الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا

قرأت فرقة: "الرياح"، وقرأت فرقة: "الريح" على الجنس، فهي بمعنى الرياح، وقد نسبنا القراءة في سورة الأعراف، وقراءة الجمع أوجه; لأن عرف "الريح" متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح; لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرق وتأتي لينة من ها هنا وها هنا، وشيئا إثر شيء، وريح العذاب حرجف لا تتداءب، وإنما تأتي جسدا واحدا، ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه؟ قال الرماني : جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح: الجنوب والصبا والشمال، وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة، لا تلقح، وهي الدبور.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

"ويرد" على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها [ ص: 444 ] ريحا . واختلف القراء في "النشر" في النون والباء وغير ذلك اختلافا قد ذكرناه في سورة الأعراف، و "نشرا" معناه: منتشرة متفرقة.

و"الطهور" بناء مبالغة في "طاهر"، وهذه المبالغة اقتضت في ماء السماء وفي كل ما هو منه وبسبيله أن يكون طاهرا ومطهرا، ووصف البلدة بالميت لأنه جعله كالمصدر الذي يوصف به المذكر والمؤنث، وجاز ذلك من حيث "البلدة" بمعنى "البلد"، وقرأ طلحة بن مصرف : "لننشئ به بلدة ميتا ونسقيه" بضم النون، وهي قراءة الجمهور، ومعناه: نجعله لهم سقيا، هذا قول بعض اللغويين في "أسقى"، قالوا: و "سقى" معناه للشفة ، وقال الجمهور: سقى وأسقى بمعنى واحد، وينشد على ذلك بيت لبيد :


سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال



وقرأ أبو عمرو : "نسقيه" بفتح النون، وهي قراءة ابن مسعود ، وابن أبي عبلة ، وأبي حيوة ، ورويت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. و "أناسي" قيل: هو جمع إنسان، والياء المشددة بدل من النون في الواحد، قاله سيبويه ، وقال المبرد : هو جمع إنسي، فكان القياس أن يكون "أناسية"، كما قالوا في مهلبي: مهالبة، وحكى [ ص: 445 ] الطبري عن بعض اللغويين في جمع إنسان: أناسين بالنون، كسرحان وبستان ، وقرأ يحيى بن الحارث : "أناسي" بتخفيف الياء.

والضمير في "صرفناه" قال ابن عباس ، ومجاهد : هو عائد على الماء المنزل من السماء، المعنى أن الله تبارك وتعالى جعل لهم إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض، وهو كله في كل عام بمقدار واحد، وقاله ابن مسعود ، وقوله -على هذا التأويل-: فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي في قولهم: بالأنواء والكواكب، قاله عكرمة ، وقيل: "كفورا" على الإطلاق لما تركوا التذكر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الضمير في "صرفناه" للقرآن، وإن كان لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر، ويعضد ذلك قوله بعد ذلك: وجاهدهم به ، وعلى التأويل الأول الضمير في "به" يراد به القرآن على نحو ما ذكرناه. وقال ابن زيد : يراد به الإسلام. وقرأ عكرمة : "صرفناه" بتخفيف الراء، وقرأ حمزة ، والكسائي ، والكوفيون : "ليذكروا" بسكون الذال، وقرأ الباقون: "ليذكروا" بشد الذال والكاف.

وفي قوله تعالى: ولو شئنا الآية اقتضاب يدل عليه ما ذكرناه، تقديره: ولكنا أفردناك واصطفيناك فلا تطع الكافرين.

التالي السابق


الخدمات العلمية