الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2280 - مسألة : اختلاف الشهادة في ذلك ؟ قال أبو محمد رحمه الله : قال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأبو ثور : إن اختلف الشاهدان ، فقال أحدهما : سرق بقرة ، وقال الآخر : بل ثورا - أو قال أحدهما : سرق بقرة حمراء ، وقال الآخر : بل سوداء - أو قال أحدهما : سرق يوم الخميس ، وقال الآخر : بل يوم الجمعة ، فلا قطع عليه - فإن قال أحدهما : سرق بقرة حمراء ، وقال الآخر : بل سوداء فعليه القطع .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : إن قال : أحد الشاهدين : سرق يوم الخميس ، وقال الآخر : بل يوم [ ص: 331 ] الجمعة ، وقال اثنان : زنى يوم الخميس ، وقال اثنان : بل يوم الجمعة ، فقد بطل عنه حد السرقة ، وحد الزنى .

                                                                                                                                                                                          قال : فلو قال أحدهما : قذف زيدا يوم الجمعة ، وقال الآخر : قذفه يوم الخميس - أو قال أحدهما : شرب الخمر يوم الخميس ، وقال الآخر : بل يوم الجمعة ، فعليه حد القذف ، وحد الخمر . وهذا كله تخليط ، وإنما أوردناه لنري - بعون الله تعالى - من نصح نفسه ، وأراد الله تعالى به خيرا ، بطلان أقوالهم في التشبيه ، الذي هو عندهم أصل لقياسهم الباطل ، وأنه من ميزه لم يعجز أن يعارض عللهم بمثلها ، أو بأقوى منها ؟ فنقول لجميعهم : أخبرونا عمن شهد عليه شاهدان بأنه سرق بقرة حمراء ، وقال الآخر : بيضاء - وعمن شهد عليه شاهدان بأنه قذف زيدا ، وقال أحدهما : أمس ، وقال الآخر : بل اليوم - أو قال أحدهما : شرب خمرا أمس ، وقال الآخر : بل اليوم - أهذه الشهادة على سرقة واحدة ؟ أو على سرقتين مختلفتين ؟ وعلى قذف واحد ، أم على قذفين متغايرين ؟ وعلى شرب واحد ، أم على شربين مفترقين ؟ فإن قالوا : بل على سرقة واحدة ، وشرب واحد ، وقذف واحد ، كابروا العيان ; لأنه لا يشك ذو حس سليم في أن شرب يوم الخميس ليس هو شرب يوم الجمعة ، وإنما هو شرب آخر - وأن سرقة بقرة صفراء ليست هي سرقة بقرة سوداء ، وإنما هي سرقة أخرى ؟ وإن قالوا : بل هي سرقتان مختلفتان ، وشربان مختلفان ، وقذفان مختلفان متغايران ؟ قيل لهم : فأي فرق بين هذا وبين الشهادات بزنا مختلف ، أو بسرقة ثور ، أو بقرة ، أو باختلاف الشهادة في المكان - وهذا ما لا سبيل لهم منه إلى التخلص أصلا ، لا بنص قرآن ، ولا سنة صحيحة ولا إجماع ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا رأي سديد - فسقط بيقين قول من فرق بين الأحكام التي ذكرنا ، ولم يبق إلا قول من ساوى بينهما ، فراعى الاختلاف في كل ذلك ، أو لم يراع الاختلاف في شيء من ذلك ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فوجدنا من راعى الاختلاف في كل ذلك يقول : إذا [ ص: 332 ] اختلف الشاهدان في صفة المسروق ، أو في زمانه ، أو في مكانه فإنما حصل من قولهم فعلان متغايران ، فإذ ذلك كذلك ، فإنما حصل على فعل شاهد واحد ، ولا يجوز القطع بشاهد واحد - وكذلك القذف ، فلا يجوز إقامة حد قذف ، ولا حد خمر ، بشاهد واحد - فهذه حجتهم ، ما لهم حجة غيرها .

                                                                                                                                                                                          فنظرنا فيها فوجدناها لا تصح ; لأن الذي ينبغي أن يضبط في الشهادة ، ويطلب به الشاهد ، إنما هو ما لا تتم الشهادة إلا به ، والذي إن نقص لم تكن شهادة ، فهذا هو الذي إن اختلف الشاهد فيه بطلت الشهادة ; لأنها لم تتم .

                                                                                                                                                                                          وأما ما لا معنى لذكره في الشهادة ، ولا يحتاج إليه فيها ، وتتم الشهادة مع السكوت عنه ، فلا ينبغي أن يلتفت إليه - وسواء اختلف الشهود فيه ، أو لم يختلفوا ، وسواء ذكروه ، أو لم يذكروه - واختلافهم فيه كاختلافهم في قصة أخرى ليست من الشهادة في شيء ، ولا فرق ، فلما وجب هذا كان ذكر اللون في الشهادة لا معنى له ، وكان أيضا ذكر الوقت في الشهادة في الزنا وفي السرقة ، وفي القذف ، وفي الخمر لا معنى له - وكان أيضا ذكر المكان في كل ذلك لا معنى له ، فكان اختلافهم في كل ذلك كاتفاقهم ، كسكوتهم ، ولا فرق ; لأن الشهادة في كل ذلك تامة دون ذكر شيء من ذلك ، وإنما حكم الشهادة ؟ وحسب الشهود أن يقولوا : إنه زنى بامرأة أجنبية نعرفها ، أولج ذكره في قبلها ، رأينا ذلك فقط ، وما نبالي قالوا : إنها سوداء ، أو بيضاء ، أو زرقاء أو كحلاء مكرهة ، أو طائعة ، أمس ، أو اليوم ، أو منذ سنة بمصر ، أو ببغداد .

                                                                                                                                                                                          وكذلك - لو اختلفوا في لون ثوبه حينئذ ، أو لون عمامته .

                                                                                                                                                                                          وكذلك - حسبهم أن يقولوا : سرق رأسا من البقر مختفيا بأخذه ، ولا عليهما أن يقولا : أقرن ، أو أعضب ، أو أبتر ، أو وافي الذنب أبيض أو أسود - وهكذا في القذف ، وشرب الخمر ، ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          فصح أن الشهادة في كل ذلك تامة مع اختلاف الشهود ، وما لا يحتاج إلى ذكره في الشهادة ، إذا اقتضت شهادتهم وجود الزنا منه ، أو وجود السرقة ، أو وجود القذف منه ، أو وجود شرب الخمر منه فقط ; لأنهم قد اتفقوا في ذلك . [ ص: 333 ]

                                                                                                                                                                                          وهذا هو الموجب للحد ، فإنما أوجب الله تعالى الحد في كل ذلك بوقوع الزنا ، ووجوب السرقة ، أو القذف ، وأثبت الأربعة الزنا فقد وجب الحد في ذلك بنص القرآن ، والسنة ولم يقل الله تعالى قط ، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم لا تقبلوا الشهادة حتى يشهدوا على زنا واحد ، في وقت واحد ، في مكان واحد ، وعلى سرقة واحدة لشيء واحد في وقت واحد ، في مكان واحد { وما كان ربك نسيا } .

                                                                                                                                                                                          وتالله ، لو أراد الله تعالى ذلك لما أهمله ، ولا أغفله حتى يبينه فلان وفلان ، وحاش لله من هذا . فصح أن ما اشترطوه من ذلك خطأ لا معنى له - وبالله تعالى التوفيق : فليعلموا أن قولهم : لا نعلمه عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم ولا نذكره عن تابع ، إلا شيئا ورد عن قتادة : وحدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، في رجل شهد عليه رجل أنه سرق بأرض ، وشهد عليه آخر بأنه سرق بأرض أخرى ؟ قال : لا قطع عليه .

                                                                                                                                                                                          وقد صح عن بعض التابعين ممن نعلمه أعلى من قتادة خلاف هذا : كما نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة أنا هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه ، قال : تجوز شهادة الرجل وحده في السرقة - وقد ذكرنا مثل هذا عن عبيد الله بن أبي بكرة - وإن كنا لا نقول به - ولكن لنريهم أن تمويههم بأنها شهادة واحدة على فعل واحد : كلام فاسد - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية