الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثاني

فكرة الحاكمية في الفكر الإسلامي الحديث

المطلب الأول: المودودي [1] وتأصيل فكرة الحاكمية

المودودي وبعث فكرة الحاكمية

يعتبر المودودي أول من ابتدع مصطلح الحاكمية ، وبعث روحه في العصر الحديث، وكان له السبق في تأسيس نظرية سياسية من منظور [ ص: 137 ] إسلامي ترتكز على مفهوم الحاكمية . وطرح المودودي فكرة الحاكمية في إطار رسائل ومحاضرات تتعلق بقضايا السياسة والقانون والدستور. حيث بحث المودودي فكرة الحاكمية في إطار المسائل الأساسية للدستور الإسلامي، وتعرض للحاكمية في أول المسائل التي أثارها باعتبارها مفتاح المشكلة في المنظومة الدستورية في نظره [2] .

ويلاحظ أن مفهوم الحاكمية يتحكم في كل كتاباته خاصة ما يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، وقد صاغ المودودي فكره السياسي «ومنه ما كتبه عن الحاكمية ما بين 1937-1941م، عندما كانت الحاكمية في الهند للاستعمار الإنجليزي وهي سلطة بشرية جاهلية كافرة، وكانت تلوح في أفق الهند المستعمرة يومئذ صورة الهند المستقلة كما تصورها «حزب المؤتمر» دولة قومية ديمقراطية علمانية - على النمط الغربي - وفيها سيكون الحاكمية للجاهلية الهندوكية الكافرة، وأمام هـذه الحقيقة أعلن المودودي بأعلى صوته عن كفره بهذه الحاكمية البشرية، وركز على الجانب الإلهي من الحاكمية» [3] . [ ص: 138 ]

ظروف نشأة فكرة الحاكمية

نشأت فكرة الحاكمية عند المودودي وسط مجموعة ظروف سياسية واجتماعية حرجة مرت بها دولة الباكستان ، وكان لخصوصية الزمان والمكان دور ومساهمة في بلورة الفكرة وتطورها، إذ إن المودودي كغيره من المفكرين تفاعل مع مختلف الأحداث السياسية والاجتماعية للبلاد، محاولا بذلك إعطاء إجابات إسلامية لمختلف النوازل التي تحل بالبلاد.

ويمكن إرجاع ظروف نشأة فكرة الحاكمية عند المودودي إلى ما يلي:

1- الأوضاع السياسية

كانت الأوضاع السياسية التي تعيشها الأمة في مختلف الدول الإسلامية بالغة التدهور والانحطاط، فعلى مستوى الخلافة فقد تم إلغاؤها، وحلت محلها الدولة العلمانية في تركيا ، أما سائر البلدان العربية والإسلامية في إفريقيا وآسيا فخاضعة للاستعمار الأجنبي. وفي الوقت ذاته شهدت الساحة العامة انتشار النظريات والفلسفات الغربية الحديثة، مثل الديمقراطية الليبرالية والعلمانية والشيوعية والاشتراكية والقومية والوطنية، مع ما سجلته تلك النظريات من استجابات في واقع العالم الإسلامي، وأخذت القيم المادية والأخلاقية الغربية تترسخ تدريجيا في الحياة العامة للمسلمين. وكان أخطر فكرة عاصرها المودودي فكرة فصل الدين عن الدولة، ومحاولة إبعاد الإسلام عن تسيير شئون المسلمين العامة.. ومنذ نشأة دولة الباكستان عام 1947م احتدم الصراع بين الحركة الإسلامية التي تريد تطبيق الشريعة الإسلامية، [ ص: 139 ] وبين قادة دولة الباكستان ، وكانت المؤامرات تحاك من قبل الشيوعيين والعلمانيين والمستغربين منكري السنة الموجودين في الدوائر الحكومية حول فكرة تطبيق الشريعة في باكستان. [4]

وكانت النظريات الغربية تقرر مبدأ السيادة الشعبية ، وترجع أمر الحكم والتشريع إلى الشعب، وهذا فيه إنكار واضح وصريح لمبدأ الحاكمية الإلهية ، وتحد للحركة الإسلامية في باكستان وعلى رأسهم المودودي ، وكان أحد العوامل الأساسية لطرح نظريته السياسية المؤسسة على النقيض من النظرية الغربية، فإذا كان الأساس الذي تقوم عليه النظرية الغربية هـي فكرة السيادة الشعبية، فإن المودودي، باعتباره مدركا ومطلعا على النظريات الغربية الحديثة، جعل فكرة الحاكمية هـي الأساس للنظرية السياسية الإسلامية.

2- الحياة الدينية

كانت الحياة الدينية عامة في العالم الإسلامي، وفي القارة الهندية خاصة تعاني من المخططات الاستعمارية الهادفة إلى محوها، عن طريق إزاحة الدين ومقتضياته من حياة المسلمين عامة، وفي هـذه المرحلة أهملت المدارس الدينية، وحلت محلها الكليات الحديثة التي تسير وفق النمط الغربي. وتعرض الفكر الديني في هـذه المرحلة إلى مخططات تبشيرية وحركات استشراقية وظهرت الحركات الهدامة مثل الماسونية والقاديانية والبهائية والدونمة في وسط المجتمع [ ص: 140 ] الباكستاني، ووجدت محاولات توفيقية بين الإسلام والجاهلية الحديثة. [5] وتتلخص أوضاع الحياة الدينية في:

- إغلاق المدارس والمعاهد الدينية.

- إغلاق باب الرزق على خريجي المعاهد الدينية.

- قدم مناهج التعليم الديني وعدم تطويرها. ونتيجة لذلك خلت الساحة للمثقفين بالثقافة الغربية. [6]

3- الحياة الاجتماعية

كانت الحياة الاجتماعية قد تأثرت في كل نشاطاتها ومجالاتها بالحياة الغربية، في الدوائر الفردية والاجتماعية، وكان للاستعمار الغربي، والقيادة الحديثة لدولة الباكستان والحركات الباطنية الهدامة، والأحزاب السياسية المعادية للمشروع الإسلامي اليد الطولى في تدني الحياة الاجتماعية في البلاد. [7]

4- الوضع القانوني والتشريعي

كان الوضع القانوني والتشريعي في بلاد الإسلام عامة والباكستان خاصة غربيا، يستمد مصادره من النظريات الغربية وفلسفاتها، واستمر هـذا الوضع فترة من الزمن غابت فيها سيادة التشريع الإسلامي، وهيمنته على مناحي الحياة العامة في المجتمع، وبذلك استهدف الإسلام في أخص أبنيته [ ص: 141 ] وهو مجال القانون والتشريع، وكان من المقرر أن تطبق دولة باكستان أحكام الشريعة الإسلامية عند إنشائها، ولكن إرادة العلمانيين والشيوعيين في الدوائر الحكومية حالت دون ذلك مما جعل الصراع يستمر محتدما بين الإسلاميين وغيرهم إلى يومنا هـذا. [8]

الدور السياسي للمودودي

كانت هـذه الظروف التي عايشها المودودي عوامل تفاعل معها في حركة إصلاحية تنشد التمكين للشريعة الإسلامية لتكون سائدة في المجتمع الباكستاني خاصة، وكانت المسألة السياسية هـي أهم مشكلة شغلت المودودي، لأنها تمثل الأزمة الحقيقية التي كانت محل نزاع وصراع بين القيادة الجديدة في باكستان والحركة الإسلامية. وكان المودودي مواكبا للأحداث السياسية في البلاد ومتابعا لتطوراتها، حيث كان على صلة مباشرة بها إلى درجة أنه كان يمثل مصدر قلق وتخوف للحكومة الباكستانية الجديدة، والتي كان ينتظر منها أن تقوم بتطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا ما جعل تلك الحكومة تلفق بعض التهم للمودودي كلما وجدت فرصة لذلك.

ومن التهم التي لفقت للمودودي أنه كان يرى تحريم الجهاد لتحرير كشمير المسلمة، وبسببها ألقي عليه القبض في 4أكتوبر 1948م لمدة عشرين شهرا. [9] وعلى الرغم من هـذا كان المودودي موصولا بالأحداث [ ص: 142 ] السياسية، فقد عرض عليه مشروع قرار المبادئ الأساسية لدولة باكستان لأخذ الموافقة منه وهو في السجن. وقد كان القرار ينص على أن الحكم في باكستان لله سبحانه وتعالى، وأن الحكومة ملتزمة بتطبيق ما يريد الحاكم الأعلى وهو الله سبحانه وتعالى. [10] كما كان للمودودي دور مهم في صياغة المبادئ الأساسية في الباكستان ، وكانت (22) مبدأ، وذلك بعد أن طلبت الحكومة من العلماء أن يقدموا لها مبادئ أساسية للدولة، حينما رفضت توصيات المجلس التأسيسي لمبادئ الدولة حيث كانت منافية للروح الإسلامي وذلك سنة 1950م [11] .

وخطورة الدور السياسي للمودودي جعلت أعين الشيوعيين والعلمانيين في الدوائر الحكومية تترقبه في كل حركة وسكنة، خاصة بعد أن أعلنت الحكومة عن إجراء الانتخابات في منطقة بنجاب في مارس عام 1956م، ولتخوف الحكومة من قيام نظام إسلامي هـناك، شنت مؤامرات وأراجيف لمضايقة المودودي وتقليله في أعين الناس، وكان للصحفيين المأجورين اليد الطولى في إشاعة تلك الأكاذيب والتي كانت منها:

- أن المودودي كان معاديا لفكرة دولة الباكستان .

- أنه عميل للولايات المتحدة الأمريكية .

- أنه لم يحصل على الشهادة الرسمية في العلوم الدينية، وأنه رجعي [12] . [ ص: 143 ] وكان المودودي قد حمل لواء المطالبة بتطبيق الدستور الإسلامي سنة 1952م، وتحرك شرقا وغربا في البلاد محاضرا ومقيما للمؤتمرات الجماهيرية في سبيل تحقيق هـذا الهدف. وفي 21 ديسمبر 1952م قاد المودودي مظاهرة في عاصمة البلاد كراتشي مطالبا الحكومة بتطبيق الدستور الإسلامي مما اضطر الحكومة لتعديل بعض التوصيات لجعلها إسلامية، وأدرجت بعض المبادئ الدستورية التي وضعها العلماء. [13] وفي تلك الفترة ألف المودودي كتابه «المسألة القاديانية»، وكشف فيه عن عقائد هـذه النحلة الضالة، وعلى إثر ذلك شكلت محكمة عسكرية لمحاكمة المودودي، وأصدر الحكم عليه بالإعدام لتأليف كتاب «المسألة القاديانية»، لكن اضطرت الحكومة إلى تغيير حكم الإعدام إلى الحكم المؤبد إثر استنكار العالم الإسلامي قرار الإعدام، وتم إطلاق صراحه بعد 3 سنوات. وفي 6 يناير عام 1964م أصدر قرار بجعل الجماعة الإسلامية التي يرأسها المودودي جماعة مخالفة للقانون، وألقي القبض على المودودي و44 عضوا من أعضاء مجلس الشورى، وكان هـذا إثر حركة الجماعة الإسلامية بالمطالبة بجملة أشياء أهمها:

- تعديل الدستور بدستور إسلامي.

- تغيير اسم الدولة إلى جمهورية باكستان الإسلامية.

- إعادة الحقوق الإنسانية الأساسية للشعب.

- إجراء الانتخابات العامة. [ ص: 144 ] وفي 31 مايو 1970م دعا المودودي الشعب الباكستاني إلى إقامة يوم «شوكة الإسلام» لإبراز القوة الشعبية لمقاومة الشيوعية والمطالبة بتطبيق النظام الإسلامي، وكانت مسيرة ضخمة ملأت شوارع باكستان، وقال المودودي في نهايتها: «أهنئكم على مسيرتكم التي لم تر باكستان مثلها والتي أثبتت للعالم أن شعب باكستان المسلم لا يقبل غير نظرية الإسلام، ولا صيحة ولا صوت يعلو في باكستان غير صيحة لا إله إلا الله» . [14]

فكرة الحاكمية والتحديات السياسية

كانت فكرة الحاكمية نتاجا لتحديات سياسية عاصرها المودودي، باعتباره داعية لمشروع إسلامي، يحتك بالساحة السياسية، وكما هـو معروف أن فكرة الحاكمية نالت نصيبا أوفى في كتابه «تدوين الدستور الإسلامي»، وحقيقة هـذا المؤلف رد على صرخة تحد خرجت من أفواه العلمانيين وقتها حيث قام المحامي « أ.ك. روهي » بالتحدي بأن من استطاع أن يثبت لي أن القرآن يشتمل على مبادئ دستورية فله جائزة خمسة آلاف روبية، وقام المودودي بالتصدي لهذا التحدي والرد عليه فألف «أسس الدستور الإسلامي في القرآن»، وألقى محاضرة في كراتشي بعنوان «تدوين الدستور الإسلامي»، وهذا ما جعل المحامي بوهي يقتنع بالأفكار التي طرحها المودودي، وساهم بعد ذلك في تقديم مشروع دستوري في المجلس التأسيسي موافقا للدستور الإسلامي. [15] [ ص: 145 ]

أساس فكرة الحاكمية /80 ترجع فكرة الحاكمية التي أسس عليها المودودي نظرية الإسلام السياسية، إلى مفهوم الوحدانية، حيث يعتبره الأساس الذي يقوم عليه بناء الدولة، وبذلك يجعل بنية النظام السياسي في الدولة عقديا خالصا، وكل المفاهيم الأخرى على تعددها واختلافها ما هـي إلا تجليات لتلك البنية العقدية القائمة على فكرة التوحيد. يقول المودودي : «الأساس الذي يقوم عليه بناؤها - الدولة الإسلامية - هـو تصور مفهوم حاكمية الله الواحد الأحد، وأن نظريتها الأساسية أن الأرض كلها لله وهو ربها، والمتصرف في شئونها، فالأمر والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب، بل ولا للنوع البشري كافة شيء من سلطة الأمر والتشريع، فلا مجال في حظيرة الإسلام ودائرة نفوذه إلا لدولة يقوم فيها المرء بوظيفته خليفة لله تباركت أسماؤه» . [16]

ويؤكد المودودي هـذه الفكرة بمقولة أخرى، حيث يقول: «الأساس الذي ارتكزت عليه دعامة النظرية السياسية في الإسلام أن تنزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر منفردين ومجتمعين ولا يؤذن لأحد منهم أن ينفذ أمره في بشر مثله فيطيعوه أو ليسن قانونا لهم فينقادوا له ويتبعوه، فإن ذلك أمر مختص بالله وحده لا يشاركه فيه أحد غيره» . [17] [ ص: 146 ] فهذه الفكرة التي أوضحها المودودي نقيض الفكرة التي قامت عليها النظرية الغربية في التشريع والتقنين، وهي ما تسمى بنظرية السيادة، حيث قام الفكر الغربي على رد أمر التشريع أصالة وابتداء إلى البشر واصطلح على ذلك عندهم بنظرية السيادة الشعبية .

ومن جهة أخرى استند المودودي في بعثه لفكرة الحاكمية ، وتجديد روحها في صياغة قانونية ودستورية معاصرة، إلى جملة من النصوص الشرعية، تدل على اختصاص الله تعالى بالحاكمية، وتحصر معانيها في ذاته المقدسة، ومن هـذه النصوص،

قوله تعالى: ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف:40) ،

وقوله تعالى: ( يقولون هـل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ) (آل عمران:154) ،

وقوله تعالى: ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هـذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ) (النحل:116) ،

وقوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الظالمون ) (المائدة:45) .

يقول المودودي بعد إيراده لهذه الآيات القرآنية: فهذه الآيات تصرح أن الحاكمية لله وحده وبيده التشريع، وليس لأحد - وإن كان نبيا - أن يأمر وينهى من غير أن يكون له سلطان من الله [18] . [ ص: 147 ] فهذه الآيات القرآنية يخرج المودودي عليها مفهوم الحاكمية ويجعله لله تعالى حصرا، ويقصد المودودي هـنا بالحاكمية الحاكمية القانونية، أي حق الله تعالى في التشريع وانفراده بالتقنين.

مبررات القول بفكرة الحاكمية

طبيعة الظروف السياسية التي مرت بها الهند عموما كانت أهم مبرر للقول بفكرة الحاكمية، ويمكن الإشارة بإيجاز إلى هـذه المبررات في نقاط أهمها:

- هـيمنة الحضارة الغربية وموروثها على واقع المسلمين.

- الاستعمار الغربي لبعض بلاد الإسلام عامة، وبلاد الهند خاصة، مع ما صاحب ذلك من هـيمنة للنظريات الغربية وفلسفاتها على العقل المسلم، مما أثر سلبا على الهوية الثقافية الإسلامية.

- سقوط الخلافة الإسلامية، وقيام الدولة العلمانية في تركيا .

- قيام دولة الباكستان ، واعتبار الإسلام هـو المبرر الوحيد والأصلي لقيامها، ومحاولة الشيوعيين والعلمانيين والقاديانيين في الدوائر الحكومية للحيلولة دون سيادة الشريعة الإسلامية فيها وتطبيق أحكامها.

- التحديات المختلفة المرددة بخلو القرآن من نظرية في السياسة والحكم.

- ارتباط المودودي بحركة سياسية، تنشد قيام دولة إسلامية، وتنادي بتطبيق الدستور الإسلامي، مما يقتضي حضور نظرية سياسية بديلة. «فحاكمية المودودي تجد تفسيرها إذن في قيام دولة إسلامية مستقلة ببلاد [ ص: 148 ] الهند ، ثم هـي إلزام لهذه الدولة - بعد أن قامت - بالشرط الذي قامت على أساسه، أي الالتزام الشامل بالشريعة الإسلامية، وإلا انتفى مبرر نشأتها، فتكون الحاكمية بهذا المعنى تذكيرا مستمرا بشرط النشأة، وبضرورة ضمان الهوية لرعاياها المسلمين» [19] .

أهمية الحاكمية في فهم الفكر السياسي للمودودي

إن المتتبع للفكر السياسي للمودودي يجد أن فكرة الحاكمية شكلت حجر الزاوية في بناء منظومته السياسية، ولا يمكن فهم نظريته السياسية فهما صحيحا بعيدا عن الغلو، أو التعصب بمعزل عن فكرة الحاكمية التي تعتبر الأساس الناظم لفكره، سواء في كتاباته السياسية والتي ظهر فيها هـذا بشكل واضح المعالم، أو في كتاباته الأخرى المتفرقة والتي نلمس فيها آثارا واضحة لها. يقول محمد عمارة : إن الحاكمية هـي مفتاح فهم المودودي ، ونحن لن نستطيع فهم الجديد الذي انفرد به عن سابقيه من أعلام الصحوة الإسلامية الحديثة إذا لم نفهم مفهومه للحاكمية.. إن الحاكمية هـي مفتاح فهم حقيقة أغلب ما كتب الرجل في أغلب الميادين التي ناضل فيها بالكلمة وبالعمل لتجسيد هـذه الكلمة في واقع الحياة [20] . فالمودودي قد وظف الحاكمية في تحديد موقفه من جملة من المفاهيم والأحكام، حيث وصف الحضارة الغربية والأنظمة العربية والإسلامية [ ص: 149 ] بالجاهلية انطلاقا من مبدأ الحاكمية، كما اعتبر سبب استحقاق الأنظمة العربية والإسلامية للكفر هـو خروجهم على الحاكمية الإلهية، وكذا رفضه للقومية والديمقراطية والعلمانية، انطلاقا من المفهوم ذاته، لأنها منتزعة للحاكمية ومغتصبة لها [21] .

معنى الحاكمية عند المودودي

يبين المودودي الحاكمية بقوله: «تطلق هـذه الكلمة على السلطة العليا والسلطة المطلقة ، على حسب ما يصطلح عليه اليوم في علم السياسة» . [22] فالحاكمية بهذا المعنى هـي السلطة العليا المهيمنة على غيرها من السلطات، وهذا التعريف الذي أورده المودودي قريب من تعاريف المفكرين الغربيين لمفهوم السيادة.

صفات صاحب الحاكمية

تحدث المودودي عن صاحب الحاكمية ومقامه في المجتمع وصلاحياته وحدوده، بحيث ينصرف ذهن المتتبع لتلك الصفات التي أثارها باعتبارها توابع طبيعية لصاحب الحاكمية أنها لله تعالى حصرا. حيث يقول: أما صاحب الحاكمية نفسه، فما هـناك من قانون يقيده، ويوجب عليه الطاعة لأحد، فهو القادر المطلق في ذاته، ولا يجوز سؤاله فيما أصدر من أحكام عن الخير أو الشر ولا عن الصواب أو الخطأ، فكل ما يفعله هـو الخير ولا يحل لأحد ممن يطيعه أن يعده من الشر ويرفضه، وكل ما يفعله هـو الصواب ولا يحل لأحد ممن يتبعه أن يرى فيه شيئا من الخطأ، فلا بد أن يعترف له الجميع بكونه سبوحا قدوسا منزها عن الخطأ، بصرف النظر عما إذا كان كذلك أم لم يكن [23] . [ ص: 150 ] فهذا التصور الذي أبان عنه المودودي هـو تصور الحاكمية القانونية ، كما يقدمه القانونيون، ويرى أنه ليس ثمة فرق بين الحاكمية باعتباره مفهوما إسلاميا، وبين الحاكمية القانونية ، وإنما الفرق كما يراه المودودي هـو أن تلك الحاكمية القانونية تبقى فرضية ما دامت لا تستند إلى حاكمية واقعية، أو حاكمية سياسية، أي إلى سلطة تمكن لتلك الحاكمية القانونية أن تسود وتمارس [24] .

وبناء على تصور المودودي للحاكمية الذي عرضه على لسان القانونيين، فإنه يستبعد وجود شخص في الدائرة الإنسانية يحمل صفة الحاكمية بتلك المضامين، وأن علماء السياسة «كما وضعوا نصب أعينهم هـذا التصور الواضح للحاكمية، ثم حاولوا ليجدوا في الدائرة الإنسانية كلها مصداقا حقيقيا لهذا التصور أعياهم البحث وحاروا في أمرها ولم يجدوا إلا اسما لا وجود لمسماه، أو رؤية لا يمكن تحقيقها». [25] [ ص: 151 ] وبناء على ذلك، فإن المودودي يرد معاني الحاكمية وصفاتها إلى الله تعالى حصرا، حيث يقول: إنه ليس هـناك هـذا الحق إلا لله وحده، وذلك أنه هـو - وحده - خالقهم ( ألا له الخلق والأمر ) (الأعراف:54) ،

وهذا شيء لا يمكن أن يرفضه كل من يؤمن بالله ويعترف له بالخلق. [26] وبذلك فالمودودي يربط بين مفهوم الحاكمية ببعده العقدي، وهو الإيمان بالله تعالى، ويؤسس مفهوم الحاكمية، وهو الأمر في الآية، على مفهوم الخلق والإبداع والتكوين، ومعنى ذلك أن المودودي يربط مفهوم الحاكمية بنظرية الوجود.

ومن الأمور التي يستدل بها المودودي على رد الحاكمية إلى الله تعالى، صفات الألوهية المتمثلة في العلم والعدل الإلهي المطلقين، حيث إن كلا منهما يؤكد صلاحية مقام الألوهية إلى الاختصاص بمعاني الحاكمية، ولهذا نجد أن المودودي يفترض تقلد السلطة الإنسانية منصب الحاكمية، فإن ذلك الإنسان الذي تقلد منصب الحاكمية يتصف بالجهل والنقائص البشرية المختلفة التي لا تؤهله لممارسة مقتضيات الحاكمية على أتم وجه وأحسن حال، ذلك لأنه «لا يمكن أن يكون للإنسان من الكفاءة ومؤهلات الحكم ما يجعل له صلاحيات غير محدودة للحكم على الأفراد، ولا يكون لأحد من حق بإزالته ويسلم له الجميع بالنزاهة في أقواله وأعماله». [27] [ ص: 152 ]

أقسام الحاكمية عند المودودي:

يقسم المودودي الحاكمية الإلهية إلى قسمين: حاكمية الله القانونية، وحاكميته السياسية، ويتأسس مفهوم الحاكمية عنده بالمعنى السياسي والقانوني على هـاتين القاعدتين.

1- الحاكمية القانونية

يجعل المودودي مسألة الحاكمية القانونية لله تعالى وحده، استنادا إلى سيرورة شئون هـذا الكون على حاكميته الواقعية، لأن الله تعالى حاكم على الناس من غير شريك ولا منازع. ويستدل المودودي على حاكمية الله القانونية بقوله تعالى: ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف:40) ،

وقوله تعالى: ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) (الأعراف:3) ، ويجعل المودودي الكفر الصريح معنى مقابلا للحاكمية القانونية بدليل قوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الكافرون ) (المائدة:44) .

وينتهي المودودي إلى حصر معاني الحاكمية القانونية في الأحكام ممثلا في الإسلام، وفي الإذعان ممثلا في الإيمان [28] . فالأحكام التي تضمنها الإسلام، والشرائع التي جاء بها في شتى شئون الحياة، تمثل قوانين أصدرها الله تعالى بمقتضى حاكميته، ومن هـنا أوجب [ ص: 153 ] المودودي حصر معاني الحاكمية القانونية في مبدأ الألوهية، واعتبر الجحود لها والخروج عنها كفرا صريحا لأنه خروج عن أحكام الإسلام، ومروق عن مقتضى الإيمان. وبناء على ذلك فإن مفهوم الحاكمية القانونية عند المودودي قائم على مبدأين أساسيين هـما: الإسلام، والإيمان. فالإسلام يمثل القوانين والتشريعات، والإيمان يمثل الإذعان لتلك القوانين، ورفض القوانين معناه الخروج عنها، والخروج عن الإسلام والإيمان، ولهذا اقتضى معنى الكفر الصريح عند المودودي.

ممثلو الحاكمية الإلهية:

يذهب المودودي إلى أن الأنبياء والرسل الكرام هـم ممثلو الحاكمية الإلهية ، حيث إنهم الوسيلة التي يعلم بها طبيعة القوانين والشرائع الإلهية المنزلة، ولهذا كانت طبيعة العلاقة بين الأنبياء ومن يتبعهم هـي الطاعة التامة، وهذه الطاعة ليست اختيارا نبويا بقدر ما هـي أمر إلهي، ليمكن النبي من تبليغ أمر الله تعالى،

ولهذا قال تعالى: ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) (النساء:64) ،

وقال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) (الأحزاب:36) .

وبناء على ذلك فإن الحاكمية الإلهية منشئة للقوانين والشرائع، والأنبياء مبلغون لها لأجل التنفيذ، وبالتنفيذ يتم التواصل والانسجام مع الحاكمية القانونية ، وبالعصيان يتم التقاطع والتنافر من الحاكمية القانونية. [ ص: 154 ]

2 - الحاكمية السياسية

إذا كان المودودي قد جعل الحاكمية القانونية لله تعالى، فإن نظيرتها وهي الحاكمية السياسية قد أفضت إلى نفس النتيجة، حيث يذهب المودودي إلى أن مرد الحاكمية السياسية وصاحبها هـو الله تعالى. حيث يقول: «وربما يتساءل سائل: فلمن الحاكمية السياسية إذن؟ فالجواب الوحيد الصريح لهذا السؤال أنها لله تعالى، ولا يمكن أن يكون لهذا السؤال جواب آخر» . [29] فالمودودي يجعل الحاكمية السياسية حقا لله تعالى، وإن قامت نفذت شريعة الله تعالى، بالقوة السياسية، عن طريق أي هـيمنة سياسية، لأن تلك الهيمنة السياسية لا يمكن أن تتصف بالحاكمية وتتمثل معانيها. ويربط المودودي بين الحاكمية القانونية، والحاكمية السياسية ربطا عضويا، ولا يتأتى إحداث انفصال بينهما، حيث يجعل كلا من الحاكميتين معنيين متضايفين على سبيل التلازم، فيقول: «ومن الظاهر أن القوة التي لا تجوز الحاكمية القانونية والتي يضيق صلاحياتها قانون أعلى لا قبل لها بالتغيير فيه لا يمكن أن تكون حاملة للحاكمية» . [30]

فالمودودي جعل الحاكمية السياسية أمرا يترتب على من يحمل الحاكمية القانونية ، فالسلطة المهيمنة التي لها صلاحيات مطلقة، لا تحد بقيد وشرط هـي التي تستحق حمل الحاكمية، والتي تضايق بصلاحيات قانون أعلى منها، لا ترقى إلى تغييره لا يمكن أن تكون حاملة لها. ولا تنحصر هـذه المعاني إلا في الألوهية ولهذا استحقته. [ ص: 155 ]

مفهوم الحاكمية بين الإبهام والإحكام

باستقراء النصوص التي كتبها المودودي حول فكرة الحاكمية ، فإننا نلاحظ أن هـناك إطارا كليا عاما ناظما لفكرة الحاكمية بنوع من الشمول والعموم، قد يورث بعض اللبس والغموض، وهناك صياغة أكثر دقة وتحديدا وإحكاما بعيدة عن اللبس والإبهام. ففي الإطار العام لفكرة الحاكمية تحدث المودودي عن فكرة الحاكمية بأحادية خالصة لله تعالى في الأمر والتشريع، وحصر مفهوم السلطة الحقيقية في الله تعالى، ومن هـذه النصوص:

قوله: «.. بمعنى أن الله ليس مجرد خالق فقط بل هـو حاكم كذلك وآمر، فهو قد خلق الخلق ولم يهب أحدا حق تنفيذ حكمه فيهم، ولم يخلق الناس كلهم أو بعضهم في حرية واستقلال ذاتي فيفعلون ما يريدون، وإنما تدبير أمر الكون الفعلي بيد الله وحده» [31] .

ويقول: «.. يعني أن الله هـو الحاكم المطلق، وله وحده السلطة العليا المطلقة، يحكم ما يريد وليس للعباد حق المساءلة والنقاش في أحكامه.. فما حرمه الله فهو حرام لا لشيء إلا لأنه تعالى حرمه، وما أحله ليس لتحليله سبب آخر سوى أن مالك كل شيء قد سمح لعباده باستخدامه أو فعله» [32] . [ ص: 156 ] ويقول: «ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية، فإن الحاكم الحقيقي هـو الله، والسلطة الحقيقية مختصة بذاته تعالى وحده، والذين من دونه في هـذه المعمورة إنما هـم رعايا في سلطانه العظيم.. ليس لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع، والمسلمون جميعا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا يستطيعون أن يشرعوا قانونا.. إن الدولة الإسلامية لا يؤسس بنيانها إلا على ذلك القانون الذي جاء به النبي من عند ربه، مهما تغيرت الظروف والأحوال» [33] .

ويقول: «إن لفظ ملك المستعمل في هـذه الآية [34] يطلق في اللغة العربية على الملكية والسلطة العليا والحاكمية ، ومعنى هـذا أن الله تعالى وحده حاكم الكون المطلق، وليس لأي فرد قيد ذرة من سلطات الحكم» [35] . وحديث المودودي هـنا عن مفهوم الحاكمية باعتباره منصبا خاصا وخالصا لله تعالى لا يشاركه أحد ولا ينازعه فيه، وهذه عبارات قد يفهم منها أن المودودي قد جرد الإنسان من أي حق في أن يكون مصدرا للسلطان في أي شأن من شئون الحياة، وجرده من كل حق في التقنين أو التشريع، أو التنفيد سواء كان فردا أو جماعة [36] . والحقيقة أن اللبس يرد عليه المودودي نفسه حيث يقول: [ ص: 157 ] «قد يظن البعض حين يسمع هـذه الحقائق أن الدولة الإسلامية بهذه الصورة لا مجال فيها أمام الإنسان على الإطلاق لقيامه بالتشريع والتقنين.. غير أن الإسلام في الواقع لم يغلق باب التشريع تماما في وجه الإنسان، وإنما حدده وضيق إطاره بأن جعل الحاكمية والسيادة للقانون الإلهي» [37] . فالمودودي هـنا بصدد تحرير مفهوم الحاكمية وصياغته من منظور مبدأ الألوهية المهيمن بإطلاق، والذي يكون فيه موقف البشرية منه هـو مطلق الطاعة والانقياد والمتابعة والاستسلام، ولم يتحدث هـنا عن موقف الإنسان من مبدأ الحاكمية من منظور إنساني، كما لم يتعرض هـنا لوظيفة الإنسان تجاه مبدأ الحاكمية.

وبناء على هـذا، إذا تعرضنا لنصوص المودودي الأخرى نجده يعطي مجالا اجتهاديا للإنسان في التقنين والتشريع، بل ويعطي له حاكمية وإن كان يقيدها بالحاكمية الإلهية، حيث يقول: «.. لهذا الطراز من نظم الحكم لأنه قد خول فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة، وذلك تحت سلطة الله القاهرة وحكمه الذي يغلب» [38] . وبذلك فلا يفهم من هـذه الصياغات أن مهمة الإنسان هـي التلقي والتطبيق دون اجتهاد أو حق في السلطة أو التقنين أو التشريع كما فهمه بعض الباحثين [39] . وإنما كان هـذا اللبس لأن المودودي تحدث عن مفهوم الحاكمية من منظور إلهي، لا من منظور إنساني. [ ص: 158 ] وأما صياغات المودودي الأخرى لمفهوم الحاكمية فهي أكثر ضبطا وتحديدا حيث يقول: «إن الحق تعالى وحده هـو الحاكم بذاته وأصله، وإن حكم سواه موهوب وممنوح» [40] . فالمودودي هـنا يفرق بين نوعين من الحكم، حكم الله تعالى المختص به أصالة، وحكم الإنسان الممنوح والموهوب، حيث يقول: «وهنا يمكن أن يظهر في الخلافة معنى الحاكمية والسلطان باعتبار أنها خلافة إلهية ونيابة عن الحاكم الأعلى [41] . ويقول: «فهو - الإنسان - حاكم الأرض لكن حكمه لها ليس في ذاته وأصله، بل هـو حكم مفوض إليه» [42] . ويقول: «.. من لهذا الطراز من نظم الحكم لأنه قد خول فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة» [43] .

فهذه صياغات لمبدأ الحاكمية تقر بمبدأ استقلال الإنسان بالحكم، وانفراده بالسلطة والتشريع، بل وبالحاكمية، فهناك حاكمية إلهية مطلقة، وهناك حاكمية شعبية ترجع إلى الإنسان باعتباره خليفة عن الله تعالى، ولكنها مقيدة بالحاكمية الإلهية، فالنصوص الأولى العامة المطلقة للمودودي في حديثه عن الحاكمية ينبغي أن تفهم في إطار النصوص الأخرى التي فيها تحديد وصياغة دقيقة لمفهوم الحاكمية. [ ص: 159 ]

الحاكمية ومشكلة النيابة الإلهية في السلطة

ما طرحه المودودي قد يورد إشكالا في مفهوم الحاكمية التطبيقية، حيث اعتبر أن الحاكمية السياسية حق لله تعالى، ولكن المودودي يطرح فكرة النيابة في ممارسة السلطة السياسية، ويصطلح عليها بالخلافة، الذي يعتبره مصطلحا قرآنيا، ويعتبرها - أي الخلافة - «ليست هـذه القوة، أو السلطة نفسها بالحاكم الأعلى، وإنما هـي نائبة عن الحاكم الأعلى وهو الله عز وجل [44] . فالحاكم تعالى هـو الحاكم الأعلى والسلطة الممارسة للحكم نائبة عن الله تعالى، فكأن هـناك سلطة أصلية ترجع إلى الله تعالى، وهناك سلطة مفوضة نائبة عن السلطة الإلهية، وهذا ما يصطلح عليه المودودي بالخلافة.

الحاكمية المودودية والكنسية المسيحية

قد يلتبس على بعضهم استعمال المودودي مصطلح «النيابة» ليربطه بالفكر الكنسي، وما عاشه في ظل سيطرة البابوية والملوكية باسم الحق الإلهي، ويسجل المودودي هـذا الإشكال بقوله: «ولا يذهبن بكم سوء الفهم من كلمة النيابة إلى أنها عبارة عن ظل الله، أو البابوية، أو حقوق الملوك الإلهية» [45] . وفي الحقيقة أن المودودي مدرك لهذا البعد، ويحاول إزالة الإشكال حيث يعتبر أن الخلافة أو النيابة ليست حقا لفرد أو أسرة أو طبقة ولكن المنصب حق لجميع المسلمين الذين يؤمنون بحاكمية الله تعالى، وعلو [ ص: 160 ] قانونه الإلهي [46] . وهذا التصور يختلف عن فكرة النيابة الإلهية التي سادت الفكر الغربي والتي حصرت في فئة بعينها، كالكنيسة والملوك الذين ادعوا هـذا المنصب كحق إلهي أوكله لهم عن طريق الاختيار والاصطفاء.

ديمقراطية الخلافة الإسلامية عند المودودي

تأسيسا على مفهوم الحاكمية الذي طرحه المودودي ، فإنه يذهب إلى اعتبار أن الخلافة الإسلامية ديمقراطية، لكن على عكس المفهوم الديمقراطي الذي يمارسه النظام الغربي، لاعتبار أن منصب الحاكمية في الفكر الغربي مخول للجمهور أو الشعب، أما النظام الديمقراطي الإسلامي، كما يراه المودودي والمعبر عنه بالخلافة، فلا يكون الجمهور فيه حاملا إلا للخلافة لا الحاكمية، لأن هـذه الأخيرة موكولة ابتداء وانتهاء إلى الله تعالى، وبذلك يحدد المودودي الفرق بين الديمقراطية الغربية والديمقراطية الإسلامية بأن الغرب يعتبرون ديمقراطيتهم حرة مطلقة العنان، وأما المسلمين فيعتقدون بأن الخلافة الديمقراطية مقيدة بقانون الله تعالى [47] .

مفهوم الخلافة والحاكمية عند المودودي

تعتبر الحاكمية الأساس الذي تقوم عليه نظرية المودودي السياسية، وتأكيدا لهذا الأمر فإن المودودي يؤسس نظرية الخلافة في الدولة الإسلامية على نظرية الحاكمية. حيث يذهب - قبل بيانه لمعالم نظرية الخلافة في الفقه [ ص: 161 ] السياسي الإسلامي - إلى تقرير مبدأ يتعلق بنظرية الحاكمية ، حيث يقرر ابتداء أن الحاكم هـو الله تعالى، وأما أولي الأمر فهم نواب ووكلاء عن الله تعالى [48] . ويؤسس المودودي نظرية الخلافة على قوله تعالى: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) ، ويخرج المودودي على هـذه الآية قاعدتين هـما:

الأولى: أن الإسلام يستعمل دائما لفظة الخلافة بدل لفظة الحاكمية. [49] وينصرف مفهوم الحاكمية إلى الألوهية، وأما مفهوم الخلافة فينصرف إلى العباد، وبينهما علاقة حاكم ومحكوم، فطبيعة العلاقة بين الحاكمية والخلافة هـي العلاقة ذاتها بين الألوهية والعبودية.

الثانية: أن الاستخلاف أمر عام يشمل جميع المؤمنين، ولا يتعلق الاستخلاف بواحد بعينه، «فالظاهر من هـذا أن المؤمنين كلهم خلفاء الله، وهذه الخلافة التي أوتيها المؤمنون خلافة عمومية لا يستبد بها فرد أو أسرة أو طبقة، بل كل مؤمن خليفة عن الله» [50] . ويرى المودودي أن من أهم مميزات الخلافة أنها تقوم على مفهوم الحاكمية الإلهية، حيث يقول: «والمزية الثانية للدولة الإسلامية أن الأساس الذي يقوم عليه بناؤها هـو تصور مفهوم حاكمية الله الواحد الأحد، وأن نظريتها الأساسية أن الأرض كلها لله وهو ربها المتصرف في شئونها، فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة بالله وحده» [51] . [ ص: 162 ]

طبيعة العلاقة بين الحاكمية والخلافة

يعتبر المودودي أن مفهوم الحاكمية وتصوره في الإسلام واضح لا تشوبه شائبة، ولا يحتاج في تحريره إلى جهد كبير، ويعرفه بناء على ذلك بقوله: «أن الله وحده هـو خالق الكون وحاكمه الأعلى، وأن السلطة العليا له وحده» [52] . وهذا معناه رد أمر الخلق والحكم إلى الله تعالى، ولكن إذا كان الله تعالى هـو صاحب السلطة العليا المطلقة، فما موضع الإنسان في أمر الحكم والتشريع؟ هـنا يوضح المودودي طبيعة العلاقة بين مفهوم الحاكمية والخلافة من وجهة النظر السياسية، حيث يجعل الإنسان خليفة الله ونائبه، فالإنسان يجتمع فيه معنيان: معنى الخلافة، ومعنى النيابة، فكأن المودودي يصور لنا وجود حاكم أعلى وحاكم أدنى، حاكم أول أزلي، وحاكم ثان مخلوق، حاكم أصلي وحاكم تبعي، حاكم تجتمع فيه صفات الألوهية وحاكم تجتمع فيه صفات البشرية، والمودودي من هـذا المنطلق ومن وجهة النظر السياسية يوجب على الحاكم الأدنى متابعة الحاكم الأعلى، ويجعل مهمة هـذا الحاكم بمقتضى خلافته ونيابته هـو تطبيق قانون الحاكم الأعلى في كل شيء وإدارة النظام السياسي طبقا لأحكامه. [53]

ويقول في موضع آخر موضحا هـذه المسألة: إن لفظ الأمانة يوضح مفهوم الخلافة ومعناها، وكلا اللفظين يلقي الضوء على وضع الإنسان [ ص: 163 ] الصحيح بالنسبة لنظام العالم، فهو حاكم في الأرض لكن حكمه لها ليس في ذاته وأصله، بل هـو حكم مفوض إليه ومن ثم عبر الله عن سلطاته المفوضة إلى الإنسان بلفظ الخلافة، وعلى هـذا سمى الله من يستخدم هـذه السلطات المفوضة إليه من جانبه تعالى خليفة، وطبقا لهذا الشرح أصبح معنى الخليفة هـو الشخص الذي يستخدم السلطات المفوضة له من قبل شخص آخر [54] . وبهذا التفسير يحاول المودودي تحديد إطار سلطات الإنسان، ويحولها من استخدام السلطة عن طريق الأصالة إلى استخدامها عن طريق التفويض والنيابة.

الحاكمية بوصفه مفهوما توحيديا

يعد المودودي أول من ربط الحاكمية بمفهوم الإيمان والتوحيد، وأعطى للمفهوم صبغة عقدية، وذلك عندما ربطه بمفهوم الألوهية، حيث يقول: «أول أساس من أسس الدين هـو الإيمان بحاكمية الله، فهو مالك السموات والأرضين، وكل ما فيهما ملك له وحده،

وهذا تأسيسا على قوله تعالى: ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) (البقرة:284) »

. بل يجعل المودودي من الحاكمية، بعد صياغتها، شبكة تؤثر في كل محور، وتتعدى إلى كل مجال، فإذا كان الحديث عن مفاهيم عقدية كان حديث المودودي عن الحاكمية الخالصة لله وحده، الذي له علاقة بالإيمان والتوحيد، وإذا كان الحديث عن الجانب السياسي [ ص: 164 ] والقانوني، انتقل المودودي إلى الحديث عن الحاكمية السياسية والحاكمية القانونية ، ونورد هـنا نصا للمودودي يبين فيه معنى الحاكمية باعتباره مفهوما توحيديا وسياسيا وقانونيا وتشريعيا في نفس الوقت، حيث يقول:

«ينبغي علينا لكي نفهم نطاق التشريع الإنساني ومنزلة الاجتهاد في الإسلام أن ننبه لأمرين: الأول أن الحاكمية في الإسلام خالصة لله وحده، فالقرآن يشرح عقيدة التوحيد شرحا بين أن الله وحده لا شريك له، ليس بالمعنى الديني فحسب بل بالمعنى السياسي والقانوني كذلك، فهو الحاكم والمطاع وصاحب الأمر والنهي، والمشرع الذي لا شريك له. يوضح القرآن توضيحا تاما حاكمية الله القانونية ويقدمها جنبا إلى جنب مع عقيدة معبوديته الدينية، ويؤكد على أن هـاتين الصفتين هـما المقتضيات اللازمة لألوهيته تعالى، وأن كلا منهما لا تنفصم عن الأخرى، وإنكار إحداهما يستلزم بالضرورة إنكار ألوهية الله، ولم يدع القرآن مجالا يظن منه احتمال فهم القانون الإلهي على أنه قانون الفطرة، بل على العكس أقام دعوته على أساس حتمية تسليم الإنسان بقانون الله الشرعي في حياته الأخلاقية والمجتمعية، وهو القانون الذي بعثه الله على يد الأنبياء، وقد سمى قبول هـذا القانون الشرعي والتخلي أمامه عن الحرية الشخصية إسلاما، ورفض في عبارات وألفاظ واضحة حق الإنسان في أن يفصل برأيه في الأمور التي أصدر الله ورسوله فيها حكما وفصلا. والأمر الثاني الذي تساوى وتوحيد الله في الإسلام هـو أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء ... » [55] . [ ص: 165 ]

الحاكمية الكونية والاختيار الإنساني

يؤسس المودودي لفكرة الحق الإلهي في الاعتراف بحاكميته في الجزء الاختياري من حياة الإنسان، حيث يربط بين حاكمية الله تعالى الكونية والتي بموجبها له حق التصرف في الكون تسييرا وتسخيرا، وبين حاكمية الله تعالى القانونية والتشريعية والتي مجالها حياة الإنسانية الاختيارية، والتي بموجبها ينقاد الإنسان طاعة باختياره إلى اتباع القوانين الإلهية، في جميع مناحي الحياة. ويجعل المودودي هـذا الاتباع لحاكمية الله التشريعية حقا، ويستند في ذلك إلى أن «القوى والأعضاء الجسدية التي يتمتع بها الإنسان في الاستماع باختياره، وقدرته هـي منحة من الله تعالى ووديعته لدى الإنسان، وهو حق لأن الإنسان ما نال هـذه القدرة لنفسه بنفسه بل الله تعالى هـو الذي أعطاه إياها ... وهو حق لأن من مقتضى التوافق بين نظام الكون والحياة الإنسانية أن يكون الحاكم ومصدر التشريع والأحكام في كلا الجزئين الاختياري وغير الاختياري من حياة الإنسان واحدا». [56]

الحاكمية والتشريع

باعتبار أن التشريع في الحكومة كممارسة عملية يرتبط أساسا بالإنسان، فإن المودودي يربطه مباشرة بمفهوم الحاكمية محاولا بذلك تحديد إطار التشريع ونطاقه، فيقول: «ينبغي علينا لكي نفهم نطاق التشريع الإنساني ومنزلة الاجتهاد في أن ننبه لأمرين الأول: أن الحاكمية في الإسلام خالصة لله وحده ... » [57] [ ص: 166 ] وهذا الربط يجعل مفهوم الحاكمية الإلهية مهيمنا على فكرة التشريع الإنساني. ومن خلال هـذه الهيمنة يتحدد نطاق التشريع الإنساني.

نطاق التشريع

يتحدد نطاق التشريع الإنساني بالنظر إلى مفهوم الحاكمية في نظر المودودي في المجالات التالية:

- توضيح الأحكام وذلك بفهم الحكم الصادر عن الله تعالى، وتحديد مفهومه وأصله، والتحقق من ظروف الحكم وحالاته، مع استخراج الأشكال والصور، التي ينطبق فيها هـذا الحكم، والقيام بوضع الدقائق والتفاصيل الجزئية لمجمل الأحكام، مع مدى تعطيل هـذه الأحكام والقواعد في الحالات الاستثنائية.

- القياس وذلك بفهم أسباب الأحكام وعللها، وتنفيذها في الأمور التي تكمن فيها نفس العلل والدواعي، وتحديد المسمى من هـذه الأمور، وما يخلو حقيقة من أسباب الحكم ودواعيه.

- الاستنباط وذلك بوضع القوانين في الأمور الواقعية الفعلية، بحيث تبنى على ما أوضحته الشريعة من أصول ومبادئ، وبحيث يتحقق منها قصد الشارع وهدفه. [ ص: 167 ]

- التشريع الحر وهو ما سكتت عنه الشريعة وليس فيه حكم صريح أو قياسي أو مستنبط، وللإنسان الحرية التامة في التشريع شريطة أن يتطابق تشريعه مع روح الإسلام ومبادئه العامة. [58]

المودودي ومفهوم الثيوقراطية الإسلامية

يرى المودودي أن فلسفة التنظيم السياسي للدولة في الفكر الغربي يقوم على فكرة الديمقراطية والتي هـي «عبارة عن منهاج للحكم تكون السلطة فيه للشعب جميعا، فلا تغير فيه القوانين ولا تبدل إلا برأي الجمهور ولا تسن إلا حسب ما توحي إليهم عقولهم». [59] ويعتبر المودودي أن هـذه هـي أهم خصائص الديمقراطية، وهي قائمة على الاختيار الشعبي باعتبارها مصدرا نهائيا في الرأي والتشريع، فما رآه مناسبا له شرعه وكان بذلك دستورا، وما رآه غير مناسب ألغاه وأبطله، وبناء على ذلك فإن المودودي يعتبر هـذه الفلسفة ليست من الإسلام في شيء، والديمقراطية بهذا المعنى لا يصح إطلاقها على نظام الدولة الإسلامية، بل يطرح المودودي اصطلاحا بديلا وهو الحكومة الإلهية ، أو الثيوقراطية الإسلامية. [60]

ولا يقصد المودودي بالثيوقراطية ما كان شائعا في الفكر الغربي من قيام طبقة من القساوسة والبابوات يتولون أمر التشريع والتقنين للناس باسم الحق الإلهي ، أو تتستر وراء القانون الإلهي، فإن هـذه الثيوقراطية أسماها المودودي [ ص: 168 ] بالحكومة الشيطانية [61] . ولكن الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام، كما يراها المودودي، هـي «التي لا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشايخ، بل هـي التي تكون في أيدي المسلمين عامة، وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشئونها، وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله [62] . فهذه الثيوقراطية الإسلامية في حقيقتها حكومة قائمة على وحي الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولكن أمرها بيد المسلمين، تسير على مقتضى منهاج النبوة.

ولقد ابتدع المودودي اصطلاحا جديدا يراه ينسجم مع هـذه النظرة التي أبان عنها وهي كلمة « الثيوقراطية الديمقراطية »، حيث يقول: «ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديد لآثرت كلمة «الثيوقراطية الديمقراطية» أو « الحكومة الإلهية الديمقراطية » لهذا الطراز من نظم الحكم؛ لأنه قد خول فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة، وذلك تحت سلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب» [63] . وهذا الاصطلاح المودودي الذي أطلقه على النظام الإسلامي ما هـو إلا تخريج قانوني على مفهوم الحاكمية الإلهية .

قواعد الثيوقراطية الديمقراطية عند المودودي

يمكن ملاحظة أهم القواعد التي تتحكم في طبيعة نظام الحكم الإسلامي عند المودودي ، والذي أسماه بالثيوقراطية الديمقراطية أو الحكومة الإلهية الديمقراطية، في هـذه النقاط الأساسية: [ ص: 169 ] - الأساس الذي تقوم عليه الحكومة الديمقراطية هـو الوحي الإلهي.

- عدم استقلال طبقة من السدنة أو المشايخ على سدة الحكم باسم نظرية الحق الإلهي.

- أمر الحكومة بيد البشر، وهو شورى بين المسلمين.

- تسيير شئون الحكومة مشروط بموافقة الكتاب والسنة.

- حاكمية الشعب لها وجود ومعترف بها، ولكنها مقيدة بحاكمية الله وسلطته القاهرة وحكمه الذي لا يغلب.

- الأمر شورى بين المسلمين في شئونهم، والقطع بحكم لم يأت في الشريعة صريحا مشروط بإجماع المسلمين.

- بيان نصوص الشرع وإيضاحها ليس محصورا في طبقة أو أسرة أو حزب وإنما يتولى ذلك من له درجة الاجتهاد من عامة المسلمين. [64]

حدود الدولة العملية

حدود الدولة العملية في الدستور، كصلاحيات مخولة لها، تقوم عند المودودي على فكرة الحاكمية ، «فإنه إذا كانت هـذه الدولة خلافة من الله تعالى، وتسليم بحاكميته القانونية، فلا بد أن تكون صلاحياتها محدودة في ضمن ما وضع الله تعالى لها من الحدود». [65] فالإطار المحدد لصلاحيات [ ص: 170 ] الدولة، وحدودها العملية، هـو الوحي وعلى ضوئه تمارس الدولة سلطاتها. «فما للدولة أن تأتي بشيء إلا في ضمن هـذه الحدود، ولا يجوز لها أن تتجاوزها في حال من الأحوال بموجب الدستور، وذلك مما لا يوجبه مبدأ الحاكمية فحسب بل قد بينه القرآن بيانا واضحا». [66]

فمبدأ الحاكمية عند المودودي ضابط مهم وأساسي في تحديد إطار الدولة وحدودها العملية.. وإضافة إلى مبدأ الحاكمية القانونية ، فهناك آيات أخرى استدل بها المودودي يراها موجبة لنفس القاعدة، ومن هـذه الآيات قوله تعالى: ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) (البقرة:187) [67] . وإذا كانت الدولة باعتبارها سلطة عامة مهيمنة على غيرها من السلطات يجعلها المودودي خاضعة لسلطة الحاكمية الإلهية ، فإن أركانها التي تقوم عليها من باب أولى تكون خاضعة للمبدأ ذاته.

أولا: السلطة التشريعية

يجعل المودودي المجلس التشريعي مرادفا لما كان يصطلح عليه بأهل الحل والعقد ، ويجعل هـذا المجلس خاضعا لحاكمية الله ورسوله القانونية. حيث يقول: «والظاهر في أمره أن كل دولة أنشئت على الإذعان لحاكمية الله ورسوله القانونية لا يجوز لمجلسها التشريعي في حال من الأحوال أن يضع ولو بإجماع أعضائه كلهم قانونا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم » [68] . [ ص: 171 ] وبذلك ينبغي أن تكون القوانين التي يصدرها المجلس التشريعي موافقة لما دل عليه الكتاب والسنة، ويعتبر المودودي كل قانون مضاد لأحكام الله ورسوله خارجا عن حدود سلطات المجلس التشريعي، مناقضا لصميم الدستور، مجاوزا لحدوده [69] .

وبناء على فكرة الحاكمية ، التي يجعلها المودودي سائدة على المجلس التشريعي ومهيمنة عليه، فإنه يحصر وظيفة المجلس التشريعي في هـذه الأمور:

1- وضع القواعد واللوائح لتنفيذ الأحكام القاطعة الواضحة عن الله ورسوله.

2- اختيار إحدى التأويلات، في الأمور التي تحتمل فيها أحكام الله ورسوله تأويلات عديدة، ويكون لاختياره حكم القانون على شرط اشتمال المجلس على رجال من أرباب العلم يصلحون لتأويل الأحكام.

3- وضع القوانين وإنشائها في الأمور التي لم ترد فيها أحكام في الشريعة على وفق المبادئ الدينية العامة، وله الاختيار من القوانين المدونة في كتب الفقه القديمة.

4- وضع القوانين المناسبة وتشريعها على وفق مصالح الناس، في الأمور التي لم ترد في شأنها عن الشرع قواعد أصولية بشرط عدم معارضتها لمبدأ ديني أو حكم شرعي [70] . [ ص: 172 ]

ثانيا: السلطة التنفيذية

يحصر المودودي مهمة الهيئة التنفيذية، تأسيسا على مبدأ الحاكمية ، في أمرين أساسين هـما:

1- تنفيذ الأحكام الإلهية.

2- تهيئة الظروف في البلاد لتنفيذ تلك الأحكام [71] .

فمهمة الحكومة عند المودودي هـي تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أتم وجه وأحسن صورة، وذلك بتهيئة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من مناحي الحياة العامة داخل البلاد.

فالمودودي يربط بين فكرة التطبيق ومسألة تهيئة التطبيق، ويوكل الأمرين إلى الحكومة القائمة في البلاد، باعتبارها سلطة وكيلة عن الله تعالى منفذة لأحكامه.

ثالثا: السلطة القضائية

ويربطها المودودي مباشرة بمبدأ الحاكمية ، حيث يقول: أما السلطة القضائية فيعني دائرة عملها مبدأ حاكمية الله القانونية نفسه. [72] .

وإنما اعتبر المودودي مبدأ الحاكمية الإلهية هـو المحدد لدائرة عمل السلطة القضائية لأمرين هـما: [ ص: 173 ] 1- قيام الدولة الإسلامية على قواعده ومبادئه.

2- أن مهمة القضاء في الأمم السابقة، بما فيهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم كانت من مهام الأنبياء والرسل، وكانوا يحكمون بما أنزل الله إليهم من الشريعة [73] .

وبذلك يلزم المودودي أولئك الذي يبوأون منصب الأمر والحكم في الدولة والذين يقومون مقام الأنبياء في هـذا الشأن أن يجعلوا أساس أحكامهم وسندها القانون الإلهي. وتبعا لذلك فإن المودودي يرى أن المحاكم ما أنشئت إلا لتنفيذ القانون الإلهي لا لمعارضته ومحاربته. [74] .

تخريج الخصائص الأولية للدولة على مفهوم الحاكمية

بناء على فكرة الحاكمية الذي أسسها المودودي على بعض النصوص القرآنية، فإنه يخرج على هـذا المبدأ أهم الخصائص الأولية للدولة، وهي واحدة من محاولات نقل المبدأ من مفهوم مجرد إلى واقع عملي، له انعكاساته في التنظيم السياسي، الذي تقوم عليه الدولة. وهذه الخصائص هـي:

1- ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية، فإن الحاكم الحقيقي هـو الله، والسلطة الحقيقية مختصة بذاته تعالى وحده، والذين من دونه في هـذه المعمورة إنما هـم رعايا في سلطانه العظيم. [ ص: 174 ] 2- ليس لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع، والمسلمون جميعا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا يستطيعون أن يشرعوا قانونا ولا يقدرون أن يغيروا شيئا مما شرع الله لهم.

3- الدولة الإسلامية لا يؤسس بنيانها إلا على ذلك القانون المشرع الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، من عند ربه مهما تغيرت الظروف والأحوال والحكومات التي بيدها زمام الدولة، ولا تستحق طاعة الناس إلا من حيث إنها تحكم بما أنزل الله وتنفذ أمره تعالى في خلقه.

وهذه الخصائص التي يراها المودودي امتدادا لمفهوم الحاكمية الإلهية ، التي تعكس طبيعة النظام السياسي الإسلامي، وتعبر عن حقيقة مصطلح الخلافة، هـذه الخصائص ترتبط بمفهوم الحاكمية الإلهية، ومؤسسة على مبادئ أهمها:

- اختصاص الله تعالى بمطلق الحاكمية بنوعيها، الحاكمية القانونية والحاكمية السياسية، فالله تعالى هـو الحاكم الأعلى وهو كذلك صاحب السلطة الحقيقية.

- مسمى الحاكمية لا ينطبق على فرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو جمهور الناس الذين يمثلون شعب الدولة.

- موقع الناس من منظومة الحاكمية الإلهية أنهم رعايا في سلطان الحاكم الأعلى وهو الله تعالى.

- اختصاص أمر التشريع ابتداء بالله تعالى دون غيره. [ ص: 175 ] - مهمة الناس التشريع ابتناء.

- عدم صلاحية قرارات المحكومين لإلغاء قرار الحاكم الأعلى (الله) وإبطاله.

- تغير الحكومات واختلاف أنظمة طبيعة الحكم في الدولة لا يؤثر على قوانين وتشريعات الحاكمية الإلهية .

- ديمومة مصدرية الوحي الإلهي لكل دستور مهما تغيرت طبيعة النظام السياسي للدولة.

خطوات أربع لأسلمة الدولة

يرى المودودي أن هـناك خطوات أربع لا بد من حصولها لأسلمة الدولة [75] ، وهي:

الأولى: أن الحاكمية لله تعالى وحده، وليس للحكومة شيء من الأمر سوى أن تنجز أمر مالكها الحقيقي في أرضه.

الثانية: أن القانون الأساسي للدولة الشريعة الإلهية التي قد بلغتنا بواسطة سيد الرسل وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم .

الثالثة: أن كل قانون من قوانين البلاد يبطل إن كان معارضا للشريعة الإسلامية، وأنه لا ينفذ في البلاد قانون يعارض الشريعة. [ ص: 176 ]

الرابعة: أن لا تتصرف الحكومة في شئون الدولة إلا في ضمن الحدود المرسومة في الشريعة لوظيفتها.

واعتبر المودودي هـذه الخطوات الأربع بمثابة كلمة الشهادة للدولة تؤدى على لسان المجلس التأسيسي للدولة. [76]

تأثر المودودي بالمصطلحات الغربية

المتتبع للفكر السياسي للمودودي ، وللنظرية السياسية التي صاغها، يجد فيها مساحات واضحة من الفكر الغربي، تتمثل أساسا في المصطلحات التي وظفها أثناء التنظير للنظرية السياسية. ولا يفهم من هـذا التأثر أن المودودي قبل بمضامين الفكر الغربي، وروج لنظرياته السياسية، بل على العكس من ذلك فقد وقف منه موقف النقيض.

وحضور الفكر الغربي في أطروحات المودودي كان بمصطلحاته لا بمضامينه، حيث وظف جملة من المصطلحات التي راجت في الفكر الغربي، في نظريته السياسية، التي يمكن ملاحظتها في: « الخلافة الجمهورية »، « الثيوقراطية الديمقراطية »، « الحكومة الإلهية الديمقراطية »، « الديمقراطية الإسلامية »، وهذه العبارات أوردها المودودي كأوصاف نعت بها النظام السياسي الإسلامي. وهي في حقيقتها وليدة الفكر الغربي، ونتاج لبعض [ ص: 177 ] نظرياته السياسية، ولكن توظيف المودودي لها في أطروحاته السياسية كانت لأسباب ومبررات نوجزها في هـذه النقاط:

- رواج هـذه المصطلحات وشيوعها في البلاد.

- شيوع النظريات الغربية السياسية بين عامة المثقفين.

- تولي العلمانيين والشيوعيين والقاديانيين والمستغربين مناصب في دوائر حكومية في النظام السياسي القائم ( باكستان ) .

فالمودودي أراد أن يتكلم بلغة يفهمها الجميع، المسلم وغيره، خاصة وهو يعيش في دولة متعددة الأعراق والأديان، فتوظيف المصطلحات الإسلامية الخالصة قد يفوت على كثير من الناس استيعاب جوهر الفكرة السياسية الإسلامية، فأبقى على بعض المصطلحات الغربية التي لها وضوح عند الناس، وعراها من حقيقتها واستبدلها بالمضامين الشرعية والإسلامية. وبذلك فالمودودي استهدف من خلال توظيفه للمصطلحات الغربية جملة أهداف منها:

- توظيف المصطلح السياسي الغربي، في المنظومة السياسية الإسلامية، لتقريب الفهم وإيصال الخطاب السياسي الإسلامي إلى الرأي العام. - تعرية المصطلحات الغربية من المضامين التي تخالف مبادئ الإسلام، ومحاولة إصباغها بصبغة إسلامية تتفق مع قواعد الدين الإسلامي. فيقول مثلا: « ... فمن هـذه الوجهة يعد الحكم الإسلامي ديمقراطيا، إلا أنه إذا وجد نص من أمراء المسلمين أو مجتهد أو عالم من علمائهم ولا لمجلس [ ص: 178 ] تشريعي لهم، بل ولا لجميع المسلمين في العالم أن يصلحوا أو يغيروا من كلمة واحدة، ومن هـذه الجهة يصح عليها إطلاق كلمة الثيوقراطية ». [77]

- سهولة نقد الفكر الغربي السياسي بإحداث مقابلة بينه وبين الفكر السياسي الإسلامي في مضامين المصطلحات، فيقول مثلا: «هذه خصائص الديمقراطية وأنت ترى أنها ليست من الإسلام في شيء، فلا يصح إطلاق كلمة الديمقراطية على نظام الدولة الإسلامية، بل أصدق منها تعبيرا كلمة الحكومة الإلهية ، أو الثيوقراطية ، ولكن الثيوقراطية الأوروبية تختلف عنها الحكومة الإلهية ( الثيوقراطية الإسلامية ) اختلافا كليا فإن أوروبا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة مخصوصة يشرعون للناس قانونا من عند أنفسهم ... أما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السدنة والمشايخ ... ». [78]

وما انتهى إليه المودودي هـو أن النظام الإسلامي السياسي يختلف عن النظام السياسي الغربي، وإن تشابهت المصطلحات فإن المضامين مختلفة، وهذا ما أدى بالمودودي إلى محاولة ابتداع مصطلحات جديدة، منها ما اسماه ب: « الثيوقراطية الديمقراطية أو الحكومة الإلهية الديمقراطية» [79] وإن كان المودودي قد حاول ابتكار مصطلحات سياسية إسلامية جديدة، إلا أنه بقي [ ص: 179 ] في ظلال تلك المصطلحات آثار من الفكر الغربي، خاصة ما يعرف بنظرية الحق الإلهي التي عاشها الفكر الغربي مرحلة من الزمن.

وعلى الرغم من الخطوات الجادة التي خطاها المودودي محاولا بذلك صياغة نظرية الإسلام السياسية، التي ترتكز على مفهوم الحاكمية ، إلا أن محاولته تلك عليها بعض المآخذ منها:

أن المودودي نسج نظريته السياسية على نفس منوال الفكر الغربي، حيث إن المتأمل في طرحه يشعر بنوع من المقاربة أو المقابلة بين النظرية الغربية والنظرية الإسلامية، وسبب ذلك أن المودودي لم يستطع أن يتخلص من المصطلحات الغربية المتداولة في فكرهم السياسي، وعلى الرغم من العذر الذي التمسته للمودوي مع توجيه بعض آرائه في توظيف المصطلحات الغربية إلا أن ذلك لم يكن مبررا كافيا، حيث إن المودودي أبقى تلك المصطلحات واستبدل مضامينها فقط، وحاول في بعض الأحيان ابتداع بعض المصطلحات ولكنها بقيت فيها ظلال ومسحات الفكر الغربي واضحة المعالم خاصة ما يعرف بنظرية الحق الإلهي المباشر التي عاشها الفكر الغربي مرحلة من الزمن، فالمودودي استرجع فترة تاريخية وقام بعملية إسقاط ومقابلة في جانب المصطلحات والمضامين، وكان الأجدى والأنفع لو أنه، رحمه الله، شرح النظرية السياسية الإسلامية بصياغة إسلامية مستقلة في مصطلحاتها، ومتميزة في أسسها ومبادئها دفعا لبعض التشابه الذي يمكن أن يلاحظ بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي. [ ص: 180 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية