الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2279 - مسألة : إحضار السرقة ؟ قال أبو محمد رحمه الله : قال المالكيون : من أقر بسرقة دراهم - كثيرة أو قليلة - أو غير ذلك ، فإن القطع لا يجب بذلك إلا حتى يحضر ذلك الشيء الذي أقر بسرقته ؟ قال أبو محمد رحمه الله : وهذا أيضا خطأ ; لأنه رد لما أمر الله تعالى به من قطع السارق ، ولم يشترط إحضار السرقة { وما كان ربك نسيا } لكن الواجب قطعه ولا بد ، ثم يلزمه إحضار ما سرق ليرد إلى صاحبه - إن عرف - أو ليكون في جميع مصالح المسلمين - إن لم يعرف صاحبه - فإن عدم الشيء المسروق ضمنه ، على ما نذكر بعد هذا ، إن شاء الله تعالى ؟ قال أبو محمد رحمه الله : ولا نعلم لمن خالف هذا حجة أصلا ؟ فإن تعلقوا : بما ناه عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب : أن طارقا كان جعله ثعلبة الشامي على المدينة يستخلفه ، فأتي بإنسان متهم بسرقة ، فجلده ، فلم يزل يجلده حتى اعترف بالسرقة ، فأرسل إلى ابن عمر فاستفتاه ؟ فقال ابن عمر لا تقطع - يده حتى يبرزها ؟ فهذا لا حجة لهم فيه ; لأن من أقر تحت العذاب وبالتهديد فلا قطع عليه ، وسواء أبرز السرقة أو لم يبرزها ; لأنه قد يكون أودعت عنده ، وهو يدري أنها سرقة أو لا يدري ، فلا يكون على المودع في ذلك قطع أصلا . ويحتمل قول ابن عمر هذا - أي حتى يبرز - قولته مجردة من الإقرار بالضرب ، مع أنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم قولة لابن عمر قد خالفوها بلا برهان فإن ذكروا ما روينا - بالسند المذكور - إلى ابن وهب قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، قال : كتب إلي يحيى بن سعيد يقول : من اعترف بسرقة ، ثم أتى - مع ذلك - بما يصدق اعترافه فذلك الذي تقطع يده ، ومن اعترف على تهدد وتخوف ، ثم لم يأت [ ص: 329 ] بما يصدق اعترافه ، فإن ناسا يزعمون أن يقطعوا في مثل هذا .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ربيعة ، قال : من اعترف بعد امتحان فلم يوجد ذلك عنده ، ولم يوجد ما يصدقه من عمله ، فإن اعترافه لم يكن متصلا ، ولا إقامته على الاعتراف خشية أن يكون عليه من البلاء ما قد دفع عنه من البلاء باعترافه ، فنرى أن لا يؤخذ باعترافه ، إلا أن يأتي وجه البينة والمعرفة أنه صاحب تلك السرقة ؟ وهذا لا حجة لهم فيه ; لأن من أقر بسرقة ، فلا يخلو من أن يكون أقر بلا تهديد ولا عذاب ، أو أقر بتهديد وعذاب ؟ فإن أقر بتهديد وعذاب ، فلا قطع عليه أصلا - أحضر السرقة ، أو لم يحضرها - إذ قد يدري موضعها ، أو جعلت عنده ، فلا قطع عليه ؟ وإن كان أقر بلا تهديد ولا عذاب ، فالقطع عليه - أخرج السرقة ، أو لم يخرجها - لما ذكرنا قبل .

                                                                                                                                                                                          وأما قول ربيعة " أن لا يؤخذ المكره باعتراف إلا أن يأتي وجه البينة والمعرفة أنه صاحب تلك السرقة " فقول صحيح لا شك فيه ، أنه إذا جاء ببيان يتيقن به - دون شك - أنه سرقها ، فالقطع واجب - وسواء حينئذ أقر تحت العذاب أو دون عذاب - وكذلك لو عذب أو أقر ، وجاءت بينة تشهد بأنهم رأوه يسرق لوجب قطع يده بالسرقة ، لا بإقراره ، وقد قلنا : إن إحضار الشيء المسروق ليس بيانا في أنه هو سرقه ، وإنما هو ظن ، ولا يحل قطع يد مسلم بالظن ، قال الله تعالى { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } ؟ قال أبو محمد رحمه الله : وقد روينا عن أبي بكر الصديق بحضرة عمر بن الخطاب وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - أنه قطع إلا قطع بإقرار مجرد دون إحضار السرقة ، وأن السرقة إنما وجدت عند الصائغ ، أو عنده ، وقد يمكن أن توضع في رحله بغير علمه : حدثنا حماد نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر ، وسفيان الثوري ، كلاهما عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود [ ص: 330 ] عن أبيه قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إني سرقت ، فرده ، فقال : إني سرقت ، فقال : شهدت على نفسك مرتين ، فقطعه - قال عبد الرحمن : فرأيت يده في عنقه معلقة .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : رجل شهد على نفسه مرة واحدة ؟ قال : حسبه ؟ قال أبو محمد رحمه الله : إنما أوردنا هذا لئلا يشغبوا فيما يذكرونه من إحضار السرقة بما ذكرنا عن ابن عمر ، فأوجدناهم عن علي أصح مما وجدوا لابن عمر قطعا ، بغير إحضار السرقة ، وكذلك عن عطاء - وإلا فلا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال أبو محمد رحمه الله : وقال بعض من لا يرى درء الحد عن السارق برجوعه : أنه إن أقر ثم رجع فلا قطع عليه ، لكن يغرم السرقة الذي أقر أنه سرقها منه - وهذا تناقض وخطأ ; لأنه لم يقر له بشيء إلا على وجه السرقة ؟ قلنا : فلا يخلو إقراره ذلك ضرورة من أحد وجهين ، لا ثالث لهما : إما أن يكون صادقا في أنه سرق منه ما ذكر - أو يكون كاذبا في ذلك ، فإن كان صادقا فقد عطلوا الفرض ، إذ لم ينفذوا عليه ما أمر الله تعالى به من قطع - يد السارق - وإن كان كاذبا فقد ظلموه ، إذ غرموه ما لم يجب له عنده قط ، ولا صح إقراره به ، فهم بين تعطيل الفرض ، أو ظلم في إباحة مال محرم - وكلاهما لا يحل - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية