الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين

المعنى: واذكر يوم، وهذا تذكير بيوم القيامة، و "نحشر": نجمع، و من كل أمة يريد: من كل قرن من الناس متقدم; لأن كل عصر لم يخل من كفرة بالله من لدن تفرق بني آدم، و "الفوج": الجماعة الكبيرة من الناس، والمعنى: ممن حاله أنه مكذب بآياتنا، و "يوزعون" معناه: يكفون في السوق، أي: يحبس أولهم على آخرهم، قاله قتادة وغيره، ومنه وازع الجبش، وفيه يقول عبد الشارف بن عبد العزى :


فجاؤوا عارضا بردا وحينا كمثل السيل تركب وازعينا



ثم أخبر تعالى عن توقيفه الكفرة يوم القيامة وسؤالهم على جهة التوبيخ: حتى إذا الآية، ثم قال، أماذا كنتم تعملون على معنى استيفاء الحجج، أي: إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها. وقرأ أبو حيوة : "أماذا كنتم تعملون" بتخفيف الميم.

ثم أخبر عن وقوع القول عليهم، أي نفوذ العذاب وحتم القضاء، وأنهم لا ينطقون بحجة، لأنها ليست لهم، وهذا في موطن من مواطن القيامة، وفي فريق من الناس; لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن.

ثم ذكر تعالى الآية في الليل وكونه وقت سكون ووداعة لجميع الحيوان، والمهم في [ ص: 562 ] ذلك بنو آدم، وكون النهار مبصرا، أي: ذا إبصار، وهذا كما تقول: ليل قائم ونهار صائم، ومعنى ذلك: يقام فيه، فكذلك هذا معناه: يبصر فيه، فهو لذلك: ذا إبصار، ثم تجوز بأن قيل: "مبصرا"، فهو على النسب كعيشة راضية، والآيات في ذلك هي للمؤمنين والكافرين، هي آية لجميعهم في نفسها، لكن من حيث الانتفاع بها والنظر النافع إنما هو للمؤمنين فلذلك خصوا بالذكر.

ثم ذكر تبارك وتعالى يوم النفخ في الصور، وهو القرن في قول جمهور الأمة، وهو مقتضى الأحاديث، وقال مجاهد : هو كهيئة البوق، وقالت فرقة: الصور جمع صورة، كتمرة وتمر وجمرة وجمر، والأول أشهر، وفي الأحاديث المتداولة أن إسرافيل عليه السلام هو صاحب الصور، وأنه قد جثا على ركبته الواحدة وأقام الأخرى وأمال خده والتقم القرن ينتظر متى يؤمر ويؤذن له بالنفخ ، وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي نفخة الفزع، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن الملك له ثلاث نفخات: نفخة الفزع، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور . وقالت فرقة: إنما هي نفختان، كأنهم جعلوا الفزع والصعق في نفخة واحدة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، وقالوا: أخرى لا تقال إلا في الثانية.

[ ص: 563 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

والقول الأول أصح، وأخرى تقال في الثالثة، ومنه قول ربيعة بن مقروم :

ولقد شفعتهما بآخر ثالث

ومنه قوله تعالى: ومناة الثالثة الأخرى ، وأما قول الشاعر:


جعلت لها عودين من     نشم وآخر من ثمامه



فهو يحتمل أن يريد ثانيا أو ثالثا فلا حجة فيه.

وقوله تعالى: ففزع -وهو أمر لم يقع- يعد إشعارا بصحة وقوعه، وهذا معنى وضع الماضي موضع المستقبل، وقوله تعالى: إلا من شاء الله استثناء فيمن قضى الله تعالى من ملائكته وأنبيائه وشهداء عبيده ألا ينالهم فزع النفخ في الصور، قال أبو هريرة : هي في الشهداء ، وذكر الرماني أنه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مقاتل : هي في جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وإذا كان الأكبر لا ينالهم فهم حريون ألا ينالهم هذا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

على أن هذا في وقت ترقب وذلك في وقت أمن; إذ هو إطباق جهنم على أهلها.

وقرأ جمهور القراء: "وكل آتوه داخرين" على وزن فاعلوه، وقرأ حمزة ، وحفص [ ص: 564 ] عن عاصم : "أتوه" على صيغة الفعل الماضي، وهي قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة ، وقرأ قتادة : "أتاه" على الإفراد اتباعا للفظ "كل"، وإلى هذه القراءة أشار الزجاج ولم يذكرها.

و "الداخر": المتذلل الخاضع، قال ابن عباس ، وابن زيد : الداخر: الصاغر، وقرأ الحسن : "دخرين" بغير ألف، وتظاهرت الروايات بأن الاستثناء في هذه الآية إنما أريد به الشهداء; لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهم أهل للفزع لأنهم بشر لكنهم فضلوا بالأمن في ذلك اليوم.

التالي السابق


الخدمات العلمية