الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              قال الشيخ : فقد ذكرت لكم رحمكم الله من تثبيت رؤية المؤمنين ربهم تعالى يوم القيامة في الجنة ، وشرحت ذلك وبينته ملخصا من كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وإجماع العلماء ، وأئمة المسلمين ، ولغات العرب ما في بعضه كفاية ، وغنى وهداية ، وشفاء لمن وهب الله بصيرة ، وأراد به مولاه الكريم الخير والسلامة .

              فأما الجهمي الملعون الذي قد غلب على قلبه الرين ، ومنع العصمة ، وحيل بينه وبين التوفيق ، فإنه يجحد ذلك كله وينكره ، ويعرض عنه ، ويتخذه هزوا ، فهو من الذين قال الله تعالى : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا .

              فالجهمي ينكر أن المؤمنين يرون ربهم في القيامة ، فإذا سئل عن حجته في ذلك نزع بآيات من متشابه القرآن ، وهو في أصل مذهبه ، وتأسيس اعتقاده تكذيب القرآن وجحده ، فيموه باحتجاجه بمتشابه القرآن على جهال الناس ، ومن لا علم عنده ، فيقول حجتي في ذلك قول الله تعالى : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، فظن من سمع كلامهم أنهم نزهوه ، وأجلوه ، ووحدوه ، بإنكارهم رؤيته ، واحتجاجهم بمتشابه القرآن ، فيقال لهم : أخبرونا ، النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلم بكتاب الله ومعاني كلامه ، ومراده في وحيه وتنزيله أم جهم بن صفوان ؟ فإن الذي أنزل عليه [ ص: 71 ] القرآن وجاء بالهدى من ربه والبرهان يقول : " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ، وكما ترون الشمس في نحر الظهيرة " ، " وإن من أهل الجنة لمن ينظر إلى الله تعالى كل يوم مرتين " ، أفيظن الجهمي الملحد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ هذه الآية التي احتج بها الجهمي ؟ أم يقول : إنه قد قرأها ؟ أم يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم عارض القرآن ، وتلقاه بالخلاف عليه والرد كما تفعل الجهمية والمعتزلة ؟

              فإن بعض المعتزلة إذا وضح عندهم صحة الروايات ، والآثار الصحيحة التي لا يجوز عليها التواطؤ والاستحالة ، قالوا : قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشبها ، والمشبه عندهم كافر ملحد .

              فأعظم من قولهم في نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامهم في ربهم ، وإلحادهم في أسمائه وجحدهم لصفاته ، وإبطالهم ربوبيته ، ألا ترى أنك لو جالست المعتزلي عمره كله ، ما قطع مجلسه ، ولا أفنى ليله ونهاره إلا بالخصومة والجدل في الله ، وفي صفاته ، وقدره ، وفي جحد العلم ، وفي نفي الصفات ، قد ولهته الخصومة ، وألهاه الجدل عن النظر في الحلال والحرام [ ص: 72 ] اللذين تعبده الله بعلمهما ، وفرض عليه العمل بهما ، والعمل بالذي فرضه الله من علم ذلك ، فأما حجته ، وخصومته بقول الله تعالى : لا تدركه الأبصار ، فإن معنى ذلك واضح لا يخيل على أهل العلم والمعرفة ، ذلك أنك تنظر إلى الصغير من خلق الله فيما يدركه بصرك ، ولا يحيط نظرك ، فالله تعالى أجل وأعظم من كل شيء يدركه بصر وإنما الإدراك أن يحيط البصر بالشيء حتى يراه كله فذلك الإدراك ، ألا ترى أنك ترى القمر فلا ترى منه إلا ما ظهر من وجهه ، ويخفى عليك ما غاب من قفاه ، وكذلك الشمس ، وكذلك السماء وكذلك البحر ، وكذلك الجبل ، وإن الرجل ليكلمك وهم معك فما يدركه بصرك ، وإنما تنظر منه إلى ما أقبل عليك منه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية