرم " . قال أبو بكر : قد ثبت عمن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة واستفاض ذلك عنهم ، وغير جائز لمن بعدهم خلافهم ؛ إذ لم يرو عن أحد من نظرائهم خلافه فثبتت حجته . وأيضا فإن سبيل تقدير أيام النحر التوقيف أو الاتفاق ؛ إذ لا سبيل إليها من طريق المقاييس ، فلما قال من ذكرنا قوله من الصحابة بالثلاثة صار ذلك توقيفا ، كما قلنا في مقدار مدة الحيض وتقدير المهر ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق إذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته وكان ذلك توقيفا . وأيضا قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق ؛ لأنه لو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر ، فلما وجدنا الرمي في يوم النحر وأيام التشريق ووجدنا النحر في يوم النحر ، وقال قائلون : إلى آخر أيام التشريق ، وقلنا نحن : يومان بعده ، وجب أن نوجب فرقا بينهما ، لإثبات فائدة كل واحد من اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر أيامها .

واحتج من جعل النحر إلى آخر أيام التشريق بما روى سليمان بن موسى عن ابن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل عرفات موقف وارتفعوا عن عرنة ، وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن محسر ، وكل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح ، وهذا حديث قد ذكر عن أحمد بن حنبل أنه سئل عن هذا الحديث فقال : لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم وأكثر روايته عن سهو . وقد قيل إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه قال : سمعت أسامة بن زيد يقول : سمعت عبد الله بن أبي حسين يخبر عن عطاء بن أبي رباح وعطاء يسمع قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر ، فهذا أصل الحديث ، ولم يذكر فيه : وكل أيام التشريق ذبح ، ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو من دونه ؛ لأنه لم يذكره . وأيضا لما ثبت أن النحر فيما يقع عليه اسم الأيام وكان أقل ما يتناوله اسم الأيام ثلاثة وجب أن يثبت الثلاثة ، وما زاد لم تقم عليه [ ص: 69 ] الدلالة فلم يثبت .

التالي السابق


الخدمات العلمية