الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب إقامة الحد بالبينة وهي كاذبة في نفس الأمر عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه إنما أنا بشر فأي المؤمنين أذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها يوم القيامة : لم يقل مسلم (أو) : في الجميع واقتصر البخاري منه على قوله اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة : .

                                                            ولمسلم من حديث أنس فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا الحديث

                                                            [ ص: 12 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 12 ] باب إقامة الحدود بالبينة وهي كاذبة في نفس الأمر .

                                                            عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر فأي المؤمنين آذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها يوم القيامة (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) : أخرجه مسلم من طريق أبي الزناد وأيوب السختياني كلاهما عن الأعرج عن أبي هريرة وليس فيه لفظة (أو) : وإنما لفظه آذيته شتمته إلى آخره نعم رواه من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ سببته أو لعنته أو جلدته : وكذا رواه من طريق سالم مولى النصريين بلفظ آذيته أو سببته أو جلدته : واتفق عليه الشيخان من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بلفظ اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة ولمسلم فيه لفظ آخر أطول منه .

                                                            (الثانية) : المراد في الحديث إذا لم يكن المقول له أهلا لذلك القول كما ورد التصريح به في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام قال لأم سليم أما تعلمين أني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر [ ص: 13 ] وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة منك يوم القيامة .

                                                            قال النووي في شرح مسلم . فهذه الرواية تبين المراد في بقية الروايات المطلقة ، وأنه إنما يكون دعاؤه صلى الله عليه وسلم عليه رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن أهلا للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وكان مسلما ، وإلا فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك لهم رحمة .

                                                            (الثالثة) (إن قلت) : كيف يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء على من ليس أهلا للدعاء عليه وكيف يسبه أو يلعنه أو يجلده وهو عليه الصلاة والسلام معصوم عن الكبائر والصغائر عمدا وسهوا ؟ (قلت) : قال النووي الجواب ما أجاب به العلماء ومختصره وجهان :

                                                            (أحدهما) : أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك ، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر .

                                                            (الثاني) : إن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود بل هو مما خرج على عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله تربت يمينك وعقرى حلقى وكقوله في حديث أنس ليتيمة أم سليم لا أكثر الله منك وفي حديث معاوية لا أشبع الله بطنه ونحو ذلك لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجرا وإنما كان يقع منه هذا في النادر الشاذ من الأزمان ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا لعانا ولا منتقما لنفسه وقد صح أنهم قالوا له ادع على دوس فقال اللهم اهد دوسا .

                                                            وقال اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون انتهى .

                                                            وعبر أبو العباس القرطبي عن الجواب الأول بعبارة حسنة أحببت نقلها فقال أوضحها وجه واحد وهو أنه صلى الله عليه وسلم إنما يغضب لما يرى من المغضوب عليه من مخالفة الشرع فغضبه لله لا لنفسه فإنه ما كان يغضب لنفسه ولا ينتقم لها ، وقد قررنا في الأصول أن الظاهر من غضبه تحريم الفعل المغضوب من أجله .

                                                            وعلى هذا فيجوز له أن يؤدب المخالف باللعن والسب والجلد والدعاء عليه بالمكروه وذلك بحسب مخالفة المخالف غير أن ذلك المخالف قد يكون ما .

                                                            [ ص: 14 ] صدر منه فلتة أوجبتها غفلة أو غلبة نفس أو شيطان وله فيما بينه وبين الله عمل خالص وحال صادق يدفع الله عنه بسبب ذلك أثر ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم له من ذلك القول أو الفعل قال القاضي عياض وقد يكون قوله هذا ودعاء ربه إشفاقا على المدعو عليه وتأنيسا له لئلا يلحقه من الخوف والحذر من ذلك ومن تقبل دعائه ما يحمله على اليأس والقنوط وقد تكون سؤالاته لربه فيمن جلده وسبه بوجه حق وعقاب على جرم أن يكون ذلك عقوبة في الدنيا وكفارة لما فعله وتحصنا له عن عقابه عليه في الآخرة كما في الحديث الآخر ومن أصاب شيئا فعوقب به كان له كفارة .

                                                            (الرابعة) : قال المازري بعد ذكره الجواب الأول فما معنى قوله إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وهذا يشير إلى أن تلك الدعوة وقعت بحكم سورة الغضب لا على أنها من مقتضى الشرع فبقي السؤال على حاله قيل يحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام أراد أن دعوته عليه أو سبه أو جلده كان مما خير بين فعله له عقوبة للجاني وتركه وزجره بأمر آخر فحمله الغضب لله تعالى على أحد الأمرين المتخير فيهما وهو سبه أو لعنه أو جلده ونحو ذلك وليس ذلك خارجا عن حكم الشرع .

                                                            (الخامسة) : قوله عليه الصلاة والسلام اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه : معناه أنه طلب ذلك من الله تعالى فأجاب دعاءه وحقق طلبته وعن هذا عبر بقوله في الرواية الأخرى شرطت على ربي أي دعائي المجاب فالله تعالى لا يشترط عليه شرط ولا يجب عليه لأحد حق بل ذلك كله منه على سبيل الفضل والكرم والإكرام لأوليائه .

                                                            (السادسة) : وفيه بيان ما اتصف به عليه الصلاة والسلام من الشفقة على أمته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرغبة في كل ما ينفعهم .



                                                            (السابعة) : استدل به المصنف على أن الحاكم يعتمد الظاهر حتى في الحدود فإذا قامت بينة مقبولة بما يقتضي حدا أقامه فلا حرج عليه ولا إثم إذا كانت البينة كاذبة في نفس الأمر إذا لم يعلم هو بكذبها ولم يتحقق خلاف ما شهدت به ؛ لأن القاضي لا يقضي على خلاف علمه كما قد حكى الإجماع على ذلك ، وإن اختلفوا في جواز قضائه بعلمه في غير حدود الله تعالى ، فإن قوله عليه الصلاة والسلام يدخل فيه حد .

                                                            [ ص: 15 ] الحد وجلد التعزير وإنما لا يكون المحدود أهلا للحد إذا كانت البينة عليه بما يقتضي الحد كاذبة في نفس الأمر ، فأما إذا صدقت فهو أهل للحد وإن كانت له أعمال صالحة وفضائل تجبر ما وقع منه فذلك لا ينفي وقوع الحد موقعه ومع كذب البينة إذا لم يعلم الحاكم كذبها لا يلحق الحاكم من ذلك شيء والله أعلم .



                                                            (الثامنة) : وفيه جواز لعن العاصي المعين وقد ذكر النووي أن ظواهر الأحاديث تدل على جوازه وإن كان المشهور في المذهب خلافه .

                                                            (التاسعة) : قوله أو شتمته أو جلدته أو لعنته : بعد قوله آذيته : من ذكر الخاص بعد العام وقوله فاجعلها أي تلك الخصلة .

                                                            (العاشرة) : قوله (صلاة) : أي رحمة كما في الرواية الأخرى والصلاة من الله مفسرة بالرحمة وقوله (وزكاة) : يحتمل أن يراد ترقية لنفسه ويحتمل أن يراد الزيادة في الأجر كما عبر عنها في الرواية الأخرى بالأجر ، و (القربة) : ما يقرب إلى الله تعالى وإلى رضوانه




                                                            الخدمات العلمية