الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[2] هـدف الإنتاج

إذا كان الإسلام يلتقي مع سائر المذاهب الأخرى في جعل مبدأ تنمية الإنتاج هـدفا أساسيا للمجتمع، فإنه يختلف مع هـذه المذاهب في مواجهة التفصيلات وطريقة التفكير، تبعا لاختلافه مع قواعد هـذه المذاهب وإطارها الحضاري، ومفاهيمها عن الكون والحياة والمجتمع.

فهناك اختلاف بين تلك المذاهب في الهدف الأصيل من تنمية الثروة، ودورها في حياة الإنسان، فالسؤال لماذا ننتج؟ وما هـو دور الثروة ووظيفتها؟ يجيب على ذلك كل مذهب بطريقته الخاصة، وفقا لأساسه الفكري والنظرية التي يتبناها.

فعندما نحاول تحديد الأساس الفكري للتنمية الاقتصادية، لا يمكن أن نفصل المنهج الإنمائي -بوصفه جزءا من نموذج حضاري كامل- عن الحضارة التي ينتمي إليها، ومفاهيمها عن الحياة والكون والإنسان.

ففي الحضارة المادية -التي تعتبر الرأسمالية تعبيرا عن واجهتها الاقتصادية- تعتبر تنمية الثروة من أجل الثروة هـدفا أصيلا، وغاية أساسية، لأن المادة هـي كل شيء حسب المقاييس التي يسير عليها إنسان هـذه الحضارة في حياته، فهو لا يرى غاية وراءها، ولهذا يسعى إلى تنمية الثروة من أجل الثروة نفسها، وتحقيقا لأكبر قدر من الرخاء المادي. [ ص: 51 ]

كما أن الرأسمالية تنظر إلى تنمية الثروة بوضعها الكلي، وبشكل منفصل عن مدى تحقيق أي نوع من العدالة الاجتماعية، فهي ترى أن هـدف التنمية يتحقق إذا زاد مجموع ثروة المجتمع بقطع النظر عن مدى انتشار هـذه الثروة وتوزعها في المجتمع، وعن نصيب أفراده من اليسر والرخاء الذي توفره.

وهذا المفهوم ينبني على أساس نظرة الرأسمالية إلى المشكلة الاقتصادية، ذلك أن هـذه المشكلة ترتبط في التفكير الرأسمالي بندرة الموارد، وعدم سخاء الطبيعة، وإحجامها عن تلبية كل الطلبات، ولأجل هـذا كان علاج المشكلة مرتبطا بتنمية الإنتاج واستغلال قوى الطبيعة إلى أبعد حد، بالعمل على الصراع معها، وإخضاعها للإنسان.

ويعتمد المذهب الرأسمالي في توجيه الإنتاج على جهاز الثمن الذي تحدده قوانين العرض والطلب في السوق الحرة، لأن الاقتصاد الرأسمالي الحر يقوم على أساس المشاريع الخاصة التي يديرها الأفراد، وتخضع لإرادتهم، وكل واحد من هـؤلاء يدير مشروعه، ويخطط لإنتاجه، وفقا لمصلحته ورغبته في تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح، فحاسة الربح هـي التي تكيف لدى كل فرد إنتاجه وتوجه نشاطه، والربح يتبع حركة الثمن في السوق، فكلما طلع صاحب المشروع على ارتفاع ثمن سلعة، اتجه إلى إنتاجها بقدر كبير، أملا في الحصول على الوفير من الربح، ومن الواضح أن ارتفاع ثمن السلعة في السوق، يعكس في [ ص: 52 ] الظروف العادية زيادة الطلب عليها، وبهذا تضمن الرأسمالية ربط الإنتاج بالطلب، لأن الربح هـو الذي يحرك الإنتاج، وارتفاع الثمن هـو الذي يغري المشاريع الرأسمالية بالربح، وزيادة الطلب هـي التي تؤدي إلى ارتفاع الثمن، فيكون الإنتاج موجها في النهاية من قبل المستهلكين، ومكيفا طبقا لحاجتهم التي تعبر عن نفسها في زيادة الطلب وارتفاع الثمن. وعلى هـذا الأساس تحدد الرأسمالية هـدف الإنتاج باعتباره لأجل المستهلكين وحاجاتهم، ويتناسب طرديا أو عكسيا مع هـذه الحاجات.

إن هـذه الصورة بالرغم من صوابها جزئيا، لا يمكن أن تخفي التناقض الصارخ الذي يعرفه النظام الرأسمالي بين الإنتاج والطلب، فهي تشرح الترابط في تسلسل متعدد الحلقات بين الإنتاج والطلب، ولكنها لا تحدد مدلول هـذا الطلب، ولا تكشف عن مفهوم الرأسمالية والآثار المخربة للتجمعات الاحتكارية على قانون الإنتاج والطلب.

والواقع أن الطلب في المفهوم الرأسمالي هـو تعبير نقدي أكثر منه تعبيرا بشريا عن حاجة من الحاجات، لأنه لا يشمل إلا قسما من الطلب، وهو ذلك الطلب الذي يؤدي إلى ارتفاع ثمن السلعة في السوق، أي الطلبات التي تتمتع بالقوى الشرائية، وتمتلك رصيدا نقديا قادرا على إشباعها، أما تلك الطلبات المجردة من تلك القوة الشرائية فنصيبها الإهمال مهما كانت ملحة وضرورية، ومهما عمت واستوعبت؛ لأن الطلب لا بد أن يبرهن عليه الطالب بالنقد الذي يقدمه، وما لم يقدم هـذا البرهان فلا حق [ ص: 53 ] له في توجيه الإنتاج، ولا كلمة له في الحياة الاقتصادية الرأسمالية ، وإن نبع هـذا الطلب من صميم الواقع البشري وضروراته الملحة.

فالقوة الشرائية في المجتمع الرأسمالي تتوفر بدرجات عالية في القلة المحظوظة التي تسيطر على ثروات البلاد، وتنخفض لدى غيرهم. ولما كانت الطلبات التي تتمتع بالقوة الشرائية الضخمة قادرة على جلب كل السلع الضرورية والكمالية، وأدوات اللهو ووسائل الترف من السوق الرأسمالية بينما تعجز الطلبات الفقيرة على جلب السلع الضرورية بصورة كاملة، فسوف يؤدي إلى اتجاه المشاريع الرأسمالية بكل طاقاتها إلى إشباع تلك الطلبات المترفة والرغبات النهمة، التي لا تكف عن التفنن في إشباع نهمها، وتطلب الجديد تلو الجديد من أدوات البطر، ووسائل المتعة واللذة، وتبقى طلبات الكثرة الغالبة من الناس على السلع الضرورية قائمة دون أن تلقى عناية من المنتج الرأسمالي، بينما تفتقد أحيانا الكمية الكافية من السلع الضرورية التي تستطيع أن تشبع حاجات المجتمع إشباعا كاملا، وهذا الوضع ينطبق خصوصا على المجتمعات المتخلفة -ومن بينها مجتمعات المسلمين- حيث القوة الشرائية لعموم الناس في مستوى أدنى.

أما الإسلام فموقفه مختلف في ذلك كله، فهو لا يرى أن نمو الثروة هـو الهدف الأصيل، وإن كان يدخل ضمن أهدافه، ولا ينظر الإسلام إلى [ ص: 54 ] نمو الثروة بشكل منفصل عن طريقة توزيعها، وعن مدى تحقيقها للعدالة الاجتماعية، ذلك أن الإسلام يربط تنمية الثروة -كهدف- بطريقة توزيعها، ومدى ما يحققه نمو الثروة لأفراد الأمة من يسر ورخاء، وما يوفره لهم من الشروط التي تمكنهم من الانطلاق في مواهبهم وتحقيق رسالتهم في الحياة.

أما حين تنمو الثروة بشكل منفصل عن حياة الناس، ويكون الجمهور في خدمة الإنتاج لا الإنتاج في خدمته، فسوف تكتسب الثروة نوعا من الصنمية وتصبح هـدف غاية لا هـدف طريق.

ومن ناحية أخرى فإن الإسلام يحتم على الإنتاج الاجتماعي أن يوفر إشباع الحاجات الضرورية لجميع أفراد المجتمع، بإنتاج كمية من السلع القادرة على إشباع تلك الحاجات الحياتية بدرجة من الكفاية التي تسمح لكل فرد بتناول حاجته الضرورية منها، وما لم يتوفر مستوى الكفاية والحد الأدنى من السلع الضرورية، فلا يجوز توجيه الطاقات القادرة على توفير ذلك إلى حقل آخر من حقول الإنتاج، فالحاجة نفسها في نظر الإسلام ذات دور إيجابي في حركة الإنتاج بقطع النظر على القدرة الاقتصادية ورصيدها النقدي.

ويمكن القول: إن هـذه الحاجات الضرورية -من خلال الأوضاع التي تعيشها أغلبية السكان في العالم الإسلامي- هـي الغذاء والكساء والسكن ومياه الشرب النقية، والأدوات المنزلية الضرورية، والمواصلات المريحة، وخدمات الصحة والتعليم والثقافة.. إلخ. [ ص: 55 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية