الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              بين ابن عباس وزيد بن ثابت

              وحتى نتلمس المزيد من أدب الاختلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم نعرض القضايا الخلافية، فنقول: كان ابن عباس رضي الله عنهما يذهب كالصديق وكثير من الصحابة إلى أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات في المواريث كالأب، وكان زيد بن ثابت كعلي وابن مسعود وفريق آخر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يذهب إلى توريث الإخوة مع الجد ولا يحجبهم به، " فقال ابن عباس يوما: ألا يتقي الله زيد ، يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا!: وقال: لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع، فنضع أيدينا على الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين... " [1] .

              تلك أمثلة من اختلافات الصحابة الفقهية، نوردها لا لنعمق الهوة ونؤصل الاختلاف بل لتنحصر ضالتنا في استقراء آداب نلتقي عليها في حل خلافاتنا الفقهية حتى يغدو أسلوب حياة لنا في تعاملنا مع الناس.

              " إن ابن عباس رضي الله عنهما الذي بلغت ثقته بصحة اجتهاده وخطأ اجتهاد زيد هـذا الحد الذي رأيناه، رأى زيد بن ثابت يوما يركب دابته فأخذ بركابه يقود به، فقال زيد: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيقول ابن عباس: هـكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا. فقال زيد: أرني

              " [ ص: 67 ] " يدك. فأخرج ابن عباس يده، فقبلها زيد وقال: هـكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا. " [2]

              . " وحين توفي زيد قال ابن عباس : (هكذا يذهب العلم " [3]

              وفي رواية البيهقي في سننه الكبرى (هكذا ذهاب العلم، لقد دفن اليوم علم كثير ) [4]

              . وكان عمر رضي الله عنه يدعو ابن عباس للمعضلات من المسائل مع شيوخ المهاجرين والأنصار من البدريين وغيرهم [5] .

              والحق لو أننا حاولنا تتبع القضايا الخلافية بين الصحابة في مسائل الفقه، وسلوكهم في عرض مذاهبهم لسودنا في ذلك كتبا، وهذا ليس مبتغانا هـنا إنما نورد نماذج - فقط - نستشف منها الآداب التي تربى عليها جيل الصحابة رضوان الله عليهم، لتدل على مدى التزامهم بأدب الاختلاف في الظروف كلها.

              وحين جرى الكتاب بما سبق في علم الله، ووقعت الفتن الكبرى، وحدث ما حدث بين الصحابة - لأمور الله وحده العالم بكل أسبابها، والمحيط بسائر عواملها - حين حدث ذلك ووقع السيف بينهم ما نسي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضائل أهل الفضل منهم، ولا أنستهم الأحداث الجسام والفتن العظام مناقب أهل المناقب منهم، فهذا أمير المؤمنين [ ص: 68 ] علي رضي الله عنه يقول عنه مروان بن الحكم : (ما رأيت أحدا أكرم غلبة من علي ما هـو إلا ولينا يوم الجمل فنادى مناديه... ولا يذفف - أي يجهز - على جريح ) [6] .

              " ويدخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه ، بعدما فرغ من معركة الجمل ، فيرحب به ويدنيه ويقول: (إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله عز وجل فيهم: ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) [الحجر: 47]. ثم أخذ يسأله عن أهل بيت طلحة فردا فردا وعن غلمانه وعن أمهات أولاده... يا ابن أخي كيف فلانة؟ كيف فلانة؟ ويستغرب بعض الحاضرين ممن لم يحظوا بشرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يدركوا ماذا يعني أن يكون الإنسان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول رجلان جالسان على ناحية البساط: الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس وتكونون إخوانا في الجنة؟ فيغضب الإمام علي، ويقول للقائلين: ) قوما أبعد أرض الله وأسحقها فمن هـو إذا إن لم أكن أنا وطلحة، فمن إذن؟! " )

              [7] .

              " ويسأل بعضهم أمير المؤمنين عليا عن (أهل الجمل ) أمشركون هـم؟ فيقول رضي الله عنه : من الشرك فروا.

              قال: أمنافقون هـم؟ فيقول رضي الله عنه : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا.

              فيقال: فمن هـم إذن؟ فيقول كرم الله وجهه: إخواننا بغوا علينا " [8] . [ ص: 69 ]

              " وينال أحدهم من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بمحضر من عمار بن ياسر الذي كان على غير موقفها يوم الجمل - كما هـو معروف - فيقول رضي الله عنه : (اسكت مقبوحا منبوحا، أتؤذي محبوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشهد أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة؟ لقد سارت أمنا عائشة رضي الله عنها مسيرها وإنا لنعلم أنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلانا بها ليعلم إياه نطيع أو إياها. " [9] .

              أي أدب بعد هـذا ينتظر صدوره من رجال قضت مشيئة الله أن تتلاقى رماحهم، لكن النور الذي استقوه من مشكاة النبوة ظل ينير قلوبا عجزت الإحن أن تغشاها، ففاضت بمثل هـذا الأدب في الاختلاف، وحمدا لله فما كان الله جل شأنه ليجمع في رجال عصور الخير الاختلاف ومجانفة الأدب.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية