الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد .

                                                            [ ص: 141 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 141 ] (الحديث السابع) وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) اتفق عليه الشيخان من طريق مالك وأخرجه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر والليث بن سعد وأيوب السختياني وأيوب بن موسى كلهم عن نافع عن ابن عمر وأخرجه أبو داود من طريق أبي صالح عن ابن عمر وفيه فقلت لابن عمر .

                                                            (فأربعة) قال : لا يضيرك وأخرجه ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ورواه مالك في الموطإ عن عبد الله بن دينار قال كنت أنا وعبد الله بن عمر عند دار خالد بن عتبة التي بالسوق فجاء رجل يريد أن يناجيه وليس مع عبد الله أحد غيري وغير الرجل الذي يريد أن يناجيه فدعا عبد الله بن عمر برجل آخر حتى كنا أربعة فقال لي وللرجل الذي دعاه : استرخيا شيئا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يتناجى اثنان دون واحد قال ابن عبد البر : هذا من ابن عمر يفسر حديثه ، وقوله : استرخيا معناه اجلسا وتحدثا وانتظرا قليلا وقيل : بل معنى استرخيا واستأخرا سواء .

                                                            (الثانية) قوله إذا كانوا ثلاثة كذا ضبطناه على أن " كان ناقصة ومعها اسمها وخبرها وكذا هو في التمهيد عن الموطإ وكذا في صحيح البخاري ولفظ مسلم إذا كان ثلاثة .

                                                            على أنها تامة بمعنى وجد ، وقوله : ثلاثة ، اسمها وهي مكتفية به .

                                                            (الثالثة) قوله : (فلا يتناجى) كذا ضبطناه بألف مقصورة ثابتة في الخط إلا أنها تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وكذا هو في الصحيحين وحينئذ فلفظه خبر ومعناه النهي واستعمال النهي بلفظ الخبر زيادة تأكيد لقوله عليه الصلاة والسلام لا يبع أحدكم على بيع أخيه وأشباهه ، وذكر أبو العباس القرطبي أن هذا هو المشهور قال : ووقع في بعض النسخ فلا يتناج بغير ألف على النهي وهي واضحة والتناجي التحادث سرا .



                                                            (الرابعة) فيه النهي عن تناجي اثنين دون ثالث [ ص: 142 ] وصرح النووي بأن هذا النهي للتحريم وقيد ذلك بأن يكون بغير رضاه ثم قال بعد ذلك : إلا أن يأذن والإذن أخص من الرضا فقد يعلم رضاه بذلك بقرينة ، وإن لم يأذن صريحا ، وقد يقال : المراد الإذن الصريح أو المفهوم بالقرينة فيستويان ولا يقال : الرضا أخص فإنه قد يأذن بالمحاياة ، وإن لم يرض بباطنه ؛ لأن الرضى أمر خفي لا نطلع عليه والحكم إنما هو منوط بالإذن الدال عليه ، والله أعلم .

                                                            وحكى ابن عبد البر عن سعيد بن المسيب أنه قال : إلا أن يستأذناه ، وقال ابن العربي بيد أنه يجوز له أن يشاوره ؛ لأن ذلك صريح حقه .



                                                            (الخامسة) مفهوم التقييد أنهم لو كانوا أربعة لم يمتنع تناجي اثنين منهم ؛ لأن الاثنين الآخرين متمكنان من التناجي وتقدم ذلك عن ابن عمر من رواية أبي صالح وعبد الله بن دينار وحكى النووي الإجماع على أنه لا بأس به .

                                                            (السادسة) علل ذلك في حديث عبد الله بن مسعود وهو في الصحيحين بقوله حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه وفي رواية فإن ذلك يحزنه وهو بفتح الياء وضمها وقرئ بهما في السبع ، وقال الخطابي إنما قال : يحزنه لأحد معنيين :

                                                            (أحدهما) أنه يتوهم أن نجواهما إنما هي لتبييت رأي أو دسيس غائلة له والمعنى الإحزان ، وذلك من أجل الاختصاص بإكرامه وهو يحزن صاحبه ، وقد ذكر أبو العباس القرطبي هذين المعنيين بتلخيص وأشار إلى الزيادة عليهما فقال : يحزنه أي يقع في نفسه ما يحزن لأجله ، وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره أو أنهم لم يروه أهلا ؛ لأن يشركوه في حديثهم إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان وحديث النفس . انتهى .

                                                            وذكر ابن عبد البر الحديث من طريق ابن شهاب مرسلا وفيه لا تدعوا صاحبكم نجيا للشيطان وقال : قوله : نجيا للشيطان ، يريد لأنه يوسوس في صدره من جهتهما ما يحزنه .



                                                            (السابعة) قال الماوردي : وكذلك الجماعة عندنا لا يتناجون دون واحد لوجود العلة ؛ لأنه قد يقع في نفسه أن الحديث عنه بما يكره أو أنهم لم يروه أهلا لاطلاعه على ما هم عليه ويجوز إذا شاركه غيره ؛ لأنه يزول الحزن عنه بالمشاركة ، وكذا قال أبو بكر بن العربي فإن كانوا أربعة فقد نص علماؤنا على أنه لا يتناجى ثلاثة دون واحد وتبعهما النووي فقال : وكذا ثلاثة وأكثر بحضرة واحد ، وكذا قال أبو العباس القرطبي [ ص: 143 ] يستوي في ذلك كل الأعداد فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا لوجود ذلك المعنى في حقه بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع فيكون بالمنع وإنما خص الثلاثة بالذكر ؛ لأنه أول عدد يتأتى فيه ذلك المعنى .



                                                            (الثامنة) ظاهره أنه لا فرق في ذلك بين الحضر والسفر وبه قال الجمهور ، وحكى القاضي عياض حمله على عمومه عن ابن عمر ومالك وجماعة من العلماء ، وحكاه النووي عن ابن عمر ومالك وأصحابنا وجماهير العلماء ، قال الخطابي وسمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي عبيد بن حربويه أنه قال : هذا في السفر في الموضع الذي لا يأمن الرجل فيه صاحبه على نفسه فأما في الحضر وبين ظهراني العمارة فلا بأس به ، وعبر القاضي عياض عن هذا بقوله وقيل : إن المراد بهذا الحديث في السفر وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه ولا يعرفه ولا يثق به ويخشى غدره . انتهى .

                                                            فعطف قوله في المواضع على السفر بالواو فاقتضى أنه غيره ثم قال وقد روي في ذلك أثر وفيه زيادة بأرض فلاة وأشار بذلك إلى ما رواه ابن عبد البر في التمهيد من طريق أبي سالم الجيشاني عن عبد الله بن عمر وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن يتناجى اثنان دون صاحبهما ثم قال القاضي عياض وقيل : كان هذا في أول الإسلام فلما فشا الإسلام وأمن الناس سقط هذا الحكم وذلك ما كان يفعله المنافقون بحضرة المؤمنين قال الله تعالى إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا الآية ، وقال أبو العباس القرطبي : كل ذلك تحكم وتخصيص لا دليل عليه والصحيح ما صار إليه الجمهور والله أعلم .

                                                            وقال ابن العربي بعد نقله التخصيص بالسفر حيث يخاف عن جماعة هذا خبر عام اللفظ والمعنى والعلة الحزن وذلك موجود في الموضعين فوجب أن يعمهما النهي جميعا .



                                                            (التاسعة) محل النهي عن تناجي اثنين دون ثالث إذا كان ذلك الثالث معهما في ابتداء النجوى ، فأما إذا انفرد اثنان فتناجيا ثم جاء ثالث في أثناء تناجيهما فليس عليهما قطع التناجي بل جاء في حديث منعه من الدخول معهما حتى يستأذنهما رواه ابن عبد البر في التمهيد من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري قال : جئت ابن عمر [ ص: 144 ] وهو يناجي رجلا فجلست إليه فدفع في صدري وقال : مالك أما سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا تناجى اثنان فلا يدخل معهما غيرهما حتى يستأذنهما قال ابن عبد البر هذا معنى غير المعنى الذي قبله فلا يجوز للثلاثة أن يتناجى منهم اثنان دون الثالث ولا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما . انتهى .

                                                            (قلت) يحتمل أن يكون معنى الحديث نهيه عن الدخول في الموضع الذي هما فيه ، ويحتمل وهو أظهر أن معناه نهيه عن الدخول معهما في التناجي والسر وأما قعوده في ذلك المكان متباعدا عنهما بحيث لا يسمع سرهما فأي مانع منه وقد يقال لما افتتحا الإخفاء بسرهما من غير حضور أحد دل على أن مرادهما الانفراد ، وقد يكون في صوت الإنسان جهورية تمنعه الإخفاء من حاضري مجلسه وقد يكون في بعض الناس ذكاء يفهم به ما يسار به بسماع لفظة منه ، يستدل بها على ما خفي عنه وقد يقال في جلوسه من القبح التصور بصورة النهي في تناجي اثنين دون ثالث ، وقد لا يعلم من يراهم كذلك أن الثالث طارئ عليهم فالاحتراز عن ذلك أولى ، والله أعلم .



                                                            (العاشرة) هل يشترط في زوال النهي بحضور رابع أن يكون رفيقا لهم أو لا يشترط ذلك بل لو كان الثلاثة منفردين فاختلطوا بالناس زال النهي لإمكان تحديث الآخر مع بعض الناس ، وإن لم يكن رفيقا له ومقتضى قوله في حديث ابن مسعود حتى يختلطوا بالناس وهو في الصحيحين يقتضي الثاني والمعنى يساعد على الأول فإن تخيله أن ذلك لمكروه يدبر له أو لعدم تأهيله للكلام معه لا يزول بكلامه من غير رفيقه ولكن اتباع مقتضى الحديث أولى ، والله أعلم .



                                                            (الحادية عشرة) فيه جواز التناجي في الجملة ، وقال أبو بكر بن العربي من حسن المعاشرة عدم المناجاة ومناجاة الرجل دون الرجل شغل لباله ولو كانوا في ألف بيد أنه لما كان أمرا محتاجا إليه ، وكان أصله في الشرع أن يكون لحاجة ولما قال الله من مصلحة كالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس فمن الحق أن يصون الرجل مروءته ودينه فلا يتناجى إلا في أربعة أحوال إما في حاجة له أو في الثلاثة المذكورات في كتاب الله . انتهى . .




                                                            الخدمات العلمية