الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مقدمة

تعتبر الحاكمية من المفاهيم المتداولة في الفكر الإسلامي المعاصر، وقد أثارت فكرة الحاكمية جدلا معرفيا، وخلافا فكريا بين أصحاب الفكر والدعوة، كما شكل هـذا المفهوم، في فترات زمنية معينة، محورا للممارسات الدعوية والحركية، واتخذ أصلا للتنظيرات الفكرية والدعوية، ومرتكزا لبناء النظريات السياسية الإسلامية في أنظمة الحكم.

وقد اختلف المفكرون الإسلاميون المعاصرون حول تحديد هـذا المفهوم وتأصيله، لما يواجه هـذا المفهوم من أزمة وما يكتنفه من غموض على مستوى النشأة والتنظير، فضلا عن النتائج العلمية والعملية التي رتبت على أساسه، ولهذا اختلفت أساليب التعامل معه بين ناظر له باعتباره مفهوما مصدره الشريعة وبين معتبر له مفهوما فكريا مصدره الإنتاج العقلي البشري. وعلى هـذا الأساس كانت التنظيرات الفكرية لهذا المفهوم متباينة انطلاقا من الظروف الفكرية والملابسات الواقعية التي عاشها كل مفكر، وبقي هـذا المفهوم، بدلالاته ومعانيه التي استقرت، أساسا للتحرك ومرجعا للفكر ومستندا لكثير من التفسيرات المختلفة.

وإن الملاحظ لتفسيرات هـذا المفهوم يجد أنه غلب عليه الطابع الأدبي والخطابي الوعظي، بحيث حمل المصطلح إحدى المعاني التي يحتملها (البعد العقدي والسياسي) دون اعتبار للدلالات الأخرى، ومن غير تطلع إلى الأبعاد المنهاجية التي يحملها، مما أبقى هـذا المفهوم حبيس دلالات علمية محددة ومعالم فكرية [ ص: 27 ] ضيقة. في حين نجد أن هـذا المفهوم له عمقه الفلسفي وأبعاده المنهاجية ومعالمه السياسية الضابطة لغيره من المفاهيم الموازية له في الفقه السياسي الإسلامي.

وبناء على هـذا الاعتبار كان لا بد من مراجعة هـذا المفهوم، وبيان أسسه الفكرية، وجذوره اللغوية، وأنساقه الأصولية، وسياقاته التاريخية، وإعادة صياغته وتركيبه ضمن خطوات علمية منهجية تكشف عن ماهيته ومقاصده وأبعاده وطبيعة التوظيف التداولي له للإجابة عن بعض الإشكاليات المتعلقة به، ومحاولة إخراجه من حيز الإشكال والغموض إلى دائرة الوضوح والبيان.

ومن هـنا نرى أهمية مناقشة هـذا المفهوم وبعض المعاني والمسائل المتعلقة به، لما لذلك من أهمية في الدراسات الفكرية والعقدية والسياسية المقارنة، وتتجلى هـذه الأهمية على مستويين:

أولا: المستوى النظري العلمي: وذلك بتحديد مفهوم الحاكمية ، الذي شاع في الفكر الإسلامي المعاصر ببعده السياسي والعقدي، حيث كان موضع جدل وخلاف بين المفكرين، في إطار دراسة مقارنة تهدف إلى تفكيك هـذا المصطلح وتحليله ونقده ثم إعادة بنائه وصياغته صياغة نظرية منهجية، مع محاولة إعطاء إجابات عن الأسئلة المطروحة الدائرة حول المفهوم.

ثانيا: المستوى العملي التطبيقي: وذلك بالاستفادة العملية بتنزيل هـذه النظرية في الواقع وتطبيقها لضمان استقرار فكري في الحياة العامة القائمة على الفهم والمرجعية الإسلامية.

وتسعى هـذه الدراسة إلى طرح إشكاليتها في إطار عدة أسئلة، تشكل إطار بحث هـذه المشكلة، وتمت صياغتها في مجالات محددة تعد محلا للنزاع والجدل، وتحاول هـذه الدراسة الإجابة عنها، وأهم هـذه الأسئلة هـي: [ ص: 28 ] 1 - ما طبيعة التطور الدلالي، والنسق المعرفي، والسياق التاريخي لمفهوم الحاكمية ؟

2 - ما طبيعة النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) التي ارتكز عليها هـذا المفهوم، ومدى اتساق دلالاته مع معاني الخطاب الشرعي؟

3 - ما الجذور التاريخية التي نشأ فيها هـذا المفهوم، والأبعاد المنهاجية المختلفة التي يحملها ويدل عليها؟

4 - معنى مصدر الحاكمية في الفكر الإسلامي.

كما تحاول هـذه الدراسة تحقيق جملة من الافتراضات والإجابات التي تتمثل أساسا في:

1 - أصالة مفهوم الحاكمية في الفكر الإسلامي.

2 - مفهوم الحاكمية مفهوم يكتنفه بعض الغموض، مما يقتضي تحليله وتفكيكه، مع بيان أهم مداخله المنهجية.

ولأجل ذلك اقتضى مني لمعالجة هـذه المفاهيم والمسائل المعروضة معالجة تقترب من الحق والصواب، إن شاء الله، سلوك المنهج التحليلي المقارن، حيث تقوم هـذه الدراسة بالتعرض إلى مختلف الأفكار والمذاهب التي تناولت مفهوم الحاكمية في الفكر الإسلامي، القديم والحديث، وذلك بالتعرض إلى آراء الخوارج ومذهب المعتزلة، وأفكار المودودي ، وسيد قطب ، مع دراستها وتحليلها ونقدها ومقارنتها. كما يوظف الباحث منهج الاسترداد التاريخي؛ لأن المفهوم له جذور تاريخية، وهذا ما يدفع الباحث إلى استعراض بعض الفرق الإسلامية في فترات زمنية معينة ومدى ارتباط بعض أفكارهم بفكرة الحاكمية. كما يستعمل الباحث منهج الاستقراء والتحليل والنقد [ ص: 29 ] والاستنتاج لبلورة الأفكار وتطويرها والوصول إلى نتائج عملية موفقة، إن شاء الله تعالى.

ولا يدعي الباحث أن هـذه الدراسة سوف تحل مختلف الإشكاليات المحيطة بمفهوم الحاكمية ، بقطع كل نزاع وفض كل جدل حول ما تحمله من معاني نظرية وتطبيقات عملية مورست ومازالت تمارس، ولكن تبقى هـذه الدراسة محاولة لتحديد المداخل المنهجية التي ينبغي مراعاتها عند بحث مفهوم الحاكمية، فضلا عن التنبيه على بعض دلالات ومعاني الحاكمية التي ينبغي استحضارها للتقدم خطوة نحو فهم صحيح وسليم لمفهوم الحاكمية بعيدا عن المصادرات والإسقاطات والخطابات الأدبية، التي تتعامل مع هـذا المصطلح بوصفه مفتاحا سحريا يوظف في كل مجالات النظر حتى غدا مصطلحا وظيفيا في يد العالم والجاهل يوظفه كيفما شاء قصد تقرير أحكام معينة أو ترويج أفكار ما.

وبناء على ذلك، فالبحث يستهدف محاولة وضع هـذا المصطلح في مكانه الصحيح في المنظومة المعرفية، وتحديد أهم المداخل المنهجية التي ينبغي مراعاتها عند بحث هـذا المصطلح، حتى تلتقي وجهات النظر المختلفة؛ لأن الواقع الذي نحن فيه يشهد أن هـناك من يتحدث عن مفهوم الحاكمية بأبعاده العقدية، وهناك من يتحدث عنه بأبعاده السياسية، وهناك من يتحدث عنه بأبعاده الأخلاقية، فأنى لهذه الأطراف أن تلتقي، وأنى لوجهات النظر هـذه أن تتوحد؟ ولا يتأتى لها ذلك حتى تدرك طبيعة الحقل المعرفي التي تتحدث فيه، وماهية المجال المؤطر لمفهوم الحاكمية؛ وهذا الخلط هـو الذي أدى إلى بحث النظرية الإسلامية السياسية بأبعاد لاهوتية، وأضفى على المعالم العامة لنظرية الإسلام السياسية ظلالا كهنوتية قريبا مما وقعت فيه الكنيسة. [ ص: 30 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية