الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2247 - مسألة : الأب يقذف ابنه ، أو أم عبيده ، أو أم ابنه قال أبو محمد رحمه الله : قد ذكرنا حكم عمر بن عبد العزيز : يحد من قذف ابنه - وأوجب الحد في ذلك : مالك ، والأوزاعي ، وأبو سليمان ، وأصحابنا . وقالت طائفة : لا حد على الأب في ذلك : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا أبو يعقوب الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : إذا افترى الأب على الابن فلا يحد .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عمن سمع الحسن يقول : ليس على الأب لابنه حد . وبه - يقول أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأصحابهم ، والحسن بن حي ، وإسحاق بن راهويه . وقال سفيان الثوري في الأب يقذف ابنه : إنهم يستحبون الدرء عنه - وقال في المرأة تزني - وهي محصنة - وتقتل ولدها : إنه يدرأ عنها الحد قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك - فنظرنا في قول من رأى أنه لا يحد الأب لابنه : فوجدناهم يقولون قال الله تعالى { وبالوالدين إحسانا } { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } قالوا : وليس من الإحسان ، ولا من البر : ضربهما بالسياط ، ولا هذا من خفض الجناح لهما من الرحمة . [ ص: 265 ] وقاسوا أيضا إسقاط الحدود في القذف عن الوالد في قذفه لولده على إسقاطهم القود عنه إن قتله - وإسقاطهم القصاص عنه لولده فيما دون النفس على إسقاطهم الحد عنه في سرقته من ماله .

                                                                                                                                                                                          وعلى إسقاطهم الحد في زناه بأم ولده قال أبو محمد رحمه الله : ما نعلم لهم غير هذا أصلا - وكل هذا لا حجة لهم فيه - على ما نبين إن شاء الله تعالى . أما وصية الله تعالى بالإحسان إلى الأبوين بأن لا يقال لهما : أف ، ولا ينهرا ، ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة : فحق لا يحيد عنه مسلم ، وليس يقتضي شيء من ذلك إسقاط الحد عنه في القذف لولده ; لأنه لا يختلف الناس في أن إماما له والد قدم إليه في قذف ، أو في سرقة أو في زنا ، أو في قود ، فإن فرضا على الولد إقامة الحد على والده في كل ذلك وأن ذلك لا يسقط عنه ما افترض الله تعالى له عليه من الإحسان ، والبر ، وأن لا ينهره ، ولا يقل له : أف ، وأن يخفض له جناح الذل من الرحمة ، وأن يشكر له ولله عز وجل - وقد قال الله عز وجل { أشداء على الكفار رحماء بينهم } وقد أمر مع ذلك بإقامة الحد على من أمرنا برحمته . وقال تعالى { وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين } الآية . ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن ذا القربى يحد في قذف ذي القربى وأن ذلك لا يضاد الإحسان المأمور به ، بل إقامة الحد على الوالدين فمن دونهما إحسان إليهما وبر بهما ; لأنه حكم الله تعالى الذي لولاه لم يجب برهما . فسقط تعلقهم بالآيات المذكورات .

                                                                                                                                                                                          وأما قياسهم إسقاط حد القذف على إسقاطهم عن الوالد حد الزنا في زناه بأمة ولده ، وعلى إسقاطهم عنه حد السرقة في سرقة مال ولده ، وعلى إسقاطهم القود عنه في قتله إياه ، وجرحه إياه في أعضائه - فهذا قياس ، والقياس كله باطل ; لأنه قياس للخطأ على الخطأ ، ونصر للباطل بالباطل ، واحتجاج منه لقول لهم فاسد ، بقول لهم آخر فاسد ، لا يتابعون عليه ، ولا أوجبه نص ، ولا إجماع ، بل الحدود والقود واجبان على الأب للولد في كل ما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 266 ] فلما سقط قولهم لتعريه عن البرهان رجعنا إلى القول الثاني ، فوجدناه صحيحا ; لأن الله تعالى قال { والذين يرمون المحصنات } الآية ، فلم يقل تعالى : إلا الوالد لولده { وما كان ربك نسيا } . فلو أن الله تعالى أراد تخصيص الأب بإسقاط الحد عنه لولده لبين ذلك ، ولما أهمله ، حتى يتفطن له من لا حجة في قوله . فصح يقينا أن الله تعالى إذ عم ولم يخص ، فإنه أراد أن يحد الوالد لولده والولد لوالده بلا شك ، ووجدناه تعالى يقول { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } فأوجب الله تعالى القيام بالقسط على الوالدين ، والأقربين كالأجنبيين ، فدخل في ذلك الحدود وغيرها - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه عمر بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب قال : لا عفو عن الحدود ، ولا عن شيء منها بعد أن تبلغ الإمام فإن إقامتها من السنة . فهذا قول صاحب لا يعرف له مخالف منهم ، وهم يعظمون مثل هذا إذا خالف تقليدهم - وقد خالفوه هاهنا ; لأن عمر بن الخطاب عم جميع الحدود ، ولم يخص قال أبو محمد رحمه الله : وكذلك اختلفوا : فيمن قذف أم ابنه ؟ فقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي ، وأصحابه : ليس للولد أن يأخذ أباه بذلك .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : له أن يأخذه بذلك وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما : فيمن قذف أم عبد له ليس له أن يأخذ عبده الحد في ذلك . وقال أبو ثور ، وأبو سليمان ، وأصحابنا : له أن يأخذه بذلك . والكلام في هاتين المسألتين كالكلام في التي قبلهما [ ص: 267 ] وقد بينا أن حد القذف : حد لله تعالى ، لا للمقذوف ، فإذ هو كذلك فأخذه واجب على كل حال - قام به من قام به من المسلمين - ; لأن الله تعالى أمر بجلد القاذف ثمانين ، لم يشترط به قائما من الناس دون غيره ، فكان تخصيص من خص بعض القائمين به دون بعض قولا في غاية الفساد ، وهو قول مخترع لهم ، ما نعلم أحدا من الصحابة - رضي الله عنهم - قال به ، ولا له حجة أصلا - لا من قرآن ، ولا من سنة .

                                                                                                                                                                                          ولا إجماع ، ولا قياس ، ولا معنى - وما كان هكذا فهو ساقط - وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد رحمه الله : والحكم عند الحنفيين في إسقاط الحد عن الجد إذا قذف ولد الولد ، كالحكم في قاذف الأبوين الأدنين . والعجب بأن الحنفيين قد فرقوا بين حكم الولد وبين حكم ولد الولد في المرتد ، فجعلوا ولد المرتد يجبر على الإسلام ولا يقتل ، وجعلوا ولد ولده لا يجبر ولا يقتل . وفرق أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، بين الأب في الميراث - وبين الجد - فمن أين وقع لهم التناقض هاهنا ؟ فسووا بين الأب والجد ، وبين الابن وابن الابن ؟ والقوم أصحاب قياس بزعمهم - وهذا تناقض لا نظير له - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية