الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[6] الكفاية

لا يكتفي الإسلام بمبدأ المسئولية الذي عرضنا له، وإنما يريد أن تكون تلك المسئولية مطلقة وشاملة، بحيث تحقق الكفاية لجميع الناس؛ لأن الغاية الرئيسة من تلك المسئولية ليست مجرد فرض واجبات محددة على الأغنياء لمصلحة الفقراء، وإنما الغاية من ذلك هـي القضاء على الفقر والحاجة في المجتمع الإسلامي، ولذلك وزع الإسلام تلك المسئولية بين الأغنياء والأقربين الموسرين والدولة، حتى تتعاون هـذه الجهات جميعها في القضاء على الفقر الذي هـو أخطر مرض اجتماعي يفتت قوة الأمة، ويجعلها شيعا وأحزابا، كما أن استمرار وجوده يجعل التنمية مجرد أضغاث أحلام.

وقد قدر الفقهاء في مجال النفقة أنها مقدرة بمقدار الكفاية، وتشمل الطعام واللباس والسكن في حدود المعروف، ونصوا على أن القريب المعسر إذا كان محتاجا إلى خادم فيجب على قريبه الموسر أن يدفع عنه أجرة ذلك الخادم.

فإذا اعتمدنا فقط على الزكوات للقضاء على الفقر، فماذا نفعل إذا لم تكن كافية لذلك؟ هـل نترك أولئك الفقراء للجوع يفتك بهم، أو للمرض ينخر في عظامهم؟ لا شك أن المجتمع مسئول عن جميع أفراده [ ص: 75 ] مسئولية كلية، وتبتدئ هـذه المسئولية أولا بفرض الزكاة دون أن تتجاوزها، فإذا لم تكف أموال الزكاة فعندئذ يتعين على الأغنياء أن يقوموا بإعالة الفقراء حتى يتهيأ لهم العيش الكريم.

وقد وصف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - المستوى الاجتماعي الذي يجب أن يكون عليه المسلم، عندما كتب إلى أحد ولاته أن يقضي عن الغارمين ما غرموه من أموال، فكتب إليه عامله يقول: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث. فكتب إليه عمر: إنه لا بد للمرء من مسكن يسكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته [1]

وقال الرملي في كتابه نهاية المحتاج في الفقه الشافعي: " وهي - أي نفقة القريب - الكفاية، لخبر " خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف " فيجب إعطاءه كسوة وسكنى تليق بحاله، وقوتا وأدما تليق بسنه " [2]

وقال الكاساني: " وأما بيان مقدار الواجب من هـذه النفقة فنفقة الأقارب مقدرة بالكفاية بلا خلاف؛ لأنها تجب للحاجة، فتقدر بقدر الحاجة، وكل من وجبت عليه نفقة غيره يجب عليه له المأكل والمشرب والملبس والسكنى والرضاع إذا كان رضيعا؛ لأن وجوبها للكفاية، [ ص: 76 ] والكفاية تتعلق بهذه الأشياء، فإن كان للمنفق عليه خادم يحتاج إلى خدمته تفرض أيضا؛ لأن ذلك من جملة الكفاية " [3]

وهكذا يتبين لنا بوضوح أن غاية الإسلام من فرض هـذه الواجبات المالية الكثيرة هـي تحقيق الكفاية في المجتمع الإسلامي حتى يعيش الجميع في محبة وأمن وسلام.

التالي السابق


الخدمات العلمية