الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الحالة بعد القرن الرابع

              أما بعد القرن الرابع فقد تغيرت الحال ولندع حجة الإسلام الغزالي (توفي: 505هـ) يصف لنا ذلك حيث يقول: (اعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله تعالى، فقهاء في أحكامه، وكانوا مشتغلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا في وقائع لا يستغني فيها عن المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة، وتجردوا لها وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم، فلما أفضت الخلافة من بعدهم (أي الخلفاء) إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هـو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هـربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء، وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبوا لطلب العلم توصلا إلى نيل العز، ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبوا على الفتاوى، وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من [ ص: 139 ] حرم، ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب، ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طلبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم، إلا من وفقه الله تعالى في عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجات إليها في الولايات والحكومات. ثم صدر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقلات الناس في قواعد العقائد، والمجادلة في الكلام، فأكب الناس على علم الكلام [1] ، وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله، والنضال عن السنة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى: الدين، وتقلد أحكام المسلمين إشفاقا على خلق الله، ونصيحة لهم، ثم ظهر بعد ذلك من لم يستصوب الخوض في الكلام، وفتح باب المناظرة فيه، لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة، والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة، رضي الله عنهما ، على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك [ ص: 140 ] وسفيان وأحمد [2] رحمهم الله تعالى وغيرهم، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون عليه إلى الآن، وليس ندري ما الذي يحدث الله فيما بعدنا من الأعصار، فهذا هـو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة وإلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضا معهم ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هـو علم الدين، وأن لا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين [3] .

              ومن استقراء الأفكار في النص نجد أن:

              1 - الإمام الغزالي رحمه الله قد وضع يده هـذه الكلمات على الداء الحقيقي الذي أصاب الأمة نتيجة ذلك الفصام النكد الذي وقع بعد الأئمة الراشدين بين القيادتين: الفكرية والسياسية، فدمغ تاريخنا بتلك السمة التي لم نزل نعاني منها، حيث وجدت ممارسات سياسية غير إسلامية، نجمت عن جهل الساسة بالسياسة الشرعية الإسلامية ... لدينا فقه نظري افتراضي لا مساس له بقضايا الناس، ولا يعالج مشكلاتهم اليومية بالطريقة العملية نفسها التي كانت تعالج فيها تلك القضايا على عهد [ ص: 141 ] الصحابة والتابعين، فمعظم القضايا الفقهية، وكثير من المسائل الأصولية ليست إلا أمورا افتراضية ولدتها المناظرات والمجادلات والقضايا الخلافية.

              2 - تحول الفقه، بعد تلك الممارسات الخاطئة، من وسيلة لضبط حياة الناس ووقائعها بضوابط الشريعة إلى وسيلة لتبرير الواقع المطلوب، أيا كان ذلك الواقع، فأورث ذلك الحياة التشريعية لدى المسلمين نوعا من القلق الغريب كثيرا ما جعل الأمر الواحد من الشخص الواحد في زمن واحد في زمن واحد ومكان واحد حلالا عند هـذا الأصول الفقهية، وباب واسع من أبواب الفقه عرف بباب (المخارج والحيل ) [4]

              وأصبح إتقان هـذا الباب والمهارة فيه [ ص: 142 ] دليلا على سعة فقه الفقيه ونبوغه وتفوقه على سواه، وكلما تقدم الوقت وضعف سلطان الدين على أهله تفاقم هـذا الأمر وتساهل الناس في أمر الشرع حتى وصل الأمر لدى بعض القائمين على الفتاوى أنهم أخذوا يفتون بما لا دليل عليه، ولا يعتقدون صحته زعما منهم أن في ذلك تخفيفا على الناس أو تشديدا يضمن عدم تجاوز الحدود كأن يرخص بعضهم لبعض الحكام بما لا يرخص فيه لعموم الخلق

              [5] .

              وقد يسال أحدهم عن الوضوء من لمس المرأة، ومس الذكر فيقول: لا ينتقض به الوضوء عند أبي حنيفة .

              وإذا سئل عن لعب الشطرنج وأكل لحوم الخيل قال: حلال عند الشافعي .

              وإذا سئل عن تعذيب المتهم، أو مجاوزة الحد في التعزيرات قال: أجاز ذلك مالك .

              وإذا أراد أن يحتال لأحد في بيع وقف إذا تخرب وتعطلت منفعته، ولم يكن لمتوليه ما يعمره به أفتاه بجواز ذلك على مذهب أحمد ؛ حتى [ ص: 143 ] أصبحت أوقاف المسلمين تتحول من الوقف إلى الملك الخاص في كل مجموعة من السنين [6] .

              وهكذا ضاعت مقاصد الشرع بضياع تقوى الله، وأهملت قواعده الكلية، حتى بلغ الأمر بسفهاء الشعراء وغواتهم ومجانهم حد التندر بأحكام الله كأن يقول أبو نواس :

              أباح العراقي النبيـذ وشربه وقال حرامان المدامة والسكر وقال الحجازي الشرابان واحد     
              فحلت لنا من بين قوليهما الخمر سآخذ من قوليهما طرفيهما     
              وأشربها لأفارق الوازر الوزر لقد هـان الرجال الذين يحمون بيضة الدين، فهان على الناس دينهم حتى غدا تجاوز الحدود أمرا يقبل عليه الناس بحجة التيسير، فصار ذلك شأن بعض المفتين من الذين هـدموا جدار الهيبة وأباحوا لأنفسهم الإفتاء بما يستجيب لهوى النفوس، قابلهم فريق تصلب وتشدد، وحاول أن يبحث عن أغلظ الأقوال وأشدها ليفتي من يستفتيه، ظنا منه أنه في هـذا يخدم الإسلام، ويرد الناس إلى الأخذ بعزائمه، ولكن الأمر ليس كذلك، النتيجة لم تكن - دائما - كما توقعوا إذ كثيرا ما يحدث العكس فتنفر العامة من الشرع، وتأبى الانقياد له، وترى فيه العسر بدل اليسر، كما في قصة الملك الأندلسي الذي سأل المفتي المالكي يحيى بن يحيى [7]

              عما يجب عليه أن يفعله كفارة لوقاعه في نهار رمضان، فأجابه [ ص: 144 ] بأن عليه صيام شهرين متتابعين لا يجزئه غيرهما. وكان عليه أن يفتيه بالعتق أولا، ولما سئل عن ذلك قال: إنه يستطيع أن يعتق مئات الرقاب فلا بد من أخذه بالأشق وهو الصيام، ولو احتكامه استجابة ذاتية فطرية طوعية بلا عنت ولا مشقة، وفي الوقت نفسه لا يدع الناس أحرارا يمتطون مراكب الهوى، لو فعلنا ذلك لتبين لنا أن كلا الطرفين كان مخطئا وأن كلا منهما قد تجاوز ما قصده الشارع الحكيم.

              إن مهمة العالم هـي تبليغ رسالة الله تعالى للناس كما أنزلها الله في كتبه، وكما أرسل بها رسله، وليس له أمر التشديد أو التخفيف.

              ( قل أتعلمون الله بدينكم ... ) (الحجرات : 16)

              ( ... قل أأنتم أعلم أم الله ) (البقرة: 140) والعبرة بالاتباع فما جاوزه ابتداع سواء أكان في جانب التشديد أم التخفيف.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية