الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              247 - وقوله : " إن الله نثر ذرية آدم من صلبه ، ثم أخذهم في يديه ، فقال لمن في يده اليمنى : هؤلاء أهل الجنة ، وقال لمن في يده الأخرى : هؤلاء أهل النار " ، وما قد ذكرته من الأحاديث في هذا الباب ، وما قبله كلها توافق معنى الكتاب ، والكتاب يصدقها . ووجدنا في كتاب الله عز وجل كلما حكى الله عن قوم من أهل عداوته شيئا فكان كذبا لم يدع ذلك حتى يبين كذبهم فيه ، وإذا حكى عنهم شيئا صدقوا فيه لم يصدقهم ، فيكون قد مدحهم ، ولم يكذبهم ؛ لأنهم قد صدقوا ولم يصدق الكاذب أحيانا ، من ذلك قوله : وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ، فصدقوا في أول الكلام ، وكذبوا في آخره ، فكذبهم في كذبهم كما قالوا ، ومن ذلك قول إبليس : رب بما أغويتني ، فذكر الله ذلك عنه ، فلم يكذبه إذ كان كما قال ، ولم يصدقه فيكون تصديقه إياه مدحة له [ ص: 316 ] ومن ذلك ، قوله : وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ، فصدقوا في أول الكلام ، وكذبوا ، وذلك أنهم قد وجدوا عليها آباءهم ، فلم يكن يصدقهم الله في ذلك ، فيكون تصديقه لهم مدحة لهم ، وكذبهم في قولهم : والله أمرنا بها فقال : قل إن الله لا يأمر بالفحشاء .

              وكذلك قول اليهود : يد الله مغلولة ، فكذبهم في قولهم : مغلولة ، ولم يصدقهم في ذكر اليد فيكون مادحا لهم ، ثم أوضح أن له يدين فقال : غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ، من ذكر الغل ، ثم قال : بل يداه مبسوطتان .

              فقالت الجهمية : معنى اليد النعمة ، ولو كان كما زعموا لم يقل " يداه ، ولقال : بل مبسوطة ، ولو كان معنى اليد معنى النعمة لم يقل بيدي ، ولقال : بيدي أو بنعمتي ؛ لأن نعم الله أكثر من أن تحصى ؛ لأنه قال : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، وكيف يجوز أن تكون نعمتين .

              وقالت الجهمية : إنما معنى قوله : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ، كقولك : الدار في قبض فلان ، يعني : في ملكه ، وقد قبضت المال ، وليس في كفك شيء ، وكذلك تقول : الأرض ، والدار ، والغلام ، والدابة في قبضتي [ ص: 317 ] .

              فموهوا بذلك على الجاهل ، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ، فالقرآن مردود إلى ما جعله الله عليه ، فإنه قال : قرآنا عربيا .

              وقال : وهذا لسان عربي مبين ، فالجهمي الملعون إنما أتي من جهله باللسان العربي ، ومن تعاشيه عن الجادة الواضحة ، وطلبه المتشابه ، وثنيات الطرق ابتغاء الفتنة ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون .

              فقول الجهمي : الدار في قبضة فلان ، إنما يريد بذلك المغالطة ، وإدخال الشك والريب على قلب الضعفاء من المسلمين .

              فسوى بجهله بين القبض والقبضة ، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : الدار في قبضة فلان ، فإذا أردت الملك ، وما أشبهه من القبض لم تدخل الهاء ، فإن أردت قبضة اليد ، أدخلت الهاء ، فكذلك قوله : والأرض جميعا قبضته .

              ولو كان كقول الجهمي لقال : والأرض جميعا في قبضته ، ثم بين فقال : والسماوات مطويات بيمينه ، [ ص: 318 ] .

              وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يطوي الله السماوات كلها يوم القيامة ، ثم يهزها ، ثم يقول : أنا الجبار المتكبر ، أين ملوك الأرض ؟ " وقالت الجهمية : لا نقول : إن الله سميع بصير ، وفي كل ذلك كذبت . [ ص: 319 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية