الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الحاكمية في الفكر الإسلامي

الدكتور / حسن لحساسنة

المبحث الثاني

دلالات الحاكمية في الأصول الشرعية والاصطلاحات العلمية

(تفكيك مفهوم الحاكمية شرعا واصطلاحا)

المستوى الأول: الأصول الشرعية

أولا: القرآن الكريم

دلالات ومعاني الجذر (ح.ك.م) في القرآن الكريم [1] :

1- القضاء والفصل في المظالم والخصومات:

ورد لفظ الحكم في القرآن الكريم بمعنى القضاء والفصل في المظالم والخصومات، وعليه دلت كثير من الآيات، وهو ما يقتضيه ويتضمنه معنى الحاكمية ، حيث إن الله تعالى الذي وصف نفسه بالحاكم ينفرد يوم القيامة بالقضاء والفصل بين العباد في نزاعهم واختلافهم الذي كان في الدنيا، قال [ ص: 37 ] الله تعالى: ( قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد ) (غافر:48) ،

يعني بفصل قضائه فأسكن أهل الجنة الجنة، وأسكن أهل النار النار [2] ؛

وقوله تعالى: ( إن الله يحكم بينهم في ما هـم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هـو كاذب ) (الزمر:3)

يعني إن الله يفصل بين هـؤلاء الأحزاب، الذين اتخذوا في الدنيا من دون الله أولياء، يوم القيامة، فيما هـم فيه يختلفون في الدنيا من عبادتهم ما كانوا يعبدون فيها [3] ؛

وقوله تعالى: ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ) (النور:48)

روي أن هـذه الآية نزلت « في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ويقول: إن محمدا يحيف علينا، » « وروي أن المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه خصومة في ماء وأرض، فقال المغيرة: أما محمدا فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني، وأنا أخاف أن يحيف علي » ، والمعنى: أنهم لمعرفتهم أنه ليس مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الحق المر والعدل البحت يزورون عن المحاكمة إليه إذا ركبهم الحق، لئلا ينتزعه من أحداقهم بقضائه عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حق على [ ص: 38 ] خصم أسرعوا إليه ولم يرضوا إلا بحكومته ليأخذ لهم ما ذاب لهم في ذمة الخصم [4] ؛

ومنه قوله تعالى: ( ما لكم كيف تحكمون ) (الصافات:154) ،

تعجب من سوء قضائهم [5] ؛

وقوله تعالى: ( إن لكم لما تحكمون ) (القلم:39) ،

أي تفصلون [6] ؛

وقوله تعالى: ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ) (النساء:35) ،

أي قاضيا بين المتنازعين [7] ،

وقوله تعالى: ( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) (المائدة:50) ،

أي قضاء وفصلا [8] . وفي هـذا السياق الدلالي يدخل قوله تعالى: ( الملك يومئذ لله يحكم بينهم ) (الحج:56) ،

وقوله: ( اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ) (الزمر:46) .

2- الإحكام والإتقان

تتضح هـذه المعاني في قوله تعالى: ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) (هود:1) ،

يعني أحكم الله آياته من الدخل والخلل والباطل، ثم فصلها بالأمر والنهي، وذلك أن إحكام الشيء إصلاحه وإتقانه، [ ص: 39 ] وإحكام آيات القرآن إحكامها من خلل يكون فيها أو باطل يقدر ذو زيغ أن يطعن فيها من قبله. [9] وقال الزمخشري : نظمت نظما رصينا محكما لا يقع فيه نقض ولا خلل، كالبناء المحكم المصف [10] . أي أتقنت ووضحت معانيها [11] .

3- الفهم والفقه والعقل والعلم:

ومن ذلك قوله تعالى: ( ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ) (القصص:14) ،

يعني الفهم بالدين والمعرفة، وعن مجاهد: الفقه والعقل والعمل قبل النبوة، وعن إسحاق (ولما بلغ أشده واستوى) آتاه الله حكما وعلما فقها في دينه ودين آبائه وعلما بما في دينه وشرائعه وحدوده. [12] وقيل الفهم والعلم. [13]

وقوله: ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ) (مريم:12) ،

عن ابن عباس أنه الفهم للتوراة والفقه في الدين، وعن معمر : العقل، وقيل: النبوة؛ لأن الله أحكم عقله في صباه وأوحى إليه [14] . قال الطبري : وأعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال [15] .

وقوله تعالى: ( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ) (الأنعام:89) .

والحكم يعني الفهم بالكتاب، ومعرفة ما فيه [ ص: 40 ] من الأحكام وعن مجاهد : ( والحكم والنبوة ) ، قال: الحكم هـو اللب ، قال الطبري : وعني بذلك مجاهد إن شاء الله ما قلت؛ لأن اللب هـو العقل، فكأنه أراد أن الله آتاهم العقل بالكتاب وهو معنى ما قلنا من أنه الفهم به [16] .

وقوله: ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ) (البقرة:269) ،

يؤتى الحكمة بمعنى يوفق للعلم والعمل به، والحكيم عند الله: هـو العالم العامل [17] ، وقال ابن الجوزي : العلم والفقه [18] . [ ص: 41 ] وقال ابن قتيبة : الحكمة العلم والعمل، ولا يسمى الرجل حكيما حتى يجمعهما [19] ؛ وقوله تعالى: ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين ) (الجاثية:16) الحكم بمعنى الحكمة والفقه [20] ؛ وقوله تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ) (آل عمران:81) ،

الحكمة هـنا بمعنى الصواب من قول وعمل وعلم نافع. [21]

4- الوضوح والإبانة:

ومن ذلك قوله تعالى: ( فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم ) (محمد:20) ، أي مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجها إلا وجوب القتال [22] ؛

وقوله: ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هـن أم الكتاب وأخر متشابهات ) (آل عمران:7) ،

أي أحكمت عبارتها فصارت واضحة المعنى بعيدة الاحتمال، معينة المعنى واضحة لا شبهة فيها [23] ، [ ص: 42 ] أو أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه [24] ، وقال الطريحي : إن المحكم ما هـو واضح قائم بنفسه لا يفتقر إلى استدلال [25] .

وقوله تعالى: ( ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ) (الحج:52) ، بمعنى يوضح معانيها. [26]

5- النبوة والرسالة:

ومن ذلك قوله تعالى: ( رب هـب لي حكما وألحقني بالصالحين ) (الشعراء:83) ،

يعني هـب لي نبوة ( وألحقني بالصالحين ) واجعلني رسولا إلى خلقك حتى تلحقني بذلك بعداد من أرسلته من رسلك إلى خلقك أئتمنته إلى وحيك واصطفيته لنفسك [27] ، وقوله تعالى: ( وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ) (البقرة:251) ،

وقوله تعالى: ( وآتيناه الحكمة ) (ص:20) فالحكمة هـنا النبوة. [28] قال ابن حجر : وقد وردت - الحكمة - بمعنى بالنبوة. [29]

6 - القرآن الكريم:

ومن الآيات التي تدل على ذلك قوله تعالى: ( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ) (آل عمران:58) .

يعني والقرآن الكريم، يعني ذي الحكمة الفاصلة بين الحق والباطل، بينك وبين ناسبي المسيح إلى غير نسبه، [ ص: 43 ] وعن محمد بن جعفر : القاطع الفاصل الحق الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى وعما اختلفوا فيه من أمره فلا تقبلن خبرا غيره، وعن الضحاك : القرآن، وعن ابن عباس : القرآن الحكيم الذي قد كمل في حكمته. [30] ،

وقوله تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن ) (النحل:125)

الحكمة القرآن الكريم [31] ،

وقوله تعالى: ( وكذلك أنزلناه حكما عربيا ) (الرعد:37) ،

وإنما سمي القرآن حكما؛ لأن فيه جميع التكاليف والأحكام والحلال والحرام والنقض والإلزام، فلما كان القرآن سببا للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة، وقيل: إن الله تعالى لما حكم على جميع الخلق بقبول القرآن والعمل بمقتضاه سماه حكما لذلك المعنى [32] .

7 - السنة النبوية:

وذلك في قوله تعالى: ( ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما ) (القصص:14) ،

الحكم: السنة، وحكمة الأنبياء سنتهم [33] ،

وقوله تعالى: ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا ) (الأحزاب:34) ،

الحكمة بمعنى السنة

[34] [ ص: 44 ] ، وقال الشافعي : ذكر الله تعالى الكتاب وهو القرآن وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ذكر الله عز وجل منته على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة فلم يجز أن تعد الحكمة هـاهنا إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله [35] . أي واقرأن آيات القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم [36] . قال ابن كثير : أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة [37] ،

وقوله تعالى: ( ويعلمكم الكتاب والحكمة ) (البقرة:151) ،

وقوله تعالى: ( وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) (البقرة:231) ،

وقوله تعالى: ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ) (النساء:113) ،

المراد بالحكمة في هـذه الآيات الثلات السنة [38] . وقال قتادة : الحكمة السنة [39] .

8- التحليل والتحريم:

ومن ذلك قوله تعالى: ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف:40) ، [ ص: 45 ] بمعنى إن الحكم في أمر العبادة والدين [40] ، فهو الذي أمر ألا تعبدوا أنتم وجميع خلقه إلا الله الذي له الألوهية والعبادة الخالصة دون ما سواه من الأشياء، وعن أبي العالية قال: أسس الدين على الإخلاص لله وحده لا شريك له [41] . وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ) (المائدة:1) .

أي الخلق له، يحل ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد على من يريد [42] .

9- القضاء والقدر:

ومن ذلك قوله تعالى: ( والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ) (الرعد:41) ،

أي لا راد لحكمه [43] . وهو معنى القضاء والقدر، «وحقيقة المعقب هـو الذي يتعقب الشيء بالإبطال وعلى الكفر بالادبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره، ومحل «لا» مع النفي النصب على الحال، أي يحكم نافذا حكمه خاليا من المدافع والمعارض والمنازع لا يتعقب حكمه أحد بتغيير ولا نقض» [44] . [ ص: 46 ]

10- العظة والعبرة:

ومنه قوله تعالى: ( حكمة بالغة فما تغن النذر ) (القمر:5) ،

وهو وصف للقرآن الكريم، بمعنى عظة وعبرة [45] ، أي في هـدايته تعالى لمن هـداه وإضلاله لمن أضله [46] . فالقرآن حكمة بالغة بلغت النهاية في الهداية والبيان [47] .

11- الحكم بالمفهوم السياسي:

ورد لفظ الحكم في القرآن الكريم بمعناه السياسي في آيات مختلفة، حيث ربط معنى الحكم بالمفهوم السياسي، من ذلك:

أ- التحاكم إلى غير شرع الله: من ذلك قوله تعالى: ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) (النساء:60) ،

فالآية دالة على وجوب الكفر بالطاغوت وعدم التحاكم إليه. والطاغوت عند أهل اللغة كل ما عبد من دون الله وأطيع طاعة فيها معصية أو خضع له [48] .

وقوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الكافرون ) (المائدة:44) ،

وقوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم [ ص: 47 ] الظالمون ) (المائدة:45) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الفاسقون ) (المائدة:47) ،

والحكم بما أنزل الله يقتضي وجود سلطة بيدها قوة الأمر والإلزام لتحكيم الشريعة في الواقع، ويتمثل هـذا في الحكومة التي تتولى تسيير أمور الدولة.

ب- الملك: ومنه قوله تعالى: ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ) (الجاثية:16) ،

الحكم الملك [49] ، وهو منصب سياسي به يتم إدارة الدولة وسياسة شئونها، وتسيير أمور الشعب ورعاية مصالحه.

ج- ولاة الأمور: ويدل على ذلك قوله تعالى: ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام ) (البقرة:188) ،

فهذا خطاب إلى جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق [50] . والآية واضحة في أنه يمكن استعمال الحكام الذين بيدهم السلطة السياسية أو القضائية في هـضم بعض حقوق الناس ومساندة بعض الظلمة في أكل أموال الناس بالباطل، ولهذا ذهب العلماء إلى أن من أخذ مال غيره لا على وجه شرعي، فقد أكل مالا باطلا، وقضاء الحاكم أو القاضي لا يؤثر في الحرمة والحل ، بمعنى لا يجعل الحلال حراما ولا الحرام حلالا، وقد نقل القرطبي في تفسيره إجماع العلماء على ذلك في الأموال حيث قال: وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن ، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج إلا ما حكي عن أبي حنيفة في الفروج [51] . [ ص: 48 ] والمراد بالحاكم هـو ولي الأمر الذي بيده سلطة الأمر، وهو منصب سياسي في الدولة، ولهذا ربط القرآن الكريم بين أكل أموال الناس بالباطل وبين الإدلاء [52] إلى الحكام وولاة الأمور بالحجج الزائفة والباطلة، وعلة ذلك هـو حصول الحجة الظاهرة للظالم بحكم الحاكم. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) (النساء:58-59) .

فهذا أمر منه تعالى بالحكم بين الناس، ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب : إن هـذه الآيات إنما نزلت في الأمراء يعني الحكام بين الناس [53] . [ ص: 49 ]

12- الشريعة:

ويدل على ذلك قوله تعالى: ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ) (المائدة:43) ،

أي قضاؤه وفصله [54] في الحلال والحرام وغيرها من القضايا والأحكام، وهو معنى الشريعة التي تتضمن الأحكام والقوانين والتشريعات والأقضية المتعلقة بحياة الناس.

ثانيا: السنة النبوية والآثار

وردت أحاديث نبوية تضمنت بعض اشتقاقات الجذر اللغوي (ح.ك.م) بدلالات ومعاني مختلفة نورد بعضا منها:

( عن شريح بن هـانئ ، عن أبيه هـانئ ، أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إن الله هـو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟.. وكناه بأبي شريح ) [55] . وإنما كره له ذلك لئلا يشارك الله في صفته [56] .

( وعن ابن عباس ، رضي الله عنهما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم ... وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت [ ص: 50 ] وما أخرت ) [57] ، أي رفعت الحكم إليك ولا حكم إلا لك، وقيل: بك خاصمت في طلب الحكم وإبطال من نازعني في الدين، وهي مفاعلة من الحكم [58] .

( وعن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هـلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) [59] ، يقول الكرماني : لفظ الحكمة إشارة إلى الكمال العلمي، ويفضي إلى الكمال العملي، وبكليهما إلى التكميل، والمراد بها معرفة الأشياء التي جاء الشرع بها، أي الشريعة [60] .

( وعن عائشة، رضي الله عنها قالت: ... فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد ، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية والنساء، وتقسم أموالهم. وعن هـشام قال: قال أبي: فأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل ) [61] . يقول النووي : فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهماتهم العظام، وقد أجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إلا الخوارج ... وفيه جواز محاكمة أهل قرية، أو حصن على حكم حاكم مسلم عدل صالح للحكم أمين على هـذا الأمر [62] . [ ص: 51 ] ( وعن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما أنه قال: ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو ) [63] .

( وقال ابن عباس ، رضي الله عنهما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم ) [64] ، يريد المفصل من القرآن؛ لأنه لم ينسخ منه شيء، وقيل: هـو ما لم يكن متشابها؛ لأنه أحكم بيانه بنفسه ولم يفتقر إلى غيره [65] .

ثالثا: مفهوم (ح.ك.م) في أسماء الله الحسنى

ورد الجذر (ح.ك.م) في أسماء الله الحسنى بثلاثة صيغ وهي: الحكم، الحاكم، الحكيم، أما «الحكم» فقد ورد في آية واحدة وهي قوله تعالى: ( أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب [ ص: 52 ] مفصلا ) (الأنعام: 114) [66] ، وأما «الحاكم» فقد ورد في خمس آيات منها قوله تعالى: ( فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ) (الأعراف:87) [67] ، وقد وردت كلها بصيغة الجمع، وأما «الحكيم» فقد وردت أربعا وتسعين مرة، منها قوله تعالى: ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) (البقرة:32) ، ونجد أن معاني أسماء الله تعالى في الجذر (ح.ك.م) تحمل نفس معاني ودلالات الحاكمية ، لأن مصدر هـذا الأخير مأخوذ من الحاكم أو الحكم أو الحكيم، لأن الحكم اسم للحدث من حيث هـو بخلاف الحاكم أو الحكم أو الحكيم، فإن معناه أن هـناك ذاتا تتصف به، وأقرب لفظ إلى البناء التركيبي للفظ الحاكمية هـو الحاكم، فتقول: هـو حاكم من حيث إنه صاحب سلطة، وله الحاكمية من حيث إن له السلطة.

- دلالات الحكم والحاكم والحكيم

نلاحظ أن هـناك تقاربا في دلالات هـذه الأسماء الثلاثة لما فيها من الامتداح المركب على الجذر (ح.ك.م) ، وهذا ما ذهب بالقرطبي إلى تفسير الحكم بالحاكم في قوله تعالى: ( أفغير الله أبتغي حكما ) (الأنعام:114) ، حيث قال: والمعنى: أفغير الله أطلب لكم حاكما. ثم أورد الرأي الآخر [ ص: 53 ] بصيغة التمريض فقال: ثم قيل: الحكم أبلغ من الحاكم إذ لا يستحق التسمية بحكم إلا من يحكم بالحق لأنها صفة مدح والحاكم صفة جارية على الفعل، فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق [68] . كما سوى بين الحاكم والحكم ابن دريد حيث قال: يقال فلان حكم بيننا وحاكم بيننا، سواء في المعنى [69] .

- الفرق بين الحاكم والحكم

لا ضير في التسوية بين الحاكم والحكم، ولكن الدقة العلمية تقتضي المغايرة، يقول الزجاج : الحكيم من الرجال يجوز أن يكون فعيلا في معنى فاعل، ويجوز أن يكون في معنى مفعل، والله حاكم وحكيم، والأشبه أن يحمل كل واحد منهما على معنى غير معنى الآخر ليكون أكثر فائدة [70] . فالحكم أبلغ من الحاكم؛ لأنها صفة تعظيم في مدح، قال الراغب الأصفهاني : ويقال حاكم وحكام لمن يحكم بين الناس،

قال الله تعالى: ( وتدلوا بها إلى الحكام ) (البقرة: 188) ،

والحكم المتخصص بذلك فهو أبلغ، قال الله تعالى: ( أفغير الله أبتغي حكما ) (الأنعام:114) ،

وقال عز وجل : ( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) (النساء:35) [71] . [ ص: 54 ]

- الحكيم:

لفظة حكيم صيغة مبالغة، أو صيغة تعظيم بصاحب الحكمة، فيكون معنى الحكيم هـو العظيم في حكمته، وقيل: إن هـذا اللفظ فعيل بمعنى مفعل، ومعنى الإحكام في حق الله تعالى في خلق الأشياء هـو إتقان التدبير فيها، وحكم التقدير لها، فالحكمة في حقه معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام والإتقان والكمال، وقد يكون الحكيم بمعنى كونه مقدسا منزها عن فعل ما لا ينبغي، وقيل: الحكيم هـو المحسن في تدبيره، اللطيف في تقديره، وهو الخبير بحقائق الأمور، العليم بحكمة المقدور، وهو الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويعلم خواصها ومنافعها [72] . وقال الزجاجي : الحكيم الذي أفعاله محكمة متقنة لا تفاوت فيها ولا اضطراب، وقيل له ذلك لإتقان أفعاله واتساقها وانتظامها وتعلق بعضها ببعض [73] . وقال الحليمي : الحكيم الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من حي عالم قدير، وقال أبو سليمان: الحكيم هـو المحكم لخلق الأشياء، صرف عن مفعل إلى فعيل، ومعنى الإحكام لخلق الأشياء إنما ينصرف إلى إتقان التدبير فيها وحسن التقدير [74] . [ ص: 55 ] والحكيم لا يسمى حكيما حتى يكون عالما محكم الأفعال ممتنعا عن القبائح ومجانسة الجهال وملابسة القبيح والظلم [75] .

- الحاكم:

وهو منصب يجمع معاني السؤدد والرفعة والأمر والنهي، قال أبو سليمان : وقيل للحاكم حاكم لمنعه الناس عن التظالم وردعه إياهم [76] .

- الحكم:

ويقال: الحكم للواحد والجمع [77] ، قال الحليمي : وهو الذي إليه الحكم، وأصل الحكم منع الفساد، وشرائع الله تعالى كلها استصلاح للعباد [78] .

الخلاصة

مما سبق يمكن ملاحظة الفروق الدقيقة بين الأسماء الثلاثة، فالحكم هـو الذي يمنع وقوع الفساد والظلم، والحاكم هـو الذي يفصل ويقضي في المظالم والخصومات، والحكيم هـو الذي لا يدخل في تدبيره وأفعاله وأقواله خلل ولا زلل، وقد اجتمعت هـذه الصفات العلية في الحق سبحانه وتعالى.

وبناء على ذلك، فإن أسماء الله تعالى المركبة من الجذر (ح.ك.م) تتضمن معنى كمال الإرادة والقدرة والإحكام في الصنع، والإتقان في الخلق، والإبداع في التكوين، والعدل والرحمة والإحسان في الفصل في المظالم [ ص: 56 ] والخصومات، مع وضع الأشياء في مواضعها على أتم وجه وأحسن حال. فمن خلال استعراضنا لبعض النصوص الشرعية من القرآن والسنة لاحظنا أن هـناك معان ودلالات جديدة لمفهوم الحكم أضافتها الأصول الشرعية واستعملتها كاصطلاحات شرعية، تأسست على المعاني اللغوية المتداولة في اللسان العربي، وهذا ما يعطي دلالات واسعة لمفهوم الحاكمية بوصفه مصطلحا شرعيا له تعلق بمعاني الألوهية.

المستوى الثاني: الاصطلاحات العلمية

أولا: الحكم عند الأصوليين

يقسم الأصوليون الحكم إلى أربعة أقسام، القسم الأول في الحكم، والقسم الثاني في الحاكم، والقسم الثالث في المحكوم به، والقسم الرابع في المحكوم عليه، ثم يعرفون الحكم بأنه: خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع [79] . وهذا تعريف جمهور الأصوليين، ومعنى الاقتضاء عندهم الطلب، وينقسم إلى طلب فعل وطلب ترك، وكل منهما ينقسم إلى جازم وغير جازم، وهذا يشمل كلا من الإيجاب والندب [ ص: 57 ] والتحريم والكراهة؛ وأما التخيير فهو الإباحة، ومعناه استواء الفعل والترك؛ وأما الوضع فهو خطاب الله تعالى المتعلق بجعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا أو عزيمة أو رخصة، ويطلق عليه الحكم الوضعي. فيكون الحكم عند الأصوليين على قسمين: أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف ( الحكم التكليفي ) والآخر يرجع إلى خطاب الوضع ( الحكم الوضعي ) ، فالأول: يدخل تحته الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، والثاني: يدخل تحته السبب والشرط والمانع والصحيح والفاسد والعزيمة والرخصة . وأما المحكوم فيه: فهو فعل المكلف، وأما المحكوم عليه: فهو المكلف، والحاكم: هـو الله تعالى أو هـو الشرع بعد البعثة وبلوغ الدعوة. كما يتحدث الأصوليون عن الحكمة، والتعليل بمحل الحكم في مباحث العلة عند كلامهم عن القياس وتعليل الأحكام.

ثانيا: الحكم عند الفقهاء

يستعمل الحكم عند الفقهاء باستعمالات مختلفة حسب توظيفه في الخطاب والسياق.

أ- الأثر: قد يراد بالحكم عند الفقهاء الأثر، الذي يقتضيه خطاب الشارع كالوجوب والحرمة والإباحة، ومن ذلك قولهم: إن حكم البيع الإباحة أو الحرمة أو الكراهة، وهذا هـو الأثر المترتب على الحكم عند الأصوليين؛ لأن الحكم عندهم إما الإيجاب أو الندب أو التحريم أو الكراهة، والأثر المترتب إما الوجوب أو الندب أو الحرمة أو الكراهة [80] . [ ص: 58 ]

ب- الوصف: قد يطلق الحكم كذلك على الوصف بترتب الآثار أو عدم ترتبها، فيقال حكم البيع صحيح أو فاسد، لازم أو غير لازم، نافذ أو غير نافذ [81] .

ج- الغرض: قد يطلق الحكم كذلك على الغرض من إنشاء العقد كنقل ملكية المبيع وتملك المنفعة [82] .

كما يستعمل الفقهاء صفة «الحكمية» في مواضع متفرقة من المباحث الفقهية، فيقولون مثلا: النية الحكمية في العبادات التي تحتاج إلى نية، كالوضوء والصيام ونحو ذلك، كما يستعملون مصطلح الشخص الحكمي [83] .

ومن القواعد التي يستخدمها الفقهاء قولهم: العادة محكمة . ومعنى ذلك أن العادة يعتمد عليها لوجود أصلها في الشرع [84] . ومحكمة بتشديد الكاف أي معترفة من حكمت الرجل، بالتشديد، فوضت الحكم إليه واعترفت بما حكم به [85] . [ ص: 59 ]

ثالثا: الحكم في الفقه السياسي

ويعرف فقهاء السياسة الحكومة بأنها شكل ممارسة السلطة في المجتمعات [86] . كما يعرفونها بأنها هـيئة جماعية مكلفة بتأمين الإدارة السياسية للبلاد وتنظيم وسائل هـذه الإدارة وتحمل مسئوليتها.. والحكومة من وجهة النظر الدستورية جزء من السلطة التنفيذية [87] . والحكومة بهذا الاعتبار هـي الهيئة الحاكمة التي تتولى تنظيم شئون الدولة داخل حدودها الإقليمية، في حدود الدستور والقانون الوطني لهذه الدولة، وتمثل السلطة المهيمنة داخل الإقليم كما تمثل الدولة خارج حدود إقليمها [88] .

رابعا: الحكم في فقه القضاء الشرعي

القضاء قد يأتي بمعنى الحكم وبمعنى الحاكمية [89] . وحقيقة الحكم عند فقهاء القضاء الشرعي إنشاء إطلاق أو إلزام في مسائل الاجتهاد المتقارب فيما يقع فيه النزاع لمصالح الدنيا [90] . أو هـو إنشاء إلزام أو إطلاق، والإلزام، كما إذا حكم بلزوم الصداق أو النفقة ونحو ذلك، فالحكم بالإلزام [ ص: 60 ] هو الحكم، وأما الإلزام الحسي من الترسيم والحبس فليس بحكم؛ لأن الحاكم قد يعجز عن ذلك، وقد يكون الحكم أيضا بعدم الإلزام، وذلك إذا كان ما حكم به هـو عدم الإلزام وأن الواقعة يتعين فيها الإباحة وعدم الحجز، وأما الحكم بإطلاق فكما إذا رفعت للحاكم أرضا زال الإحياء عنها فحكم بزوال الملك فإنها تبقى مباحة لكل أحد [91] . وهو عند القانونيين القرار النهائي الذي تصدره المحكمة عندما تنتهي من النظر في الدعوى المرفوعة إليها، ويتضمن الحكم العقاب لمن أثبت عليه الجرم والتعويضات لمن أثبت له الحق [92] . أما الحكم القانوني فيعني قرار المحكمة، وقد يكون الحكم قرارا نهائيا مبنيا على البينات والأدلة المفصلة، وقد يكون الحكم غيابيا وهو الحكم الذي تقدره المحكمة في حالة عدم قدرة المدعى عليه على الدفاع عن نفسه، أو يصبح الحكم على الأقل القانون الذي يحكم قضية معينة أمام المحكمة [93] . [ ص: 61 ]

خامسا: الحكم عند المناطقة

يتحدث المناطقة عن الحكم عند حديثهم عن أنواع العلم الحادث، حيث يقسمون العلم إلى تصور وتصديق، وكل منهما إلى ضروري ونظري، أما التصور فهو حصول صورة الشيء في الذهن من غير حكم عليه بنفي أو إثبات، كإدراك الإنسان من غير الحكم عليه بشيء، وأما التصديق فهو إدراك أن النسبة واقعة أو ليست واقعة، أي الإذعان لذلك، كإدراك أن زيدا كاتب أو ليس بكاتب وهو مذهب الحكماء بخلاف الإمام الرازي، فالتصديق عنده مركب من أربعة إدراكات: إدراك المحكوم عليه، وإدراك المحكوم به، وإدراك النسبة الحكمية، التي هـي مورد الإيجاب والسلب، وإدراك أن تلك النسبة واقعة أو ليست بواقعة، أو من ثلاثة إدراكات وحكم باعتبار أن الحكم عند الإمام الرازي فعل الإدراك [94] . ومن هـنا نلاحظ أن المناطقة يستعملون الحكم بإطلاقين: الأول: إدراك أن النسبة واقعة أو ليست [ ص: 62 ] بواقعة، وهذا ما يرادف التصديق عند الحكماء، والثاني: إثبات شيء لشيء أو نفيه عنه [95] .

الخلاصة

بالنظر إلى الاصطلاحات العلمية نلاحظ أن «الحكم» وظف بمعان مختلفة عن الدلالة اللغوية والمعاني الشرعية، ولا غرابة في هـذا؛ لأن الاصطلاح العلمي هـو تواضع بين مجموعة من أهل الاختصاص على تحديد جملة من المفاهيم المعتبرة عندهم والمتداولة بينهم، ولهذا فإن المصطلح إذا لم يخرج عن معناه اللغوي فليس بمصطلح [96] . ولهذا يعرف المصطلح بأنه اللفظ الموضوع من طائفة مخصوصة بإزاء معنى مخصوص بينه وبين المعنى اللغوي مناسبة [97] . فبالنظر إلى معاني الجذر (ح.ك.م) في اللغة والشرع والاصطلاح، نلاحظ ثمة فروقا دقيقة، فاللغة لها دلالتها المتلقاة من لسان العرب، وهو الأصل المعتبر والأساس الذي يرجع إليه لمعرفة معنى اللفظ، والدلالة الشرعية هـي المتلقاة من الشرع (الكتاب والسنة) وهو إطلاق شرعي، وليس شرطا أن تبقى الدلالة الشرعية حبيسة الاستعمال اللغوي، ولكن قد يضيف الشرع معاني جديدة ويستقل بمصطلحات شرعية متميزة [ ص: 63 ] مغايرة لما ألف، ومع هـذا تجدها مؤسسة على المعنى اللغوي، وكذلك الاصطلاح العلمي قد يخرج عن المعنى اللغوي والشرعي لتواضع علمي معين، وقد يتطور ويتغير بمرور الزمان وتغير المكان وتطور الفكر وإعمال العقل، بل أن اللفظ الواحد قد تجد له معان متعددة مختلفة بتعدد واختلاف العلوم. ونجد أن مفهوم الحاكمية من هـذا القبيل، فهو مصطلح تختلف دلالاته ومعانيه باختلاف الحقول المعرفية، فقد يتعلق بأصول عقدية، أو بمعاني فقهية، أو بأمور قضائية وسياسية.

ومن خلال العرض الذي سبق بيانه يتبين التطور الدلالي للحاكمية، فهناك وضع لغوي عرفه اللسان العربي بدلالاته المعروفة والمعينة، وبمجيء الإسلام زاد الكتاب والسنة النبوية معاني أخرى لم يعرفها التداول العربي قبل مجيء الإسلام، حيث زادت الأصول الشرعية مادة غزيرة تتعلق بهذا المفهوم وصلت في البحث إلى اثني عشرة معنى، وهذا يكشف عن تطور الدلالات التي يحملها هـذا اللفظ، حيث تم الانتقال من العرف العربي إلى العرف الشرعي، ومع هـذا التداول الشرعي المتميز للمفهوم فإن الاصطلاحات العلمية في مختلف المجالات أضافت دلالات أخرى جديدة، فيلاحظ معاني أصولية وأخرى فقهية، وسياسية وقضائية ومنطقية، مما أبان عن مادة هـذا المفهوم الخصبة.. وهذا التغاير في الاستعمال والتداول عبر فترات زمنية مختلفة، كشف عن التطور التاريخي للمفهوم في المعاني العرفية والشرعية والاصطلاحية، وبناء على هـذا فإن المصطلح لا يطلق على عواهنه ويوظف بإطلاق بقدر ما أنه ينبغي ملاحظة الدقة في توظيفه وتداوله وبناء الأحكام على أساسه. [ ص: 64 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية