الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            وقد ورد في الحديث المرفوع من استعمال ما نحن فيه وكفى به حجة

            أخرج الترمذي ، وحسنه عن أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " ، وقد سبقني إلى الاحتجاج بهذا الحديث على التمثل بنظم القرآن الحافظ أبو بكر بن مردويه ، حيث أورد هذا الحديث في تفسيره عند قوله تعالى في آخر سورة الأنفال : ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، وأخرجه أيضا من حديث أبي هريرة ، وفيه حجة لأمر آخر ، وهو أنه يجوز تغيير بعض النظم بإبدال كلمة بأخرى ، وبزيادة ونقص ، كما يفعله أهل الإنشاء كثيرا ؛ لأنه لا يقصد به التلاوة ، ولا القراءة ، ولا إيراد النظم على أنه قرآن .

            ومن الأحاديث التي يستدل بها لجواز ذلك ما أخرجه مالك ، وابن أبي شيبة ، والبخاري ، ومسلم عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر ، فجاءها ليلا ، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم ، فلما رأوه قالوا : محمد والله ، محمد والخميس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " .

            [ ص: 309 ] قال بعضهم : هذا الحديث من أدلة الاقتباس ، وقال ابن عبد البر في التمهيد : في هذا الحديث جواز الاستشهاد بالقرآن فيما يحسن ويجمل ، وذكر ابن رشيق مثله في شرح الموطأ - وهما مالكيان - وقال النووي في شرح مسلم : في الحديث جواز الاستشهاد في مثل هذا السياق بالقرآن في الأمور المحققة ، وقد جاء لهذا نظائر كثيرة ، كما ورد في فتح مكة : " أنه صلى الله عليه وسلم جعل يطعن في الأصنام ، ويقول : " جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد جاء الحق وزهق الباطل " ، قالوا : وإنما يكره ضرب الأمثال من القرآن في المزح ولغو الحديث فيكره .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين ، وقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة : عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح - فذكر الحديث - إلى أن قال : وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان ، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، بايع عبد الله ، فرفع رأسه ، فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى ، فبايعه بعد الثلاث ، ثم أقبل على أصحابه ، فقال : " أما فيكم رجل رشيد ، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله " .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا " .

            وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : كتب أبي في وصيته : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا ، حين يؤمن الكافر ، ويتقي الفاجر ، ويصدق الكاذب ، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه ، وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب ، فتلا : ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن بكرة قال : لما انتهى الربيع بن خيثم إلى مسجد قومه قالوا له : يا ربيع ، لو قعدت لتحدثنا اليوم فقعد ، فجاء حجر فشجه ، فقال : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال : آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك . وأخرج البخاري عن هذيل بن شرحبيل قال : سئل أبو موسى عن ابنة ، وابنة ابن ، وأخت قال : للابنة النصف ، وللأخت النصف ، وائت ابن مسعود فسيتابعني ، فسئل ابن مسعود ، وأخبر بقول أبي موسى فقال : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين .

            وأخرج ابن سعد في [ ص: 310 ] طبقاته عن فروة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود : إن معاذ بن جبل كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، فقلت : غلط أبو عبد الرحمن إنما قال الله : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) ، فقلت : إنه تعمد الأمر تعمدا ، فسكت ، فقال : أتدري ما الأمة ، وما القانت ؟ قلت : الله أعلم ، فقال : الأمة . الذي يعلم الناس الخير ، والقانت : المطيع لله ولرسوله ، وكذلك كان معاذ ، كان يعلم الناس الخير ، وكان مطيعا لله ولرسوله .

            وأخرج ابن سعد عن مسروق قال : كنا عند ابن مسعود ، فقال : إن معاذ بن جبل كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، فقال فروة بن نوفل : نسي أبو عبد الرحمن إبراهيم - يعني قال : وهل سمعتني ذكرت إبراهيم ؟ الأمة : الذي يعلم الناس الخير ، والقانت : الذي يطيع الله ورسوله .

            وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن عن عبد الله بن مسعود أنه أتى مكة ، فمر بأعرابي وهو يصلي ، وهو يقول : نحج بيت ربنا في كلام له ، فقال عبد الله : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق .

            وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم عن ابن أبي ليلى الكندي قال : أشرف عثمان على الناس من داره ، وقد أحاطوا به ، فقال : يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ، يا قوم لا تقتلوني إنكم إن تقتلوني كنتم هكذا وشبك بين أصابعه .

            وأخرج الشافعي في الأم عن عروة قال : كان أبو حذيفة بن اليمان شيخا كبيرا ، فخرج يوم أحد يتعرض للشهادة ، فابتدره المسلمون فتواشقوه بأسيافهم ، وحذيفة يقول : أبي أبي فلا يسمعونه من شغل الحرب حتى قتلوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم فيه بديته .

            وأخرج الشافعي عن المطلب بن حنطب أنه طلق امرأته البتة ، ثم أتى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له ، فقال : ما حملك على ذلك ؟ فقال : قد فعلت . قال فقرأ : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) أمسك عليك امرأتك فإن الواحدة ثبت .

            وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن هشام بن عروة قال : أتى عمر بن عبد العزيز بقوم قعدوا على شراب ، معهم رجل صائم فضربه ، وقال : لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن أم راشد قالت : كنت عند أم هانئ ، فسمعت رجلين يقولان : بايعته أيدينا ، ولم تبايعه قلوبنا ، فذكرت ذلك [ ص: 311 ] لعلي ، فقال علي : ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب قال : من أدرك ذلك الزمان فلا يطعنن برمح ، ولا يضرب بسيف ، ولا يرم بحجر ، واصبر إن العاقبة للمتقين .

            وأخرج الزجاجي في أماليه عن جويرية بنت أسماء قال : قدم عمر بن الخطاب مكة ، فوضع الدرة بين أذني أبي سفيان ، وضرب رأسه ، فجاءت هند فقالت : أتضربه فوالله لرب يوم لو ضربته لاقشعر بك بطن مكة ، فقال عمر : أجل والله جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .

            وأخرج ابن عساكر عن محمد بن عبد الملك قال : سمع عبد الله بن مسعود أعرابيا ينادي بالصلاة ، فأتاه ابن مسعود فقرأ بأم القرآن ، ثم قال : نحج بيت ربنا ونقضي الدين ، وهن يهوين بنا بخطرات يهوين قال ابن مسعود : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق .

            وأخرج الطبراني من طريق قتادة عن أنس ، عن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صبح خيبر تلا هذه الآية : إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين .

            وأخرج ابن سعد في طبقاته عن عمرو بن ميمون قال : رأيت عمر بن الخطاب لما طعن عليه ملحفة صفراء قد وضعها على جرحه وهو يقول : وكان أمر الله قدرا مقدورا .

            وأخرج ابن سعد عن عمرو بن ميمون أن عمر لما طعن دخل عليه كعب فقال : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين قد أنبأتك أنك شهيد ، فقلت : من أين لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب ؟ .

            وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن رافع قال : طعن ابنا معاذ بن جبل فقال معاذ : كيف تجدانكما ؟ قالا : يا أبانا ، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين قال : وأنا ستجداني إن شاء الله من الصابرين .

            وأخرج ابن سعد ، وابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر قال : قال علي بن أبي طالب للحسن : قم فاخطب الناس يا حسن ، قال : إني أهابك أن أخطب وأنا أراك . فتغيب عنه حيث يسمع كلامه ولا يراه ، فقام الحسن فخطب ، ثم نزل ، فقال علي : ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .

            وأخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم أن أبا موسى الأشعري ، وعمرو بن العاص تكلما ، فقال أبو موسى لعمرو : إنما مثلك كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، فقال له عمرو : إنما مثلك مثل الحمار يحمل أسفارا .

            وأخرج ابن سعد عن ابن [ ص: 312 ] أبي مليكة قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول لعبيد بن عمير : كيف أنت يا ليثي ؟ قال : بخير على ظهور عدونا علينا ، فقال جابر : ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين . وأخرج أحمد في مسنده عن سلمان الفارسي أنه قيل له : ما كان بينك وبين حذيفة ؟ قال : وكان الإنسان عجولا .

            وأخرج أحمد عن أبي الدرداء أنه بلغه أن أبا ذر أخرج إلى الربذة ، فاسترجع قريبا من عشر مرات ، ثم قال : فارتقبهم واصطبر كما قيل لأصحاب الناقة : اللهم إن كذبوا أبا ذر فإني لا أكذبه ، وإن اتهموه فإني لا أتهمه ، والذي نفسي بيده لو أن أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر " .

            وأخرج ابن سعد عن عمارة بن أبي حفصة أن عمر بن عبد العزيز قيل له في مرضه : من توصي بأهلك ؟ فقال : إن وليي فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين .

            وأخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة عن هبيرة بن خزيمة قال : قال الربيع بن خيثم حين قتل الحسين : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن أبي مليكة قال : قال ابن الزبير لعبيد بن عمير : كلم هؤلاء - لأهل الشام - رجاء أن يردهم ذاك ، فسمع ذلك الحجاج ، فأرسل إليهم ارفعوا أصواتكم فلا تسمعوا منه شيئا ، فقال عبيد : ويحكم لا تكونوا كالذين قالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي يعلى قال : كان الربيع بن خيثم إذا مر بالمجلس يقول : قولوا خيرا ، افعلوا خيرا ، وداوموا على صالحة ، ولا تقسوا قلوبكم ، ولا يتطاول عليكم الأمد ، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن مسروق أنه قدم فأتاه أهل الكوفة ، وناس من التجار ، فجعلوا يثنون عليه ، ويقولون : جزاك الله خيرا ، ما كان أعفك عن أموالنا ، فقرأ هذه الآية : ( أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ) وكان يقرأها كذلك .

            وأخرج أبو نعيم في الحلية عن قتادة أن عبد الله بن غالب كان يقص في المسجد الجامع ، فمر عليه الحسن ، فقال : يا عبد الله ، لقد شققت على أصحابك ، فقال : ما أرى [ ص: 213 ] عيونهم انفقأت ، ولا أرى ظهورهم اندقت ، والله يأمرنا يا حسن أن نذكره كثيرا ، وتأمرنا أن نذكره قليلا ، كلا لا تطعه واسجد واقترب ، فقال الحسن : والله ما أدري أسجد أم لا ؟ .

            وأخرج أبو نعيم عن عون العبدي أن الحجاج لما أمر بقتل سعيد بن جبير قال سعيد بن جبير : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، فقال الحجاج : شدوا به لغير القبلة ، فقال سعيد : فأينما تولوا فثم وجه الله ، فقال الحجاج : كبوه لوجهه ، فقال سعيد : منها خلقناكم وفيها نعيدكم .

            وأخرج أبو نعيم عن سالم بن أبي حفصة قال : لما أتى سعيد بن جبير الحجاج قال : لأقتلنك ، قال : دعوني أصلي ركعتين ، قال : وجهوه إلى قبلة النصارى ، قال : أينما تولوا فثم وجه الله ، إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الكريم قال : كان عمر بن عبد العزيز إذا دخل بيتا قال : بسم الله ، والحمد لله ، ولا قوة إلا بالله ، والسلام على نبي الله ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا .

            وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن واسع قال : قدمت من مكة فانطلق بي إلى مروان ابن المهلب - وهو أمير على البصرة - فرحب بي فقلت : إن استطعت أن تكون كما قال أخو بني عدي ، قال : ومن أخو بني عدي ؟ قلت : العلاء بن زياد استعمل صديقا له مرة على عمل ، فكتب إليه أما بعد : فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف ، وبطنك خميص ، وكفك تقية من دماء المسلمين وأموالهم ، فإنك إذا فعلت ذلك لم يكن عليك سبيل ، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ، قال مروان : صدق والله ونصح .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية