الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5305 حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        ( حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل ) هو المعروف بابن علية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن يشرب من في السقاء ) زاد أحمد عن إسماعيل بهذا الإسناد والمتن " قال أيوب فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية " وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عباد بن موسى عن إسماعيل ووهم الحاكم فأخرج الحديث في " المستدرك " بزيادته والزيادة المذكورة ليست على شرط الصحيح لأن راويها لم يسم وليست موصولة ، ولكن أخرجها ابن ماجه من رواية سلمة بن وهرام عن عكرمة بنحو المرفوع ، وفي آخره " وإن رجلا قام من الليل بعد النهي إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حية " وهذا صريح في أن ذلك وقع بعد النهي ، بخلاف ما تقدم من رواية ابن أبي ذئب في أن ذلك كان سبب النهي ، ويمكن الجمع بأن يكون ذلك وقع قبل النهي فكان من أسباب النهي ، ثم وقع بعد النهي تأكيدا . وقال النووي : اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم ، كذا قال ، وفي نقل الاتفاق نظر لما سأذكره ، فقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه [ ص: 94 ] القرب وقال : لم يبلغني فيه نهي ، وبالغ ابن بطال في رد هذا القول ، واعتذر عنه ابن المنير باحتمال أنه كان لا يحمل النهي فيه على التحريم ، كذا قال مع النقل عن مالك أنه لم يبلغه فيه نهي ، فالاعتذار عنه بهذا القول أولى ، والحجة قائمة على من بلغه النهي ، قال النووي : ويؤيد كون هذا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة في ذلك . قلت : لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعله - صلى الله عليه وسلم - ، وأحاديث النهي كلها من قوله . فهي أرجح إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك ، فإن جميع ما ذكره العلماء في ذلك يقتضي أنه مأمون منه - صلى الله عليه وسلم - ، أما أولا فلعصمته ولطيب نكهته ، وأما ثانيا فلرفقه في صب الماء وبيان ذلك بسياق ما ورد في علة النهي ، فمنها ما تقدم من أنه لا يؤمن دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف السقاء فيدخل فم الشارب وهو لا يشعر ، وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء وهو يشاهد الماء يدخل فيه ثم ربطه ربطا محكما ثم لما أراد أن يشرب حله فشربه منه لا يتناوله النهي ، ومنها ما أخرجه الحاكم من حديث عائشة بسند قوي بلفظ " نهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه " وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصا بمن يشرب فيتنفس داخل الإناء أو باشر بفمه باطن السقاء ، أما من صب من القربة داخل فمه من غير مماسة فلا ، ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق به أو تبتل ثيابه ، قال ابن العربي : وواحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة ، وبمجموعها تقوى الكراهة جدا . وقال الشيخ محمد بن أبي جمرة ما ملخصه : اختلف في علة النهي فقيل : يخشى أن يكون في الوعاء حيوان أو ينصب بقوة فيشرق به أو يقطع العروق الضعيفة التي بإزاء القلب فربما كان سبب الهلاك أو بما يتعلق بفم السقاء من بخار النفس أو بما يخالط الماء من ريق الشارب فيتقذره غيره أو لأن الوعاء يفسد بذلك في العادة فيكون من إضاعة المال ، قال : والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور وفيها ما يقتضي الكراهة وفيها ما يقتضي التحريم ، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم ، وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة ، وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة لأنهم كانوا أولا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز . قلت : ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذي وصححه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت " دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشرب من في قربة معلقة " وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي وعن أم سلمة في " الشمائل " وفي مسند أحمد والطبراني والمعاني للطحاوي ، قال شيخنا في شرح الترمذي : لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسرا ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة ، وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي . قلت : ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة ، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقا بل على تلك الصورة وحدها ، وحملها على حال الضرورة جمعا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ والله أعلم . وقد سبق ابن العربي إلى نحو ما أشار إليه شيخنا فقال : يحتمل أن يكون شربه - صلى الله عليه وسلم - في حال ضرورة ، إما عند الحرب وإما عند عدم الإناء أو مع وجوده لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الإناء ، ثم قال : ويحتمل أن يكون شرب من إداوة ، والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام ، كذا قال ، والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شيء من الهوام فيها ، والضرر يحصل به ولو كان حقيرا ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 95 ]



                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية