الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن إسمعيل بن أبي حكيم أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع امرأة من الليل تصلي فقال من هذه فقيل له هذه الحولاء بنت تويت لا تنام الليل فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت الكراهية في وجهه ثم قال إن الله تبارك وتعالى لا يمل حتى تملوا اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          260 257 - ( مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم ) القرشي مولاهم المدني ثقة روى له الشيخان ( أنه بلغه ) كذا رواه إسماعيل بلاغا ، وقد رواه القعنبي عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قال ابن عبد البر : تفرد به القعنبي في الموطأ دون بقية رواته فاقتصروا منه على طرف مختصر ، وهو متصل من طرق صحاح ثابتة من حديث مالك وغيره فأخرجه البخاري حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، والبخاري ومسلم من طريق يحيى بن سعيد القطان عن هشام عن أبيه عن عائشة ، والعقيلي من طريق الضحاك بن عثمان عن إسماعيل بن أبي حكيم عن القاسم بن محمد عن عائشة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع امرأة من الليل تصلي " أي سمع ذكر صلاتها ، فلفظ رواية القعنبي المذكورة عن عائشة قالت : " كان عندي امرأة من بني أسد فدخل علي رسول الله [ ص: 427 ] - صلى الله عليه وسلم - فقال : " من هذه ؟ " قلت : فلانة لا تنام بالليل نذكر من صلاتها ، فقال : " مه عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل حتى تملوا " ولكن تغايره رواية الزهري عن عروة عن عائشة عند مسلم أن الحولاء مرت بها وعندها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ، إذ يحتمل أن المارة امرأة غيرها من بني أسد أيضا فالقصة تعددت ، وأجاب الحافظ بأنها واحدة ، ويحمل أنها كانت أولا عند عائشة فلما دخل - صلى الله عليه وسلم - على عائشة قامت المرأة لتخرج فمرت به في حال ذهابها فسأل عنها كما في رواية حماد بن سلمة عن هشام بلفظ : " كانت عندي امرأة فلما قامت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من هذه ؟ " قلت : فلانة وهي أعبد أهل المدينة " الحديث رواه الحسن بن سفيان في مسنده ، ودل هذا على أنها لم تذكر ذلك إلا بعد خروج المرأة فلا يأتي قول ابن التين لعلها أمنت عليها الفتنة فمدحتها في وجهها .

                                                                                                          ( فقال : من هذه فقيل له ) القائل عائشة ، ففي مسلم من رواية الزهري عن عروة عن عائشة فقلت : ( هذه الحولاء ) بالحاء المهملة والمد وهو اسمها فكنت عنها بفلانة في رواية هشام وصرحت في رواية الزهري وفي هذا البلاغ باسمها واسم أبيها فقالت : ( بنت تويت ) بفوقيتين مصغر ابن حبيب بفتح المهملة ابن أسد بن عبد العزى بن قصي من رهط خديجة أم المؤمنين أسلمت وبايعت ( لا تنام الليل ) تصلي كما زاده أحمد ومسلم من رواية يحيى القطان عن هشام ، وفي مسلم من طريق الزهري ، وزعموا أنها لا تنام الليل وهذا يوافق رواية أن عائشة حكت ذلك عن غيرها ( فكره ) ذلك ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عرفت الكراهية ) بخفة الياء ( في وجهه ) قال الباجي : تعني أنه رؤي في وجهه من التقطيب وغير ذلك ما عرفت به كراهيته لما وصفت به ، ولمسلم من رواية الزهري فقال : لا تنام الليل ( ثم قال : إن الله تبارك - وتعالى - لا يمل حتى تملوا ) بفتح الميم فيهما ، قال ابن عبد البر : أي أن من مل من عمل قطع عنه جزاءه فعبر عنه بالملال لأنه بحذائه وجواب له فهو لفظ خرج على مثال لفظ ، والعرب تفعل ذلك إذا جعلوه جوابا له أو جزاء ذكروه مثل لفظه وإن كان مخالفا له في المعنى كقوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها ( سورة الشورى : الآية 40 ) و فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ( سورة البقرة : الآية 194 ) ومكروا ومكر الله ( سورة آل عمران : الآية 54 ) و إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم ( سورة البقرة : الآية 14 ، 15 ) و يكيدون كيدا وأكيد كيدا ( سورة الطارق : الآية 15 ، 16 ) .

                                                                                                          وقال الحافظ : الملال استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته وهو محال على الله - تعالى - باتفاق ، قال [ ص: 428 ] الإسماعيلي وجماعة من المحققين : إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازا كما قال تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها وأنظاره .

                                                                                                          وقال القرطبي : وجهة مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن قطع العمل ملالا عبر عن ذلك بالملال من تسمية الشيء باسم سببه .

                                                                                                          وقال الهروي : معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله فتزهد في الرغبة إليه .

                                                                                                          وقال غيره : معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم ، وهذا كله بناء على أن حتى على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم ، وجنح بعضهم إلى تأويلها فقيل : معناه لا يمل الله إذا مللتم وهو مستعمل في كلام العرب يقولون : لا أفعل كذا حتى يبيض القار وحتى يشيب الغراب .

                                                                                                          ومنه قولهم في البليغ : لا ينقطع حتى ينقطع خصومه لأنه لو انقطع لم يكن له عليهم مزية .

                                                                                                          وهذا المثال أشبه من الذي قبله لأن شيب الغراب ليس ممكنا عادة بخلاف الملل من العابد .

                                                                                                          وقال المازري : قيل حتى بمعنى الواو فالتقدير لا يمل وتملون فنفى عنه الملل وأثبته لهم ، قال : وقيل حتى بمعنى حين والأول أليق وأجرى على القواعد وأنه من باب المقابلة اللفظية ، ويؤيده ما ورد في بعض طرق حديث عائشة : " إن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل " أخرجه ابن جرير لكن في سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف .

                                                                                                          وفي بعض طرقه ما يدل على أن ذلك من قول بعض رواة الحديث .

                                                                                                          وقال ابن حبان : هذا من ألفاظ التعارف التي لا يتهيأ للمخاطب أن يعرف القصد بما يخاطب به إلا بها وهذا رأيه في جميع المتشابه .

                                                                                                          ( اكلفوا ) بسكون الكاف وفتح اللام أي خذوا وتحملوا ( من العمل ) أي عمل البر من صلاة وغيرها ( ما لكم به ) أي بالمداومة عليه ( طاقة ) قوة فمنطوقه الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة ، ومفهومه النهي عن تكلف ما لا يطاق .

                                                                                                          وقال عياض : يحتمل أن هذا خاص بصلاة الليل ، ويحتمل أنه عام في الأعمال الشرعية .

                                                                                                          وقال الحافظ : سبب وروده خاص بالصلاة لكن اللفظ عام وهو المعتبر وقد عبر بقوله أي في حديث عائشة : عليكم ، وبقوله هنا : اكلفوا ، مع أن المخاطب النساء طلبا لتعميم الحكم فغلب الذكور على الإناث انتهى .

                                                                                                          وقال الباجي : الأظهر أنه أراد به عمل البر ; لأنه ورد على سببه ، والصحيح وهو قول مالك أن اللفظ الوارد على سبب غير مقصور عليه ولأنه لفظ ورد من الشارع فوجب أن يحمل على الأعمال الشرعية ، وقد أخذ بظاهر الحديث جماعة من الأئمة فقالوا : يكره قيام جميع الليل وبه قال مالك مرة ثم رجع فقال : لا بأس به ما لم يضر بصلاة الصبح ، فإن كان يأتي وهو ناعس فلا يفعل ، وإن كان إنما يدركه كسل وفتور فلا بأس بذلك ، وكذا قال الشافعي : لا أكرهه إلا لمن خشي أن يضر بصلاة الصبح .




                                                                                                          الخدمات العلمية